فعند ذلك، أيها الملك العزيز، تقدم الشيخ الثاني، صاحب الكلبين السود، وقال: انا الآخر، أحكي لك، ما جرى لي، وقصتي تراها، أعجب وأغرب، من قصة هذا الرجل، فإذا حكيتها لك، تهبني ثلث جنايته.
قال العفريت: نعم.
فأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن حديثها، وقالت عزيزة، لأختها لُبَابَة، مثلما قالت لها، الليالي السابقة، وهل في الاعادة افادة؟
فلما كان الغد، قالت لُبَابَة: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الثاني، صاحب الكلبين، قال: أيها العفريت، يا سيد ملوك الجان، أما حكايتي وشرح قصتي، فإن هذين الكلبين، أشِقّاء لي، ونحن ثلاثة إخوة ذكور، وأنا ثالثهم، ومات والدنا، وخلف لنا، ثلاثة الاف دينار، ففتحت انا دكان، أبيع فيه واشتري، وكذلك أَخَواي، كل واحدٍ، فتح دكان.
فما مَكَثْت كثيرا، إلا وأخي الكبير، أحد هؤلاء الكلبين، باع مَتاع دكانه، بألف دينار، واشترى بضائع ومَتجَر، وسافر وغاب، وأنا يوماً في دكاني، أتى، فقلت: يفتح الله.
قال لي، وقد بكى: عند النازلة، تعرف أخاك، أخَسَّ قَدري عندك، أما بَقِيتَ تعرفني، أخي!
فحقَقْته، وإذا به شقيقي، فقمت ورحبت به، وأدخلته الى الدكان، وسألته عن حاله، فأجابني: لا تسأل، لأن المال مال، والحال حال.
فقلت له: يا أخي، أما أشرت عليك، بعدم السفر؟
فبكى وقال: أخي! إنَّ الْجَوَادَ قَدْ يَعْثُرُ (يضرب، لمن يكون الغالبُ عليه، فعلَ الجميل، ثم تكون منه، الزَّلَّة)، ولم يبق لهذا الكلام فائدة، قدر الله، عليّ هذا، ولست أملك شيئًا.
ثم، ذهبت به إلى الحمام، وألبسته حلة فاخرة، من ملابسي، وأكلت أنا وإياه، وقلت: يا أخي، إني أحسب ربح دكاني، من السنة إلى السنة، ثم أقسمه، بيني وبينك.
ثم، إني عملت حساب الدكان، فوجدت روحي، قد كسبت ألف دينار، فحمدت الله عز وجل، وفرحت غاية الفرح، وقسمت الربح بيني وبين أخي، شطرين، فأخذها وهو فرحان، وفتح له دكان، وأقمنا مع بعضنا أيام، ثم بعد ذلك، قام اخي الثاني، وهو الكلب الاخر، وباع ما كان عنده، وجمع ماله، وأراد السفر، فمنعته، فلم يمتنع، واشترى تجارة، وسافر مع الاسفار.
وتمت ليالٍ وايام، ثم إنه أتاني، كما اتى، أخاه الكبير، فبكى وقال: أخي، ها انا فقير، لم أملك الدرهم، عريان، ما عليّ القميص، ولا ينفع حَذَرٌ، من قدر.
فأخذته أيها الجِنّ، فأدخلته الحمام، والبسته من ملابسي، وكشفت عن حسابي، وبيع دكاني، وقلت له: يا أخي، قد كسبت ألف دينار، وهو بيني وبينك، وسفر، ما سافرت، ولا تغربت.
فأخذها وهو فرحان، وفتح له دكان، وقعدنا جُملة أيام، ثم، إن أخوتي، طلبوا السفر أيضًا، وأرادوا أن أسافر معهم، فلم أَرْضَ، وقلت لهم: اعتَبِرِوا السَّفَرَ، بأَوَّلِه، أي شيء، كسبتم من سفركم، حتى أكسب أنا؟
فألحوا عليّ، ولم أطعهم، بل أقمنا في دكاكيننا، نبيع ونشتري، ست سنين، وهم يعرضون عليّ السفر، كل سنة، وأنا لا أرضى، ثم وافقتهم على السفر، وقلت لهم: يا إخوتي، انا مسافر معكم، فلننظر، ما عندنا من المال.
فما كان معهم من شيء، بلّ، وكل شيء بذروا، لأنهم، كانوا معتكفين، على الاكل والشراب والملذات، فما كلمتهم، ورُبَّ كَلِمَةٍ، أفادت نعمة، ورُبَّ كَلِمَةٍ، سلبت نعمة، وعملت حساب دكاني، فوجدت معي، ستة آلاف دينار، ففرحت، وقلت: ندفن نصفها، تحت الأرض، لينفعا إذا أصابنا أمر، ويأخذ كل واحد منا، ألف دينار، ونتسبب فيها.
قالوا: نَعِمَ الرأي.
فأخذت المال، وقسمته نصفين، ودفنت ثلاثة آلاف دينار، وأما الثلاثة آلاف الأخرى، فأعطيت كل واحد منهم، ألف دينار، وجهزنا بضائع، واكترينا مركبًا، ونقلنا فيها حوائجنا، وسافرنا، على كف الرَّحْمَن، أياما وليالٍ، وليالٍ وايام.
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد، قالت: بلغني، أيها الملك العزيز، أن الشيخ الثاني، قال للجني: فسافرت، أنا وهذين الكلبين، أخواي، في البحر المالح، مدة شهر كامل، إلى أن دخلنا، مدينة عظيمة، وبعنا بضائعنا، فربحنا في الدينار، عشرة دنانير، وتسوقنا، بضائع غيرها.
ثم، أردنا السفر، فوجدنا على ساحل البحر، جارية، لها خِلقة، شِعْرِيّة، فقبلت يديّ، وقالت: يا سيدي، أتقبل الحسنة (التصرف، المستحق، ثواب الله تعالى، في الآخرة)، أجازيك عليها، أَوَتَعْمَل المعروف، إلى أن قَدَّرَ الرَّحْمَن، ما.
فقلت لها: قيل للِشَّقِيِّ، هلم إلى السعادة، فقال حسبي ما أنا فيه. دعي عنك، ولا تجازيني، أنَا ابْنُ جَلاَ (الأَمْر الشَّرِيف)، وإن عندي، الإحسان والمعروف، ولو لم تجازيني.
فقالت: تزوج بي، بالمعروف، وخذني معك، إلى بلادك، فإني، قد وهبت نفسي لك، وأبقى زوجتك، وحِسْنُ عَمَل، وقَصْرُ أَمَل، وصُنعة حسنة، أجازيك عوضها، ولا يغرنك حالي.
فلما سمعت كلامها، حَنَّ قلبي إليها، لما يريد الله به، فأخذتها إلى المركب، وفرشت لها، واقتربت وأكرمتها، وسافرنا، اياما وليال، وليالٍ وأيام، وقد أحبها قلبي، وسفَر (وضح وانكشف):
يا زوج عش بالحب في جنة
ما الحب إلا جنة عاجلة
اخرج من الوحدة لا ترضها
واحذر زواج المرأة الجاهلة
ما أضيق الدنيا على رحبها
إذا خلت من زوجة فاضلة
إذا لم نحمهن فلا بقينا
لشيء بعدهن ولا حيينا
فغاروا مني، وحسدوني على ما أنا فيه، واِشْرَأَبَّت عيونهم، إلى مالي، اخوتي، هذين الكلبين، فتحدثوا في قتلي، وقالوا: نقتل أخانا، ويصير المال، جميعه لنا.
وزين لهم الشيطان، قتلي، فيَخْلُونَ ليلة نائمين، أنا بجانب زوجتي، وحملونا، ورمونا في البحر، وفي الحال، لما استيقظت زوجتي، انتفضت، فصارت جنية عفريتة، وحملتني، وخَرَجَتْ بي من البحر، الى جزيرة، ولما أصبح الله، بالصباح، قالت لي: أنا زوجتك، التي حملتك وأنجيتك، من القتل، بإذن الله تعالى، واعلم، إني جنية، جئتك، بالذي نَظَرْتَنِي به، وإني من أهل بسم الله، مؤمنة، بالله ورسوله، رأيتك، على جانب البحر، فأحبك قلبي، وابدعت لك، بإذن الله محبتي، فقبلتني، وها قد خلصتك من الغرق، وقد غضبت على إخوتك، ولا بد، أن أقتلهم.
فلما سمعت كلامها، تعجبت من عملها، وشكرتها على فعلها، وقلت لها: أنْفُكَ مِنْكَ، وَإِنْ كانَ أذَنَّ (الَّذنِين: ما يسيل من الأنف، من المُخَاط)، فأما هلاك إخوتي، فلا ينبغي.
ثم، إني حكيت لها، ما جرى لي معهم، من أول الزمان، إلى آخره، فلما علمت، قصتي معهم، غضبت، وقالت: إنَّ مَنْ لا يَعْرِفُ الوَحْيَ، أحْمَقُ (يضرب، لمن لا يَعْرف الإيماء والتعريضَ، حتى يجاهر، بما يراد إليه)، وإنَّ الهَوَان، لِلَّئيمِ، مَرْأمَة (المَرْأَمة: الرِّئْمَانُ، وهما الرأفة والعطف، يعني، إذا أكرمْتَ اللئيم، استخفَّ بك، وإذا أهنته، فكأنك أكرمته)، أنا الساعة أطير، أغرق مركبهم، وأهلكهم، عن آخرهم.
فقلت لها: بالله لا تفعلي، فيا محسنًا لمن أساء، كفى المسيء فعله، وهم إخوتي على كل حال.
قالت: لا بد من قتلهم.
فاستعطفتها، وهدئت من غضبها، ثم إنها حملتني، وطارت بي، فوضعتني على سطح داري، فنزلت، وفتحت الأبواب، وأخرجت، الذي خبأته تحت الأرض، وفتحت دكاني، بعد أن سلمت على أهل السوق، واشتريت بضائع.
فلما كان الليل، دخلت داري، فوجدت هذين الكلبين، مربوطين فيها، فلما رأياني، قاما إليّ، وبكيا وتعلقا بي، فلم أشعر إلا وزوجتي، قالت: هؤلاء إخوتك.
فقلت: من فعل بهم هذا الفعل؟
قالت: أنا أرسلت إلى أختي، ففعلت بهم ذلك، وما يتخلصون، إلا بعد عشر سنوات.
ثم، إنها فارقتني، ودلتني على موضعها، فأنا سائر إليها، تخلصهم، بعد إقامتهم عشر سنوات، وقد مضوا، فوجدت هذا التاجر، وهذا الشيخ، صاحب الغزالة، فأخبروني بما جرى، فقلت: أنظر ما يجري، وهذه حكايتي، اما هي عجيبة؟
قال الجني: إنها حكاية عجيبة، وقد وهبت لك، ثلث دمه، في جنايته.