وفي الغد، قالت لُبَابَة: بلغني أيها الملك السعيد، أن زبيدة، قالت عجِّلوا، وإذا بباب قد فُتِح، وخرج منه سبعة عبيد، وبأيديهم سيوف مسلولة، فقالت زبيدة: كتِّفوا هؤلاء، الكثير كلامهم،
وزنِ الكلامَ إِذا نطقَتَ ولا تكنْ
ثرثارةً في كلِ نادٍ تخطبُ
واحفظْ لسانكَ واحترزْ مِن لفظِهِ
فالمرءُ يسلمُ باللِّسانِ ويَعْطبُ
واربطوا، بعضهم ببعض.
وفي لحظة، كتف العبيد، الضيوف السبعة وربطوهم، بعضهم ببعض، وأنزلوهم الى وسط القاعة، ووقف كل عبد، على رأس واحد منهم، والسيف بيده، وقالوا: أيتها السيدة الرفيعة، إئذني لنا، في ضرب رقابهم.
قالت زبيدة: من الواجِب أن نسألهم أولا، قبل ضرب رقابهم.
سيدتي! بكى الحمال المرعوب: لا تقتليني، بذنب غيري، أنا بريء، وهم وحدهم، دخلوا في الذنب. واهٍ! تابع الحمال وهو يبكي، لقد كانت ليلتنا، مُتَنَاغِمة بَهيّة! ما سلمنا من هؤلاء الغرباء، ذوو العين الواحدة، هم سبب هذه البَلِيَّة! الذين، لو دخلوا مدينة، خربت، وافشلت، وافتتنت، واهٍ
بِحُرْمَةِ الْوُدِّ الَّذِي بَيْنَنَا
لَا تَقْتُلِ الْأَوَّلَ بِالْآخِرِ
فلما فرغ الحمال من كلامه، وعلى الرغم من غضبها، ضحكت زبيدة، واقبلت على الآخرين: أَجِيبُوني، وأخبروني من أنتم، ولا أستطيع أن أصدق، أنكم رجال شرفاء، أو عزيزين في أنفسكم، أو أكابر قومكم، ولا أنتم اصحاب امر ونهي، والا ما كنتم تجرئتم علينا، ولكنتم أوليتم، مزيدا من الاهتمام لمطلبنا، ومزيدا من الاحترام، لنا، أَجِيبُوني! فما بقي، غير ساعة، من أعماركم.
قال جعفر: من بعض ما نستحق، و
لسانُكَ لا تذكرْ به عَورَة امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنَّاسِ أَعْيُنُ
وَعَينُكَ إِنْ أَبْدَت إِليكَ مَعَايِبَاً
فَصُنْها وقُلْ يَا عَينُ للنّاسِ أَعْيُنُ
ثم، إن الصبية، خاطبت الغرباء، وفَطِنت، أنهم الثلاثة، بعين واحدة: هل أنتم إخوة؟
قالوا لها: لا.
قالت لواحد منهم: هل أنت وُلِدت أعور؟
قال: لا، وإنما قد جرى لي جازف عجيب.
فسألت الثاني والثالث، فقالا لها، مثل الأول، ثم قالوا: إنَّ كلَّ واحد مِنَّا من بلد، وإن حديثنا عجيب، وأمرنا غريب.
فالتفت زبيدة إلى العبيد، وطلبت منهم، إطلاق سراح السجناء، والبقاء في الغرفة، وقالت: كلّ من يروي مغامرته، ويوضح الدوافع، التي أوصلته إلى هذا البيت، لن يتعرض لأي أذى، ويكون، له الإذن بالذهاب، إلى حيث يحلو له، ومن أَبَى، فلن يسلم.
فأوَّلُ مَن تقدَّمَ، الحمَّالُ، فقال: يا سيدتي، أنا رجل حمَّال، حملتني ذات النعال المنسوجة، والعصائب المرصعة، أمينة، من دكان الى دكان، وأتت بي إلى هنا، وجرى لي معكن ما جرى، ومَا كُلُّ نُطْقٍ لَهُ جَوَاب، وما هذا إلا مثل الملك والغزالة.
قالت زبيدة: وما حكاية الملك والغزالة؟
قال الحمال: ذُكِر، أنه كان ملك من ملوك الفرس، يحب الفرجة، والتنزُّه والصيد والقنص، وكان له باز ربَّاه، لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ويبيت طول الليل، حامله على يده، وإذا طلع إلى الصيد، يأخذه معه.
فبينما الملك جالس ذات يوم، وإذا بالوكيل على طير الصيد يقول: يا ملك الزمان، هذا أوان الخروج، إلى الصيد.
فاستعد الملك للخروج، وأخذ البازي على يده، وساروا، إلى أن وصلوا إلى وادٍ، ونصبوا شبكةَ الصيد.
وإذا بغزالة وقعت في تلك الشبكة، فقال الملك: كلُّ مَن فاتت الغزالة من جهته، قتلتُه.
فضيَّقوا عليها حلقةَ الصيد، وإذا بالغزالة، أقبلت على الملك، وشَبَّت على رجلَيْها، وحطت يديها على صدرها، كأنها، تُقَبِّلُ الأرضَ للملك، فطأطأ الملك للغزالة، ففرَّت من فوق دماغه، وراحت إلى البر، فالتفت الملك إلى العسكر، فرآهم يتغامزون عليه، فقال: يا وزير، ماذا يقول العساكر؟
قال الوزير: يقولون، إنك قلتَ، كل مَن فاتت الغزالة من جهته، يُقتَل.
قال الملك: لأتبعنها، حتى آتي بها.
ثم، طلع الملك، في إثر الغزالة، ولم يزل وراءها، وصار البازي يلطشها على عينيها، إلى أن أعماها ودوَّخها، فسحب الملك دبوسًا، وضربها فقلبها، ونزل، فذبحها وسلخها، وعلَّقها في حِنْوُ (قسمه المقوس المرتفع) السرج.
وكانت ساعة حَرٍّ، وكان المكان قفرًا، لا يوجد فيه ماء، فعطش الملك، وعطش الحصان، فالتفت الملك، فرأى شجرةً، ينزل منها ماء، فأخذ طاسة، وملأها من ذلك الماء، ووضع الماء أمامه، وإذا بالبازي، لطش الطاسة، فقلبها، فأخذ الملك، الطاسة ثانيًا، وملأها، وظن، أن البازي عطشان، فوضعها أمامه، فلطشها البازي ثانيًا، وقلبها، فغضب الملك من البازي، وأخذ الطاسةَ ثالثًا، وقدَّمها للحصان، فقلبها البازي بجناحه، فقال الملك: يا أشأم الطيور، حرمتني من الشرب، وحرمت نفسك، وحرمت الحصان.
ثم ضرب الملك، البازي بالسيف، فرمى أجنحته، فصار البازي يقيم رأسه، ويقول بالإشارة: انظر، الذي فوق الشجرة.
فرفع الملك عينه، فرأى فوق الشجرة، حية، والذي يسيل سمها، فندم الملك، على قصِّ أجنحة البازي، ثم قام، وركب حصانه، وسار ومعه الغزالة، حتى وصل إلى مكانه الأول، فألقى الغزالة إلى الطبَّاخ، وقال: خذها واطبخها.
ثم، جلس الملك على الكرسي، والبازي على يده، فشهق البازي ومات، فصاح الملك حزنًا:
قَدْ أَفْلَحَ السَّاكِتُ الصَّمُوتُ
كَلامُ راعي الكَلامِ قُوْتُ
مَا كُلُّ نُطْقٍ لَهُ جَوَابٌ
جَوَابُ مَا تَكْرَهُ السُّكُوتُ
قالت زبيدة: قم، ورُحْ.
أتوسل إليك، رد الحمال، السماح لي، بالبقاء، لفترة أطول، سيكون من الظلم، ألا أسمع، مغامرة هؤلاء الرجال، بعد أن كان من دواعي سرورهم، سماع، حكايتي.
قائلا هذا، أخذ الحمال مكانه، في نهاية الأريكة، مسرورًا، بأن يجد نفسه، طليقاَ، وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت، عن الحديث المباح.