ثم، إنه كان لوزير الملك شمسان، الذي كان يأمره، بقتل البنات، إبنتان، الكبيرة اسمها، لُبَابَة، والصغيرة اسمها، عزيزة، وكانت الكبيرة، قد قرأت الكتب، والمصنفات، والحكمة، وكتب الطب، وحفظت الاشعار، وطالعت الاخبار، وأقوال الناس، وكلام الحكماء والملوك، وهي عارفة لبيبة، حكيمة أديبة.
ثم إنه، لُبَابَة قالت لأبيها، يوما من الأيام: يا أبتاه، اريد أن أطلعك على شيء.
قال الوزير: وما هو؟
قالت لُبَابَة: بالله يا أبتِ، اشتهي، ان تزوجني الملك شمسان، وإما، إني أكون سبب فداء لبنات المسلمين، وخلاص الخلق من القتل، او إني اموت، وأهلك كما هلك غيري ومات، وأكون بسواهم.
فلما سمع الوزير، كلام ابنته، اهتم وقال: بالله عليكِ، لا تخاطري بنفسك، أبداً.
قالت لُبَابَة: إنَّ الجبَانَ، حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ (يُشير، إلى أن الحَتْفَ إلى الجَبَان، أسرعُ منه إلى الشجاع، لأنه يأتيه، من حيث لا مَدْفَع له) مالي أراك، متغيرًا، حامل الهم والأحزان؟ لا بد من ذلك، وقد قال بعضهم:
قل لمن يحمل هماً
إن همًا لا يدوم
مثل ما يفنى السرور
هكذا تفنى الهموم
قال الوزير: يا ابنتي، إنَّ العَصا، قُرِعَتْ لِذِي الْحِلْم (المثل يضرب، لمن إذا نُبِّه، انتبه)، وإن من لم يعرف، كيف يتصرف في الأمور، وقع في المحظور، ومن لم يحسب العواقب، ما له في الدهر صاحب، وقيل، إنَّ وَرَاءَ الأكَمةِ، مَا وَرَاءَهَا (يضرب، لمن يُفْشِي على نفسه، أَمْرَاً مستوراً)، وأخشى عليك، أن يحصل لكِ، ما حصل للحمار والثور، مع التاجر.
قالت لُبَابَة: وما الذي جرى لهما يا أبتِ؟
قال الوزير: إعلمي يا ابنتي، أنه كان لبعض التجار الأغنياء، مالاً غزيراً، ورجالا، ومواش وجِمالاً، وكان له زوجة وأولاداً، وكان يسكن البر، وكان الله تعالى، أعطاه، معرفة ألسُن الحيوانات، والطير، مُمتَحَن، وكان محكوم عليه، انه إذا فسر السر الى أحد، مات، فلا يُعلِم به أحد، خوفا على نفسه، من الموت.
وكان عنده في الدار، ثور وحمار، وكل منهم، مربوط على معلف، متقاربين لبعض، وجلس التاجر يوما، بقربهم، ومعه عائلته وأولاده، يلعبون أمامه، فسمع الثور، يقول للحمار: هنيئاً مريئا لك، فيما أنت فيه من الراحة، والخدمة، والكنس (النظافة) والرش (نضح الأرض بالماء: رشها، بلها) تحتك، ولك من يخدمك، ويطعمك الشعير المُغَرْبَل (المُنْتَقَى)، والماء الرائق، وأنا المسكين، يأخذوني من نصف الليل، ويُحَرِّثوني، ويركبوا على رقبتي شياً، يقال له النير (الخشبةُ المعترضةُ فوق عُنق الثَّوْر، أَو عنقَي الثَّوْرَيْن المقرونين، لجرِّ المحراث أَو غيره) والمحراث، و أعمل طول النهار، وأشق الأرض، فاتعب ما لا أطيق، وأقاسي الضرب من الزراعة والعرقلة (مَا يَحُولُ دُونَ السَّيْرِ الطَّبِيعِيِّ)، وتَتَهَرَّى (هرَى: ضربه بعصًا ضخمة) أجنابي، وتتسلخ رقبتي، ويستعملوني من الليل الى الليل، ويطلعوني الى دار البقر، ويلقوا لي الفول بالطين، والتبن بقصلة (قَصْلَةُ الزَّرْعِ: مَا عُزِلَ مِنْهُ، إِذَا نُقِّيَ، فَيُرْمَى بِهِ، أَوْ يُدَاسُ ثَانِيَةً)، وأبات في الخَرْء والبول، طول الليل، وانت في كنس ورش و مسح، ومعلف نظيف، مَلْآن تبن، وفي النادر يحدث لصاحبنا التاجر، حاجة يركبك فيها، ويعود إلى أثره، فأنت مستريح، وأنا تعبان، وأنت نائم، وأنا سهران، وأنا جائع، وأنت شبعان.
فلما فرغ الثور من كلامه، إلتفت الحمار إليه، وقال: يا مَتْعوس، ما كذب مَسْمَّاك، أبا ثور، وانت يا أبا ثور، ما عندك ولا فكر، ولا خبث، ولا تدري النصيح (الْمُخْلِصُ في نُصْحِهِ، وَوُدِّهِ)، وتجهد روحك، وتقتل نفسك في راحة غيرك، أما سمعت المثل يقول، من عدم التوفيق (الإصلاح، سد طَرِيق الشَّرّ)، استبد الطريق، تخرج من الأذان، تقاسي العذاب والقتل والحرث.
اسمع يا ثور، لمّا يربطك الزرّاع، فاخبط، وانطح بقرونك، واضرب برجلك، وصح، وارقد ولا تقم، ولو ضربوك، فإن قمت فارقد ثانيًا، وإن رموا لك الفول، فلا تأكل منه شيا، بل اشتمَّه وتأخر، ولا تذوقه، واقنع بالتبن والقشر، وإذا فعلت ذلك، تنظر أنه أوفق لك، وأرفق لراحتك.
فلما سمع الثور، من الحمار، علم أنه ناصحا له، فشكره بلسانه، ودعا له، وقال: كفيت الأسوأ، يا ابا اليقظان.
وهذا كله يجري يا ابنتي، والتاجر سامع، وفاهم كلامهما.
ولما كان اليوم الثاني، أتى الزَرّاع إلى الثور، وأخذه، وركب عليه المحراث، واستعمله، فقصر الثور في عمله، وحرثه، وقد قبل وصية الحمار، فأخذ الزراع يضربه، فمكر الثور، وصار يقع ويقوم، حسبما علمه الحمار، الى أن اقبل الليل، فطلع به الزراع الى الدار، وربطه على المعلف، فبدَأَ الثور يضرب برجليه ويديه، ويصرخ بصوته، وتباعد عن المعلف.
فتعجب الزراع من قضيته، وأتاه بالفول والعلف، فشم الثور الفول، وتأخر، ونام بعيدا عنه، وبات يقمقم (قمقم الفقير ما على المائدة: جمعه، تتبَّع ما بقي عليها) بالتبن والقشر، إلى الصباح، فأتاه الزراع، فوجد المعلف، مَلْآن فول وتبن، ولم ينقص منه شياً، ورأى الثور راقد، ونفخ بطنه، وحبس نفسه، وشائل رجليه، فحزن عليه الزراع، وقال: والله اليوم، الثور ضعيف مقصر، وهذا سبب، انه ما قدر أمس، أن يشتغل.
ثم جاء الزراع الى التاجر، وقال: يا مولاي، إن الثور مقصر ضعيف، ولم يأكل هذه الليلة، العلف، ولا ذاق منه شياً.
وكان التاجر، قد علم بالأمر، فقال: خذ الحمار مكانه اليوم، واشدد عليه المحراث، واجتهد في استخدامه، حتى يوفي مكان الثور.
فرجع الزراع، وأخذ الحمار، فشد عليه المحراث، وخرج به الى الغَيْط (حقل)، فكان الزراع، لا يزال يضربه، حتى كاد أن يكسر أضلاعه، وتُسلَخ رقبته، فضربه وكَلِفَه (حَمَّلَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ)، حتى حرث اليوم كله، مكان الثور.
وأما الثور، فكان نهاره، مستريحا نائما يشخر، فقد أكل علفه كله، وشرب واستراح، وصار كل نهاره، يدعو للحمار، ويحمد رأيه عليه.
وأتى الليل، فطلع الزراع، بالحمار الى الدار، والحمار لا يقدر أن يحرك، لا يديه ولا رجليه، واذانه مرخيّة، فدخل به الزراع على الثور، فنهض الثور للحمار قائما، وقال: مَسَاءك الخير، يا أبا اليقظان، والله لقد صنعت معي جميلا، لا أقدر أن اصفه، جزاك الله عني خيراً، يا ابى اليقظان.
فلم يرد عليه الحمار، جوابًا، من غيظه، وندم أشد الندامة، وقال في نفسه: هذا كله جرى عليّ، من شؤم تدبيري، وكنت مقيما مستريحا بطولي، فما ضَرّنِي الا فضولي، فإن لم افعل معه حيلة، وارده الى ما كان عليه سابقاً، لهلكت.
ثم ذهب الحمار، إلى معلفه تعبان، والثور انبطح، وصار يدعو له بالخير، فانت يا ابنتي، كذلك تهلكي، بسوء تدبيرك، فاقعدي واسكني، ولا تلقي بنفسك إلى التهلكة، وانا ناصحٌ لَكِ، شافقٌ عليكِ.
فقالت لُبَابَة: يا أبتاه، إنَّما يَجْزِي الفَتى، لَيْسَ الجَملُ (أي إنما يَجْزِيك، مَنْ فيه إنسانية، لا من فيه بهيمية)، لا بد أن أتزوج، بهذا الملك.
فقال الوزير: ربما افعل بك، مثل ما فعل التاجر، بزوجته.
قالت لُبَابَة: وما فعل؟
قال الوزير: إعلَمي، أنه بعد ما جرى، للحمار والثور، ذلك المجرى، خرج التاجر، ليلة من الليالي، الى دار البقر، وكان القمر بدر، فسمع الحمار، يقول للثور بلغته: يا أبا الثور، ماذا انت صانع غداة (ما بين الفجر، وطلوع الشمس)، إذا أتاك الزرّاع بالعلف، ماذا تفعل؟
أجابه الثور: وماذا أعمل، الا الذي علمتني إياه، ولا بقيت أفارقه، وإذا أتوني بالعلف، أمكر، وأتمارض، وأرقد، وأنفخ بطني.
فحرك الحمار رأسه، وقال: لا تفعل يا أبا الثور، تعرف أيُّشيءٍ سمعت، صاحبنا التاجر، يقول للزراع؟
قال الثور: أَيّ شيء؟
قال الحمار: وَصَّى إِلَيْهِ، إن كان الثور، لا يأكل علفه، وينهض قائما، فأعطه للجزار، ليذبحه ويسلخ جلده، وأطعم لحمه للفقراء والمساكين، فطاوعني، وأنا خائف عليك، واعلم إني لك ناصح، والنصح من الايمان، فإذا أتاك العلف، كُله، وإلا يذبحوك، وقد نصحتك، والسلام.
فلما سمع الثور، كلام الحمار، شكره وقال: في غد أسرح معهم.
كل ذلك، وصاحبهما يسمع كلامهما، فلما طلع النهار، أكل الثور علفه بتمامه، حتى لحس المذود (مِذْوَدُ الدَّوَابِّ: الْمَكَانُ، الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ، عَلَفُ الدَّوَابِّ) بلسانه، وخرج التاجر وزوجته، إلى دار البقر، فجلسا، فجاء الزراع، وأخذ الثور وخرج، فلما رأى الثور صاحبه، حرك ذنبه، وسرطع (ركض ركضا شديدا، من خوف)، فضحك التاجر ضحكاً عالياً، مما رأى من الحمار والثور، حتى استلقى على قفاه.
فقالت له زوجته: من أي شيء تضحك، أتهزأ مني؟
قال التاجر: كلا.
أجابت الزوجة: لا بد أن تخبرني، ما سبب ضحكك؟
قال التاجر: ما أقدر قوله، واخاف من السوء، إذا بحتُ بهِ.
قالت زوجته: وما يمنعك، عن ان تقول، لي؟
قال التاجر: بلغني، أن أموت.
قالت زوجته: بذلك؟ والله كذبت، أنت لم تضحك إلا علي، والله حقا رب السماء، إنما هذه، حجة منك، وإن لم تقل لي، ولو كنت تموت، ما قعدت معك، ساعة واحدة، ولا بد أن تقول لي.
ثم إنها دخلت الدار، وبكت، ولم تزل تبكي، الى الصباح، فقال التاجر: ماذا يبكيكِ؟ إتقي وارجعي، واتركي سؤالك!
قالت زوجته: لا أرجع عن هذا، ثم إنها لم تزل تلح عليه، وتلج في الكلام (لجَّ في الأمر: تمادى فيه معاندًا، لازمه، وأبى أن ينصرف عنه)، إلى أن غلبت عليه، وتعب منها وتَحَيَّر (وقع في تردّد، واضطراب وشكَّ)، فأحضر أولاده، وأرسل في احضار القاضي والشهود، فقام وأَوفَى زوجته حقها، وأوصى على أولاده، وأراد أن يبوح لها بالسر، ويموت، لأنه كان يحبها محبة عظيمة، لأنها بنت عمه، وأم أولاده.
ثم، إنه أرسل وأحضر، جميع أهلها، وأهل حارته، وقال لهم حكايته، وأنه متى قال لأحد على سره، مات، فقال لها جميع الناس، ممن حضر: بالله عليك، إتركي هذا الأمر، لئلا يموت زوجك، أبو أولادك.
فقالت زوجته: لا أرجع عن هذا، فسكتوا عنها.
ثم، يا ابنتي لُبَابَة، قام التاجر من عندهم، وتوجه ليتوضأ، ثم يرجع يقول لهم، ويموت.
وكان عنده في دار الدواب، ديك، قد ضرب جناحيه، وصفق بهما، وكان عنده كلب، فسمع التاجر الكلب، يقول للديك، بلسانه: أيها الديك، ما أقل حَيَاؤك، قد خاب من رباك، ما تستحي في مثل هذا اليوم، أن تفعل هذا الفعل؟
قال الديك: وما جرى بهذا اليوم؟
فأعاد الكلب، عليه القصة، فقال الديك: والله، إن صاحبنا، قليل العقل، أنا لي خمسون زوجة، وأرضي الجميع، وصاحبنا عنده واحدة، ومدعي عقل، أما يعرف، صلاح أمره معها، ولا يعرف، أن يحسن لها التدبير؟
قال الكلب: وكيف يصنع؟
أجابه الديك: ما له، لا يأخذ لها عصاه السنديان، ثم يدخل إلى حجرتها، ويضربها حتى تتوب، وتصيح ذلك الوقت، ما بقيت أريد، لا تفسير ولا كلام، ويضربها، حتى تنزل عن غيها، ولا ترجع تعارضه بشيء، ولا تعود تسأله عن شيء، وإذا فعل ذلك، استراح، وعاش، وبطل العزاء، لكن، ما عنده من تدبير.
فلما سمع، يا ابنتي لُبَابَة، التاجر كلام الديك، رجع إلى عقله، وأخذ عصاه السنديان، وادخل زوجته إلى حجرتها، مدعياً، انـه ليقول لها، تفسير ما حدث، ثم، إنه أقفل باب الحجرة عليهما، ونزل عليها بالضرب، إلى أن قالت له: تبت، ثم إنها قبلت يديه ورجليه، وتابت، وخرجت وإياه، وفرح الجماعة وأهلها، وتعلم التاجر حسن التدبير، وقعدوا في أسر الأحوال، إلى الممات.
وانتِ أيضاً، يا ابنتي لُبَابَة، اذ لم ترجعي، فعلت معك، مثل ذلك.
فلما سمعت ابنة الوزير، مقالة أبيها، قالت: إنِّي لآكُلُ الرَّأْسَ، وَأَنَا أعْلَمُ ما فِيهِ (يضرب للأمر تأتيه، وأنت تعلم ما فيه، مما تكره)، وإذا ضَرَبْتَ فأَوْجِعَ، وَإِذَا زَجَرْتَ فَأسْمِعْ (يضرب في المبالغة، وترك التَّواني، والعَجْز)، لا بد من ذلك، ولا تردني، عـن طلبي.
فأجابها أبوها، وفرحت لُبَابَة فرحاً عظيما، وأصلحت امرها، وما تحتاجه، وأقبلت الى أختها الصغيرة، عزيزة، وقالت لها: إذا توجهت إلى الملك، أرسل خلفك، فإذا جئت عندي، قولي: يا أختي، حدثينا حديثًا غريبًا، نقطع به السهر واليل، وأنا أحدثك حديثًا، يكون فيه خلاص العالم، من هذه المصيبة، إن شاء الله.
فقالت لها عزيزة: نعم.
ثم، إن أباها الوزير، جهزها، وطلع بها إلى الملك، فلما رآه، فرح وقال: أتيت بحاجتي؟
قال الوزير: نعم.
ثم، إن الليل قد أقبل، فبكت لُبَابَة، فقال لها الملك: ما بك؟
قالت لُبَابَة: أيها الملك، إن لي أختًا صغيرة، أريد أن أودعها، قبل الصباح.
فأرسل الملك إلى عزيزة، فجاءت إلى أختها، وعانقتها، وجلسوا يتحدثون، فقالت عزيزة: يا أختاه، بالله عليك، حدثينا من أحاديثك الحسان، نقطع سهر ليلتنا هذه، وأودعك قبل الصباح، فما أدري، ماذا يتم بك، غداة!
قالت لُبَابَة: حبًا وكرامة، إن أذن لي الملك.
قال شمسان، وكان به قلق، ففرح بسماع الحديث: تحدثي.