قال صاحب الغزالة: إعلم أيها العفريت، إن هذه الغزالة، هي إبنة عمي، ولحمي ودمي، وهي زوجتي من صغري، وكانت إبنة عشر سنين، وما بلغت إلا عندي، وأقمت معها نحو ثلاثين سنة، فلم أرزق منها بولد قط، لا ذكراً، ولا أُنثى، ولا حبلت قط.
وفي كل هذا المدة، وأنا أحسن اليها، وأخدمها، وأكرمها، فأخذت لي سُّرِّيَّةُ (الجاريةُ المملوكَةُ)، فرزقت منها، ولداً ذكرا، كان فلقة قمر، كأنه البدر إذا بدا، فغارت ابنة عمي منها، ومن ابنها.
وكبر ولدي، شيئًا فشيئًا، إلى أن صار، ابن خمس عشر سنة، وحان لي سفر، فسافرت، ووصيت ابنة عمي هذه، في ولدي والسرية، وأكدت عليها بالوصية، وغبت عنهم مدة سنة.
فقامت هذه، إبنة عمي، وتعلمت الكهانة، والسحر في غيبتي، وأخذت ولدي، وسحرته عجلاً، ودعت بالراعي الذي لي، وأعطته إياه، وقالت له، اِرْعَ هذا مع البقر، فتسلمه الراعي، وأقام عنده مدة، وثم، سحرت أمه بقرة، وسلمتها أيضاً، إلى الراعي.
ثم جئت أنا، بعد مدة من السفر، فسألت عن زوجتي وولدي، إبنة عمي، فقالت: جاريتك ماتت، وابنك هرب، ولم أعلم أين ذهب، ولم اسمع له خبراً.
فلما سمعت كلامها، احترق قلبي على ولدي، وحزنت على زوجتي، وقلت:
أَلاّ إِنَّ عَيني بِالبُكاءِ تُهلِلُ
جُزوعَ (فهو جَزِع) صَبورٍ كُل ذَلِكَ تَفعَلُ
فَإِن تَعتَريني بِالنَهارِ كَآبَةٌ
فَلَيلي إِذا أَمسى أَمر وَأَطوَلُ
وإنّـمـــا أولادُنـــا بيننـــا
أكـــبادُنـا تمشـــي علـــى الأرضِ
لو هَبّــتِ الريحُ على بعضهـم
لامتنـعتْ عيـني من الغَمْـضِ
أمريضٌ لم تُعَد
أم عدُوٌّ ختَلَك (خدعه عن غفلة)
والمنايا رصدٌ
للفتى حيثُ سلَك
كلُّ شيءٍ قاتلٌ
حينَ تلقى أجلَك
إنَّ أمراً فادِحاً
عن جوابي شغَلَك
سأُعَزّي النفسَ إذ
لَم تُجِب من سَأَلَك
ليتَ قلبي ساعةً
صبرهُ عنكَ ملَك
ليتَ نفسي قُدِّمَت
للمَنايا بدَلَك
بكيتك يا بني بدمع عيني
فما أغنى البكاءُ عليك شيّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ
وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا
كُلُّ شَيءٍ مَصيرُهُ لِلزَوالِ
غَيرَ رَبّي وَصالِحِ الأَعمالِ
وَتَرى الناسَ يَنظُرونَ جَميعاً
لَيسَ فيهِم لِذاكَ بَعضُ اِحتِيالِ
وأتى عيد الله الكبير، وارسلت الى الراعي، وأمرته، أن يحضر لي بقرة سمينة، لكي أضحي بها.
فأتى ببقرة سمينة، وهي زوجتي المسحورة، فلما ربطتها، وأخذت السكين بيدي، وتهيأت لذبحها، صاحت وبكت بكاء شديدًا، وسالت دموعها على خديها، فتعجبت، واخذتني الرأفة، ووقفت عنها، وقلت للراعي: آتني بغيرها.
فصاحت إبنة عمي: إذبحها، فما عنده أحسن، ولا أسمن منها، ودعنا نأكل لحمها.
فتقدمت إليها لأذبحها، فبكت، وصاحت: أنبو أنبو، فوقفت عنها، وقلت للراعي: إذبحها أنت عني.
فذبحها الراعي، وسلخها، فلم يجد بها لحماً ولا شحما، غير الجلد والعظم، فندمت انا على ذبحها، حيث لا ينفعني الندم، وقلت للراعي: خذها كلها، أو تصدق بها، الى أي من شئت، وأبصر لي بين البقر، عجل سمين.
فأخذها الراعي وغاب، ولم أعلم، ماذا صنع بها، ثم أتاني بولدي، ومهجة كبدي، في صورة عجل سمين، فلما رآني ولدي، قطع حبله، وجاءني وتمرغ علي، وولول وبكى، فتعجبت من ذلك، وأخذتني الرأفة، والرحمة، والحُنُوّ، وحنّ الدم على الدم، بالسر الرباني، وخفقت احشائي، لما نظرت دموع العجل ولدي، سائلة على خديه، وهو قد حفر في الأرض، فتركته، وقلت للراعي: دع هذا العجل بين الغنم، وأحسن اليه، وائتني بغيره.
فصاحت بنت عمي، وقالت: ما تذبح الا هذا العجل.
فاغتظت، وقلت لها: انا سمعت منك، في ذبح البقرة، وما انتفعنا منها بشيء، فلا اسمع منك، في ذبح هذا العجل، فاني عتقته من الذبح.
فألحت علي، وقالت: لا بد من ذبح هذا العجل، ثم، إنها اخذت السكين، وكتفت العجل.
وأدرك لُبَابَة الصباح، وسكتت عن الحديث، فقالت عزيزة، لأختها لُبَابَة: يا أختي، ما اطيب حديثك، وأغربه.
فقالت لها لُبَابَة: وأين هذا، مما أحدثكم به، الليلة القادمة، إن عشت وأبقاني سيدنا الملك، وهو أغرب، وألذ، وأطرب بكثير، مما حكيت الليالي السابقة.
وقد كان الملك، اشتعلت شهوته، لاستماع حديثها، ولإدراك تمام القصة، ثم إنه خرج الى ملكه، ودولته، وحكم إلى الليل، فدخل قصره وفراشه، وقالت عزيزة، لأختها لُبَابَة: يا أختي، حدثينا من أحاديثك الحسان، تنقطع، سهرة ليلتنا هذه.
قالت لُبَابَة: حباً وكرامة.
قالت عزيزة: لكن يا أختي، لا تفعلي، إلا إن أذن ملكنا، أطال الله بقائه.
فقال الملك: حدثي.
قالت لُبَابَة: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن الشيخ، صاحب الغزالة، يقول للجن: فأخذت السكين من يدها، فأردت أن أذبح ولدي، فصاح وبكى، ومرغ بوجهه على قدمي، واخرج لسانه، يشير به الي، فرجف فؤادي، وأطلقته، وقلت لزوجتي، إني أعتقت هذا العجل، توصي به، وأرضيتها حتى ذبحت غيره، ووعدتها بذبحه، الموسم الآتي.
كل ذلك، والجني يتعجب، ويا سيد ملوك الجان، النَّدَمُ تَوْبَةٌ، وكل ذلك جرى، وابنة عمي، تنظر وترى، وأخذه الراعي، وتوجه به، ثم بتنا تلك الليلة، فلما أصبح الصباح، وبنوره لاح، إذا بالراعي أقبل، سراً من زوجتي، وقال: يا مولاي، إني أخبرك شيئًا، تُسَرُّ به!
قلت: أخبرني.
قال الراعي: أيها التاجر، إن لي ابنةً، قد تعلمت صنعة الكهانة، والعزائم (هي ما يستعان به من كلام، لشفاء مريض، أو شفاء من أصابته عين، أو لطرد الأرواح الشريرة، وغير ذلك) والاقسام، في صغرها، من امرأة عجوز، كانت عندنا، ولما كان بالأمس، وأعطيتني العجل، ودخلت به إلى الدار، فنظرت إليه ابنتي، وبكت، ثم إنها ضحكت.
فقلت لها: ما هو سبب ضحكك، ولماذا بكيت؟
فقالت لي: إن هذا العجل، هو ابن سيدي التاجر، صاحب المواش، وهو مسحور، سحرته زوجة أبيه، وهذا ضحكي، وأما بكائي، فلأجل والدته، التي ذبحها ابوه.
فتعجبت من ذلك، غاية العجب، وما صدقت، الى أن أتى الفجر، حتى جئت إليك، لأعلمك.
فلما سمعت، أيها العفريت كلامه، غَشِيتُ، وصرخت، ثم أفقت، وخرجت معه، وأنا سكران من غير مُدام (الخَمْر)، من كثرة الفرح والسرور، الذي حصل لي، إلى أن أتيت إلى داره، فدخلت على ولدي، وارتميت عليه، وصرت اقبله وابكي.
ثم إن العجل، تمرغ علي، وذرفت عيونه الدموع، على خديه، واخرج لسانه، كأنه يشير الي، لكي أبصر كيف حاله، فالتفتت الى ابنة الراعي، وقلت لها: أيها الصبية، هل تقدري أن تخلصيه، ولك ما ملكته يديّ، من المواش، ومن المال؟
فتبسمت لي وقالت: يا مولاي، ما لي رغبة في مالك، ولا في مواشيك، ولكن بشرطين، الأول، ان تزوجني به، والآخر، ان اسحر من سحرته، وإلا فلست آمن مكرها وشرها.
فلما سمعت أيها الجني، كلام إبنة الراعي، قلت: نعم وزيادة، المال لك، ولولدي، وأما ابنة عمي، التي فعلت بولدي هذه الأفعال، وأمرتني حتى ذبحت أمه، زوجتي، أقدمها لك حلال، تفعلي بها ما تريدين.
فلما سمعت إبنة الراعي كلامي، أخذت طاسة، وملأتها ماء، ثم إنها عزمت (عزم الراقي: قرأ العزائم) عليها، وقالت لولدي: يا ايها العجل، ان كنت خِلقة القادر القاهر، فدم على هذه الصفة، ولا تتغير، فلا تتغير، وان كنت مسحورا ومغدورا، فاخرج من هذه الصورة، الى صورتك الآدَميَّة، بإذن خالق البَرايا، ورشته بطاسة الماء، وإذا به انتفض، وصار إنسانًا.
فما تمهلت، فوقعت عليه، وقلت له: بالله عليك، احك لي، جميع ما صنعت بك وبأمك، بنت عمي.
فحكى لي، جميع ما جرى لهما، فقلت: يا ولدي، قد قيض الله لك، من خلصك، وخلص حقك، وحق والدتك، وحقي.
ثم، إني أيها الجني، زوجته ابنة الراعي، وكانت كالبدر، وهي شاطرة عالمة خبيرة، قرأت الاشعار، وعلمت الكهانة والسحر، وسحرت إبنة عمي، بصورة غزالة، وقالت لي: سحرتها بصورة جميلة، حتى لا تستشأم برؤيتها.
ثم، إنها اقامت عندنا، شهوراً وسنيناً، وسافر ولدي الى هذا البلد، فخرجت، أبصر خبر ولدي، واخذت معي، ابنة عمي، فانتهيت هنا، وجلست لأنظر ما يكون، وهذا حديثي، اما هو حديث، عجيب غريب؟
فقال الجني: هذا حديث عجيب، وقد وهبت لك، ثلث دمه.