وفي الغد، قالت لُبَابَة: ثم، إن الملك، أرسل إلى الحكيم، فحضر وهو فرحان، لما أولاه الملك، من النعم والأموال، فلما حضر الحكيم، قال له الملك: اتدرى أيها الحكيم، لما احضرتك؟
قال الحكيم: لا أيها الملك.
قال الملك: أحضرتك لأقتلك، وأعدمك روحك.
فتعجَّبَ الحكيم، وقال: أيها الملك، لماذا تقتلني؟ وبأي ذنب، بَدَا مني؟
قال الملك: قد قيل، إنك جاسوس، وقد أتيتَ لتقتلني، وها أنا أقتلك، قبل أن تقتلني.
ثم، إن الملك، صاح على السياف، وقال له: اضرب رقبة هذا الغدار، وأَرِحْنا من شرِّه.
فلما سمع الحكيم، هذا الكلام، علم، أنه قد حسد، لقربه من الملك، وكذبوا، حتى يقتل، وعلم، أن الملك، قليل المعرفة والرأي، وندم، حيث لا ينفعه الندم، وقال: لا حول ولا قوة، الا بالله، العلي العظيم، أنا عملت خيرا، وجازوني، بالقبيح.
هذا، والملك قد صاح على السياف، لضرب رقبته، وقال الحكيم: أَبْقِني، يُبْقِيك الله، ولا تقتلني، يقتلك الله.
ثم، إنه كرَّرَ عليه القول، مثل ما قلت لك، أيها العفريت، وأنت لا تدعني، بل تريد قتلي، فقال الملك فامان: إني لا آمن، إلا إن قتلتك، فإنك أبرأتني، بشيء أمسكته بيدي، فلا آمن أن تقتلني، بشيء أشمه، أو غير ذلك.
قال الحكيم رَويَان: أيها الملك، أهذا جزائي منك، تقابل المليح بالقبيح؟!
قال الملك: لا تطل، فلا بد من قتلك اليوم، من غير مهلة.
فلما تحقَّقَ الحكيم، أن الملك، قاتِلُه لا محالةَ، لام نفسه، وانشد:
نَصَحْتُ فَلَمْ أُفْلِحْ وَغَشُّوا فَأَفْلَحُوا
فَأَوْقَعَنِي نُصْحِي بِدَارِ هَوَانِ
لكلِّ داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ به
إلاَّ الحماقةَ أعْيَتْ من يداويها
أُداويهم إلاَّ من اللُّؤم إنَّه
ليُعيي علاجَ الحاذق الفطن الطِّبِّ
وبعد ذلك، تقدَّم السيَّافُ، وغمَّى عينَيْه، وشهر سيفه، وقال: ائذَنْ، والحكيم يبكي، ويقول للملك: أبقني، يُبْقِك الله، ولا تقتلني، يقتلك الله، أيكون هذا جزائي منك، فتجازيني، مجازاة التمساح؟!
قال الملك: وما حكاية التمساح؟
قال الحكيم: لا يمكنني أن أقولها، وأنا في هذه الحال، فبالله عليك، أبقني، يُبْقِك الله، ولا تقتلني، يقتلك الله.
ثم، إن الحكيم، بكى بكاءً شديدًا، فقام بعض خواص الملك، وقال: أيها الملك، هَبْ لي، دمَ هذا الحكيم، ما رأيناه، فعَلَ معك ذنبًا، وما رأيناه، إلا أبرأك من مرضك، الذي أعيا الأطباء، والحكماء.
أجاب الملك: لم تعرفوا، سببَ قتلي لهذا الحكيم!؟ ذلك، أني إن أبقيته، فأنا هالك لا محالة، ومَن أبرأني من المرض، الذي كان بي، بشيء أمسكته بيدي، فيمكنه أن يقتلني، بشيء أشمه، فأنا أخاف أن يقتلني، ويأخذ عليَّ جعالة (ما يُجْعلُ، على عملٍ، من أَجرٍ أَو رِشْوَةٍ)، لأنه ربما كان جاسوسًا، وما جاء إلا ليقتلني، فلا بد من قتله، وبعد ذلك، آمن على نفسي.
قال الحكيم رَويَان: بالله أيها الملك، أبقني، يُبْقِك الله، ولا تقتلني، يقتلك الله.
أجاب الملك: لا بد من قتلك.
فلما تحقَّقَ الحكيم، أيها العفريت، أن الملك، قاتِلَه لا محالةَ، قال: أيها الملك، إن كان ولا بد من قتلي، فأمهلني، حتى أنزل داري، أخلِّص نفسي، أوصي أهلي، أهِبُ كتبي، وعندي كتاب، خاص الخاص، أهبه لك هدية، تدَّخره في خزانتك.
قال الملك: وما سر هذا الكتاب؟
قال الحكيم: فيه شيء، لا يُحصَى، وأقل ما فيه من الأسرار، أنك إذا قطعتَ رأسي، وفتحته، وعددتَ ثلاث ورقات، ثم تقرأ ثلاثة أسطر من الصحيفة، التي على يسارك، فإن الرأس، يكلِّمك، ويجاوبك، عن جميع ما سألتَه عنه.
فتعجَّبَ الملك، غايةَ العجب، واهتزَّ من الطرب، وقال: إذا فتحت الكتاب، وقرأت ثلاثة أسطر، أكلم رأسك، ويكلمني!؟
قال الحكيم: نعم أيها الملك، وهذا أمر عجيب.
ثم، إن الملك، أرسله مع المحافظة عليه، فنزل الحكيم إلى داره، وقضى أشغاله، وفي اليوم الثاني، طلع الحكيم إلى الديوان، وطلعت الأمراء والوزراء، والحُجَّاب والنوَّاب، وأرباب الدولة جميعًا، وصار الديوان، كزهر البستان، وإذا بالحكيم دخل، ووقف أمام الملك، ومعه كتاب عتيق، ومكحلة (وعاء) فيها ذرور (مسحوق)، وجلس وقال: ائتوني بطبق.
فأتوه بطبق، وكبَّ فيه الذرور، وفرشه، وقال: أيها الملك، خذ هذا الكتاب، ولا تعمل به، حتى تقطع رأسي، فإذا قطعته، فاجعله في ذلك الطبق، وَأْمُر بكبسه على ذلك الذرور، فإذ فعلتَ ذلك، فإن دمه ينقطع، ثم، افتح الكتاب، وأسأل رأسي، فإنها تجيبك، ولا حول ولا قوة الا بالله، وبالله ابقيني، يبقيك الله، ولا تقتلني، يقتلك الله.
قال الملك: لابد من قتلك، ولما انظر، كيف تكلمني رأسك.
ثم، ان الملك، أمر بضرب رقبته، فاخذ الكتاب منه، وقام السياف، وضرب رقبته، فطاح الرأس، في وسط الطبق، وكبسها على الذرور، فانقطع دمها، ففتح الحكيم رَويَان عينيه، وقال: افتح الكتاب، ايها الملك.
ففتحه الملك، فوجده ملصوقًا، فحطَّ أصبعه في فمه، وبلَّه بريقه، وفتح أول ورقة، والثانية والثالثة، والورق ما ينفتح، إلا بجهد، ففتح الملك، ست ورقات، ونظر فيها، فلم يجد فيها كتابةً، فقال: أيها الحكيم، ما فيه شيء مكتوب.
قال الحكيم: قلِّب زيادة على ذلك.
فقَلَّبَ الملك زيادةً، فلم يكن إلا قليل من الزمن، حتى سرى السم، فإن الكتاب، كان مسمومًا، فعند ذلك، تزحزح الملك وصاح، وأنشد الحكيم:
تَحَكَّمُوا فَاسْتَطَالُوا فِي حُكُومَتِهِمْ
وَعَنْ قَلِيلٍ كَأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنِ
لَوْ أَنْصَفُوا أُنْصِفُوا لَكِنْ بَغَوْا فَبَغَى
عَلَيْهُمُ الدَّهْرُ بِالْآفَاتِ وَالْمِحَنِ
وَأَصْبَحُوا وَلِسَانُ الْحَالِ يُنْشِدُهُمْ
هَذَا بِذَاكَ فَلَا عَتْبٌ عَلَى الزَّمَنِ
فلما فرغ رَويَان الحكيم، من كلامه، سقط الملك ميتًا، من وقته، وماتت الرأس، فاعلم أيها العفريت، أن الملك فامان، لو أبقى الحكيم رَويَان، لأبقاه الله، ولكن، أَبَى وطلب قتله، فقتله الله، وأنت أيها العفريت، لو أبقيتني، لَأبقاك الله.
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث.