قد حكي، والله اعلم، وأحكم، وأعز وأكرم، وألطف وارحم، إنه كان، في ما مضى وتقدم، وسلف من الزمن، ملك من ملوك قحطان، صاحب جند واعوان، وخدم وحشم، وكان له ولدان، و كانا فارسين بطلين، و كان الكبير، قد ملك البلاد، وحكم بالعدل بين العباد، وأحبه أهل بلاده ومملكته، وكان اسمه الملك شمسان، وكان أخوه الصغير، اسمه، الملك شمر يهرعش، وكان ملك سمرقند.
ولم يزل الأمر مستقيما في بلادهما، وكل واحد منهما، في مملكته، حاكم عادل في رعيته، مدة عشرين سنة، في غاية البسط، والإنشراح، ولم يزالا على هذه الحالة، إلى ان اشتاق، الملك الكبير، إلى أخيه الصغير، فأمر وزيره، أن يسافر إليه، ويحضر به، فأجابه بالسمع والطاعة، وسافر حتى وصل بالسلامة، ودخل على أخيه، وبلغه السلام، وأعلمه ان أخاه مشتاق إليه، وقصده أن يزوره.
فأجاب شمر يهرعش بالسمع والطاعة، وتجهز للسفر، وأخرج خيامه، وجماله، وبغاله، وخدمه واعوانه، وأقام وزيره حاكماً في بلاده، وخرج طالباً بلاد أخيه، فلما كان في نصف الليل، تذكر حاجة نسيها في قصره، فرجع ودخل قصره، فوجد زوجته تنادم (نَادَمَهُ عَلَى الشَّرَابِ: جَالَسَهُ عَلَيْهِ، سَامَرَه) مغنيا، وهو يضرب بالعود. فلما رأى هذا، اسودت الدنيا في وجهه، وقال في نفسه: إذا كان هذا الامر، قد وقع، وأنا ما فارقت المدينة، فكيف حال هذه الخائنة، إذا غبت عند أخي مدة؟ ثم، إنه سل سيفه، وضرب الإثنين، فقتلهما، ورجع من وقته وساعته، وأمر بالرحيل.
وسار إلى أن وصل إلى مدينة أخيه، ففرح أخوه بقدومه، ثم خرج إليه ولاقاه، وسلم عليه، وفرح به غاية الفرح، وزين له المدينة، وجلس معه يتحدث بانشراح، فتذكر الملك شمر يهرعش، ما كان من أمر زوجته، فحصل عنده غم زائد، واصفر لونه، وضعف جسمه. فلما رآه اخوه على هذه الحال، ظن في نفسه، ان ذلك بسبب مفارقته بلاده، وملكه، فترك سبيله، ولم يسأل عن ذلك.
ثم، إنه قال شمسان، في بعض الايام: يا أخي، إني أراك، ضعف جسمك، واصفر لونك.
قال شمر يهرعش: يا أخي، إن بباطني جرح، ولم يخبره، بما رأى من زوجته.
قال شمسان: إني أريد، ان تسافر معي، إلى الصيد والقنص، لعلك ينشرح صدرك.
فأبى شمر يهرعش ذلك، فسافر أخوه وحده إلى الصيد، وكان في قصر الملك، شبابيك، تطل على بستان أخيه، فنظر، وإذا بباب القصر، قد فتح، وخرج منه، عشرون جارية، وعشرون عبداً، وامرأة اخيه تمشي بينهم، وهي بديعة الحسن والجمال، عجيبة القد والاعتدال، حتى وصلوا إلى فسقية (حوضٌ من الرُّخام ونحوه مستدير غالبًا، تمجُّ الماءَ فيه نافورة، ويكون في القصور والحدائق والميادين)، وجلسوا مع بعضهم يتنادمون ويشربون، ونحو ذلك، حتى ولى النهار، فلما رأى ذلك شمر يهرعش، قال في نفسه : والله إن بليتي، أخف من هذه البلية، وهان ما عنده من القهر والغم، وقال : هذا أعظم مما جرى لي، ولم يزل، في أكل وشرب.
وبعد هذا، جاء أخوه شمسان، من السفر، فسلما على بعضهما، ونظر الملك شمسان، إلى أخيه الملك، شمر يهرعش، وقد رد لونه، واحمر وجهه، وصار يأكل بشهية، بعدما كان قليل الأكل، فتعجب من ذلك، وقال: يا أخي، كنت أراك مصفر اللون، والوجه، والآن قد رد إليك لونك، فأخبرني بحالك.
قال شمر يهرعش: أما تغير لوني، فاذكره لك، واعف عني، من إخبارك برد لوني.
قال شمسان: أخبرني أولاً، بتغير لونك، وضعفك، حتى أسمعه.
قال شمر يهرعش: يا أخي، إعلم، أنك لما أرسلت وزيرك إلي، يطلبني للحضور بين يديك، جهزت حالي، وقد برزت من مدينتي، ثم إني تذكرت الخرزة، التي اعطيتها لك، في قصري، فوجدت زوجتي، تنادم مغنيا، فقتلتهما، وجئت إليك وانا متفكر في هذا الامر، فهذا سبب تغير لوني، وضعفي، واما رد لوني، فاعف عني، من أن أذكره لك.
فلما سمع شمسان كلامه، قال: أقسمت عليك بالله، أن تخبرني، بسبب رد لونك.
فأعاد عليه أخوه جميع ما رآه، فقال شمسان: مرادي أن أنظر بعيني.
قال شمر يهرعش: إجعل أنك مسافر للصيد والقنص، واختفي عندي، وانت تشاهد ذلك، وتحققه عياناً.
فنادى شمسان من ساعته بالسفر، فخرجت العساكر والخيام، إلى ظاهر المدينة، وخرج شمسان، ثم إنه جلس في الخيام، وقال لغلمانه: لا يدخل عليّ أحد.
ثم إنه تنكر، وخرج مختفيا، إلى القصر الذي فيه أخوه، وجلس في الشباك المطل على البستان، ساعة من الزمان، وإذا بالجواري، وسيدتهم، دخلوا مع العبيد، وفعلوا كما قال أخوه، واستمروا كذلك إلى العصر.
فلما رأى الملك شمسان ذلك الأمر، طار عقله من رأسه، وتذكر قول الشاعر:
لا تَأْمَنَنَّ إلى النساء
ولا تثق بعُهُودِهِنَّ
فَرِضَاؤُهُنَّ وسُخْطُهُنَّ
مُعَلَّقٌ بِفُرُوجِهِنَّ
يَبْدينَ وُداً كاذِباً
والغَدْرُ حَشْو ثِيابِهِنَّ
بِحَديثِ يُوسُفَ فاعْتَبِرْ
متَحَذِّراً مِنْ كَيْدِهِنَّ
أَوَمَا تَرَى إبْلِيسَ أَخْ
رَجَ آدَماً مِنْ أَجْلِهِنَّ
لا تأمننَّ من النساء ولو أخاً
ما في الرِّجالِ على النِّساءِ أَمِيْنُ
إِنَّ الأَمِيْنَ وإِنْ تَعَفَّفَ جُهْدَهُ
لا بُدَّ أَنَّ بِنَظْرَة ٍ سَيَخُونُ
القبر أوفي من وثقت بعهده
ما للنِّساءِ سِوَى القُبورِ حُصُونُ
قال شمسان لأخيه: قم بنا نسافر، على حالنا، حتى ننظر، هل جرى لأحد، مثل ما جرى لنا، وإلا، موتنا خير من حياتنا.
فأجابه أخوه لذلك، ثم، إنهما خرجا من باب سري في القصر، ولم يزالا مسافرين أيامًا وليالٍ، إلى أن وصلا إلى شجرة، في وسط مرج، عندها عين، بجانب البحر المالح، فشربا من تلك العين، وجلسا يستريحان.
فلما كان بعد ساعة، مضت من النهار، وإذا بالبحر قد هاج، وطلع منه عمود أسود، صاعد إلى السماء، وهو قاصد تلك المرجة، فلما رأيا ذلك، خافا، وطلعا إلى أعلى الشجرة، وكانت عالية، وصارا ينظران، ماذا يكون الخبر.
وإذا بجني، طويل القامة، عريض الهامة، واسع الصدر، وهو عفريت، من عفاريت سليمان عليه السلام، على رأسه صندوق، عليه أربعة قفول، طلع إلى البر، وأتى الشجرة التي هما فوقها، وجلس تحتها، فحط الصندوق، واخرج من فخذه، أربعة مفاتيح، وفتح الأقفال، وأخرج منه علبة، ثم فتحها، فخرجت منها صبية، بهية، تامة القامة، حلوة المبسم، وجهها كأنه الشمس المضيئة، فتذكر شمسان، قول بعضهم:
كفّ لَوْماً غَداً يقوي المَلُوما
ويَزيدُ الغَرامُ عِشقاً عَظِيمْا
إن أكُن عاشقاً فما آتِ إلا
ما أتَتْهُ الرِّجالُ قَبْلي قَدِيْما
إنّما يَكْثُرُ التَّعَجُّبُ مِمَّنْ
كان مِنْ فِتنَةِ النِّساءِ سَلِيماَ
فنظر اليها العفريت، وكان يحبها، فقال: يا سيدة الحرائر، يا من لا أحد آنسها غيري، يا حبيبة قلبي، أريد أن أنام قليلًا، ثم وضع الجنيّ، رأسه على حجرها، ونام، وكان شخيره، مثل الرعد.
ورفعت الصبية، رأسها إلى أعلى الشجرة، فرأت الملكين، وهما فوق تلك الشجرة، فرفعت رأس الجني، بلطافة، من فوق ركبتيها، ووضعته على الأرض، ووقفت تحت الشجرة، وقالت لهما بالإشارة، انزلا، ولا تخافا من هذا العفريت.
فقالا لها: بالله عليك، أن تسامحينا من هذا الأمر.
فقالت لهما: بالله عليكما، أن تنزلا، وإلا نبهت عليكما العفريت، فيقتلكما شر قتلة.
فخافا، ونزلا إليها، فقامت تسامرهم وتنادمهم، واخرجت لهما من جيبها كيسًا، ونكثت منه، ثمانية وتسعون خاتمًا، فقالت لهما: أتدرون ما هذه؟
فقالا لها: لا ندري!
فقالت لهما: هم خواتم، ثمانية وتسعون رجلا، سامروني، على غفلة من هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما، أنتما الاثنان الأخران.
فأعطياها، من يديهما خاتمين، فقالت: النِّسَاءُ شَقَائِقُ الأَقْوَامِ، وإن المرأة منا، كالمقادير، إذا أرادت أمرا، فلا أحد، يقدر أن يمنعها عنه، ولا يغلبها شيء.
فلما سمعا منها هذا الكلام، تعجبا غاية العجب، وقالا: يا الله، يا الله، لا حول ولا قوة الا بالله، نستعين بالله، على كيد النساء، لأن كيدهن، عظيم.
ثم قالت لهما: إذهبا، في حال سبيلكما، وقالت:
وَذَكَّرَني قَوماً حَفِظتُ عُهودَهُم
فَما عَرِفوا قَدري وَلا حَفِظوا عَهدي
أَكْثَرَ النَّاسُ في النِّسَاءِ وَقالُوا
إنَّ حُبَّ النِّسَاءِ جَهْدُ الْبَلاءِ
ليسَ حبُ النساءِ جهداً ولكنَ
قُرْبُ مَنْ لاَ تُحِبُّ جُهْدُ الْبَلاءِ
فرجع الاثنان، الى الطريق، وقالا لبعضهما: إذا كان هذا عفريتًا، وجرى له، أعظم مما جرى لنا، فهذا شيء، يسلينا.
ثم، إنهما رجعا على أعقابهما، وأمر شمسان، أن يدخلوا المدينة، فدخلوا، وطلع الى قصره، وأحضر وزيره، وأمره حالا، بقتل زوجته، والجواري والعبيد، فقتلهم الوزير كلهم، وأحضر غيرهم.
وصار الملك شمسان، لبغضه للنساء، يتزوج كل ليلة واحدة، وفي الصباح يقتلها، حتى فنيت البنات، وتباكت الأمهات، وضجت النسوان والاباء والوالدات، وصاروا يدعون على الملك بالآفات، ويشكوا الى خالق السماوات، ويستغيثوا سامع الدعوات، ومجيب الأصوات.