وفي الغد، قالت لُبَابَة: بلغني، أيها الملك السعيد، أن زبيدة استدارت الى الناحية، التي جلس فيها، الخليفة، والوزير جعفر، ومسرور، وكانت لا تزال، تجهل هويتهم الحقيقية، وقالت: احكوا لي، خبركم.
جعفر، الذي كان دائمًا على استعداد، للكلام، تقَدَّمَ، وأجاب زبيدة على الفور: طاعَةً، يا سيدتي، وحكى جعفر، الحكاية التي قالها لصافية، عند دخولهم، وهذا، سيدتي، ما أوجب، إطاعة أوامرك.
بعد الاستماع إلى هذه الرواية، بدت زبيدة مترددة، بشأن ما يجب، أن تقول، ولاحظ الغرباء الثلاثة، ترددها، فالتمسوا، نفس اللطف، لتجار قرية الشيخ مؤنس: إنْ عفوتِ، يعفُ الله عنكِ، بعفوكِ عن رجال مسلمين، لم يُؤَذُّوا، وننصرف عنكم بجميل.
حسنا، قالت زبيدة، بنبرة تشير، إلى أنها تريد، أن تطاع، ولكن بشرط، أن تخرجوا جميعًا، من هذا المسكن، الآن.
فخرج الخليفة، والوزير ومسرور، والغرباء الثلاثة والحمّال، الى أن صاروا في الزقاق، ومدينة وصاحبها، فاضت انهارها، وتدنت اطيارها، كأنها جنة مزخرفة، وأغلق الباب، خلفهم.
أنتم غرباء، وصلتم للتو، إلى هذه المدينة، ما الذي تنوون فعله، والفجر لم يحن بعد، قال الخليفة.
أجابوا: هذا ما يحرجنا، وما ندري، أين نحن، ذاهبون.
سيروا وبيتوا عندنا، قال لهم الخليفة.
وبعد أن أَتَمّ هذه الكلمات، تحدث الخليفة، إلى الوزير جعفر، وقال: خذهم إلى بيتك، ثم همس: وصباح الغد، احضرهم لي، أريد كتابة مغامراتهم، إنهم يستحقون، مكانًا، في سجلات عهدي.
فامتثَلَ جعفر، ما أمره به، الخليفة، وأخذ الغرباء الثلاثة، إلى منزله، وذهب الحمال، وعاد الخليفة، برفقة مسرور، إلى قصره.
ثم، إن الخليفة، لم يأخذه النوم، لقلق قلبه وفكره، بما جرى للغرباء، وكيف كانوا أولاد ملوك، وأصبحوا على ما صاروا اليه، واشتغل سره، بزبيدة وجلدها الكلبين، وصافية الأخرى، المضروبة بالسياط، وأطال الصباح حتَّى بدا، فنهض الخليفة، وذهب إلى قاعة المجلس، ودخل عليه الوزير جعفر، فقال الخليفة: اذهب، وائتني بالثلاث سيدات، وأحضر، الغرباء معك.
فنهض جعفر الوزير، وخرج إلى منزل السيدات، وأبلغهن بأدب، الأوامر التي تلقاها، بإيصالهنّ إلى الخليفة، ولم يشر، إلى أحداث الليلة السابقة، فغطت الصبايا، أنفسهن بحجابهن، وذَهِبْنَ مع الوزير، الذي، عندما مر بباب منزله، دعا الغرباء الثلاثة، وأحضرهم جميعًا، بين يديّ، الخليفة.
لما جلست زبيدة، وصافية وأمينة، استدار الخليفة نحوهن، وقال: قدمت نفسي لكم، الليلة الماضية، متنكراً في زي تاجر، فها أنا أعرفكن، أنتن بين يدي الخليفة الخامس من بني العباس، هارون الرشيد، وكنَّ مطمئنات، فقد تقدم احسانكن، واكرامكن لنا، وسأتذكر دائمًا الاعتدال، الذي تصرفتن به، بعد الفظاظة التي ارتكبناها، وقد طلبت منكن الحضور، لمعرفة سبب إساءة معاملة الكلبين والبكاء، وسبب ندوب، السيدة المضروبة، بالسياط.
فلما سمعت الصبايا، كلام الملك، وطمأنته وتشجيعه اياهن، تقدَّمَتِ زبيدة، وقالت: أمير المؤمنين، القصة التي سأرويها لجلالتك، هي عجب، عبرة لمن اعتبر، نصيحة لمن انتصح.
الكلبان السود وأنا ثلاث أخوات، ولدنا من نفس الأم والأب، وسأخبركم، في سياق قصتي، بأي حادث غريب تحولت شقيقتيّ إلى كلاب.
السيدتان اللتان حاضرتان هنا، واللتان تعيشان معي، هما أختاي، من نفس الأب، ولكن، من أم أخرى، التي عليها أثر الضرب تدعى صافية، والأخرى تدعى أمينة، وأنا زبيدة.
بعد وفاة والدنا، تقاسمنا الميراث، وذهبت شقيقتاي لأبي، للبقاء مع والدتهما، وبقيت أنا وأُخْتَاي الآخرتان، مع والدتنا، التي كانت لا تزال على قيد الحياة، فمرت علينا أياما، فماتت والدتنا، وخلفت لنا، ثلاثة الاف دينار، فأخذت كل بنت ميراثها، ألف دينار، وتجهَّزَتْ أختاي، وكنت أنا أصغرهن سنًّا، وتزوَّجت كل واحدة برجل، وذهبتا للعيش مع أزواجهما، وتركاني، وحدي.
بعد فترة وجيزة من زواجهما، باع زوج أختي الكبرى، جميع ممتلكاته، وبالمال الذي جناه، ومع ما تلقاه من أختي، ذهب كلاهما، إلى سفالة. هنالك، بدد زوج أختي، ببهجة وفجور، ليس فقط جميع ثروته، ولكن أيضًا، جميع ما لأختي، وبعد أن تحول إلى الضائقة والبؤس،
فَغضب الزوج عَلَيها وَوَثب
بِالسوط وَاِشتاطَ وَقالَ في الغَضَب
جَزاؤكَ الطلاق عَن ذا الفعل
فَلَست لي مِن بَعد ذا باهل
وطردها وطلقها، وتنصل منها. فغابَت خمس سنين، وعادت إلى بغداد، بعد أن عانت من شرور، لا يمكن تصورها، خلال هذه الرحلة الطويلة، وجاءت في حالة بائسة، تستحق الشفقة، حتى من أكثر القلوب غلظةً، فاستقبلتها في المحبة، التي يجب أن تُنْتَظر مني، وسألتها: ما هذه الحال، وكيف أصبحت بائسة، في مثل هذا!؟
السلوك السيئ، وقد جرى، والمعاملة غير الجديرة، التي تعرضت لها من زوجها، أبلغتني، والدموع في عينيها، فتأثرت بمصائبها، وبكيت معها،
ولو أننا كنا رجالاً وكنتم
نساءً لكنا لا نقر بذا الفعل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساءً لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب العروس فإنما
خلقتم لأثواب العروس وللغسل
فبعداً وسحقاً للذي ليس دافعاً
ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
ثم، يا أمير المؤمنين، أخذتها، وادخلتها الحمام، وأعطيتها من ملابسي الخاصة، وقلت لها: اختي أنت، والإرث الذي نابني، قد جعل الله فيه البركة، وأنا وأنت سواء.
فمكثنا في نفس المنزل، لعدة أشهر، في وئام تام، وتحدثنا غالبًا، عن أختنا الثالثة، وما خبرها، وراعنا عدم سماع أي شيء عنها، فما كان، الا وجاءت في حالة سيئة، ومظهره بائس، مما عاملها زوجها، وبالمثل الذي أظهرته لأختي الكبرى، استقبلتها، وأحسنتُ إليها.
فمكثتا عندي مدة سنة كاملة، وصار لهما مال، من مالي، فقالتا: إن الزواج خير لنا، وليس لنا، صبر عنه.
فقلت: يا أُخْتَاي، لم تَرَيَا، في الزواج خيرًا، وإن الرجل الجيد، قليل في هذا الزمان، وقد جرَّبتما الزواج.
كل ما قلت، كان عديم الفائدة، فقد اتخذتا قرار الزواج، ولم تلتفتا الى كلامي، فزوجتهما من مالي، وسترتهما.
ويا سيدي، مضتا مع زوجَيْهما، فأقامتا مدة يسيرة، فلعب عليهما زوجاهما، وأخذَا، ما كان معهما، وتركاهما، فجاءتا عندي، وهما عاريتين، واعتذرتا، وقالتَا: لا تؤاخذينا، فأنت أصغر منَّا سنًّا، وأكمل عقلًا، وما بقينا نذكر الأزواج أبدًا، فاتخذينا جواري عندك، نأكل، لقمتنا.
فقلت: مرحبًا بكما يا أُخْتَاي، ما عندي، أعز منكما.
ثم، أقبلت عليهما، وزِدتهما إكرامًا، وأقمنا على هذه الحالة، سنة كاملة، وأنا كل يوم، يزداد مالي، ويتسع حالي، و
أَرى الناسَ في الدُنيا مُعافاً وَمُبتَلى
وَمازالَ حُكمُ اللَهِ في الأَرضِ مُرسَلا
وَلَم يَبغِ إِلّا أَن نَبوءَ بِفَضلِهِ
عَلَينا وَإِلّا أَن نَتوبَ فَيَقبَلا
وَما خَلَقَ الإِنسانُ إِلّا لِغايَةٍ
وَلَم يَترُكِ الإِنسانَ في الأَرضِ مُهمَلا
كَفى عِبرَةً أَنّي وَأَنَّكَ يا أَخي
نُسَرَّفُ تَصريفاً لَطيفاً وَنُبتَلى
وعزمت على القيام بتجارة، فوضعت خطة، وذهبت مع شقيقتيّ إلى البصرة، وجهزت مركبًا كبيرة، حملت فيها، البضائع والمتاجر، التي أحضرتها معي من بغداد، وما أحتاج إليه في المركب، وقلت: يا أختَاي، هل لكما أن تقعدا في المنزل، حتى أسافر وأرجع، أو تأتيا معي؟
قالتا: نسافر معك، فإنَّا، لا نطيق، فراقك.
فأخذتهما وسافرنا، وكنتُ قسمت مالي نصفين، فأخذتُ النصف، وخبَّأتُ النصفَ الثاني، وقلت: ربما يصيب المركب شيء، فإذا رجعنا، نجد شيئًا، ينفعنا.
وأبحرنا من البصرة، برياح مُؤَاتِيَة، وسرعان ما وصلنا، ساحل أوال، ورأيت بعد جزيرة أوال، جزائر كثيرة، فإلى جزيرة هنجام، ومنها أحضرنا الماء، ثم، وجبال سود، ذاهبة في الهواء، لا نبات عليها، ولا حيوان، يحيط بها مياه من البحر، عظم قعرها، وأمواج متلاطمة، تجزع منها النفوس، إذا أشرفت عليها، وهذه المواضع من بلاد عمان، لا بد للمراكب، من الجواز عليها، والدخول في وسطها، فتخطئ وتصيب، فطاب لنا الريح، وخرجنا إلى عرض البحر، وأخذنا الطريق، إلى مملكة المهراج.
ولم نزل مسافرين، أيامًا وليالي، فتاهت بنا المركب، وغفل الربان، عن الطريق، ودخلت المركب، بحرًا غير البحر الذي نريده، ولم نعلم بذلك مدة، وطاب لنا الريح عشر أيام، فلاحت لنا مدينة على بُعْدٍ، فقلنا للربان: ما اسم هذه المدينة، التي أشرفنا عليها؟
قال الربان: لا أعلم، ولا رأيتها قط، ولا سلكت عمري هذا البحر، ولكن، جاء الأمر بسلامة، فما بقي إلا أن تدخلوا هذه المدينة، وتُخرِجوا بضائعكم، فإن حصل لكم بيع، فبيعوا، وتصرَّفوا فيها، وإن لم يحصل لكم بيع، نرتاح يومين، ونتزوَّد، ونسافر.
ففرحت ونزلت من السفينة، وأتيت بوابة المدينة، فرأيت عددا كبيرا من الحراس، في أيديهم عصيّ، بلا حراك، فشعرت بالخوف من مَظهَرهم، وبعد أن اقتربت منهم، أدركت، أنهم متحجرون.
ثم، دخلت المدينة، ومررت في عدة شوارع، ولاحظت فيها، رجالًا مثل التماثيل، وقد تحولوا إلى حجر، وطفت في حَيّ التجار، ووجدت معظم المتاجر مغلقة، وفي تلك التي كانت مفتوحة، رأيت رجالا متحجرين، والبضائع باقية، والذهب والفضة، باقيين على حالهما، فخلصت، إلى أن جميع السكان، تبدلوا إلى حجر.
وانتهيت الى صدر المدينة، فرأيت في ساحة كبيرة، قلعة محكمة، باباها القائمان، مصفحان بالذهب، ومفتوحان، ولم أشك بعد التفكير لبعض الوقت، أنه لا بد أن يكون هاهنا، قصر الأمير، الذي ساد هذا البلد، فدخلت من الباب، لعلي أقابل، شخصا ما.
وزادت دهشتي، عندما رأيت بستانًا، وثانيًا وثالثًا، إلى تمام تسعة وثلاثين، وكل بستان، أرى فيه، ما يكلُّ عنه الوصفُ، من أشجارٍ وأنهارٍ، وأثمارٍ وذخائر، ومما زاد من دهشتي، الحراس، وكثير من الناس، البعض في خروج، والبعض الآخر في قدوم، ومع ذلك، فقد ظلوا جميعًا في مكانهم، حيث تحولوا أيضًا إلى حجر، وساد صمت، رهيب.
بعد تقدمي إلى باحَة، رأيت أمامي، مبنى جميلًا، تعريشه من الذهب، فدخلته، فوجدت قاعة كبيرة، لم أجد فيها أحدا، ثم، دخلت قاعة مزخرفة، في حيطانها ستائر من حرير، ورأيت سيدة، تحولت أيضًا إلى حجر، وعلى رأسها تاج مكلل بأنواع الجواهر، وفي عنقها قلائد وعقود من اللؤلؤ، كل لؤلؤة، كبيرة ومستديرة، مثل الجوز، وجميع ما عليها من الملبوس والمصاغ، باقٍ على حاله، وأدركت أنها الملكة، و
قَد يَجمَعُ المالَ غَيرُ آكِلِهِ
وَيَأكُلُ المالَ غَيرُ مَن جَمَعَه
وَيَقطَعُ الثَوبَ غَيرُ لابِسِهِ
وَيَلبِسُ الثَوبَ غَيرُ مَن قَطَعَه
فَاِقبَل مِنَ الدَهرِ ما أَتاكَ بِهِ
مَن قَرَّ عَيناً بَعَيشِهِ نَفَعَه
وَصِل حِبالَ البَعيدِ إِن وَصَلَ ال
حَبلَ وَاِقصِ القَريبَ إِن قَطَعَه
وَلا تُهينَ الفَقيرَ عَلَّكَ أَن
تَركَعَ يَوماً وَالدَهرُ قَد رَفَعَه
ووجدت في غرفة الملكة المتحجرة، يا أمير المؤمنين، سلمًا بسبع درجات، فصعدته، مما قادني عبر العديد من الغرف، ذات الأوصاف المختلفة، إلى غرفة مرخمة، مفروشة بالبسط المذهبة، فيها عرش ضخم، مُعَزَّزا بالزمرد، مكنونًا باللؤلؤ، مرتفع ببضع درجات، وعلى العرش، سرير من المرمر، مرصعًا بالدر والجوهر، ونظرت، نورًا لامعًا، يبدو، من فوق السرير.
ما الذي في هذا المكان؟ ايتها الصبية، ثبّتي أجفانك، قلت في نفسي، فلا بد، أن اكتشف، سبب هذا الضوء.
وصعدت على العرش، فرأيت على ذلك السرير، من أنواع الحرير، ما يحيِّر الناظر، فيها ماسة كبيرة، قدر بيضة النعامة، تأخذ البصر، من لمعانها ونورها الساطع، وظللت معجبةً، لبعض الوقت. ولفت انتباهي في هذه القاعة، العديد من الأشياء الأخرى، كوجود مشاعل مضاءة، ولم أستطع أن أفترض، أن هذه المشاعل، يمكن أن تبقي نفسها مضاءة، فقلت في نفسي: لا بد أن أحدًا، أوقد هذه الشموع.
ونظرًا، لأن جميع الأبواب، كانت إما مفتوحة على مصراعيها، أو نصف مغلقة، صرت، حُبّاً في الاستكشاف، أفتش الأماكن، وكانت مليئة بثروات لا حصر لها، فنسيت نفسي، ممَّا أدهشني من التعجُّب من تلك الأحوال واستغرق فكري، إلى أن دخل الليل، فأردت العودة، لكن لم يكن من السهل إيجاد الطريق، وهمت في الغرف، ووجدت نفسي في الغرفة الكبيرة، التي فيها العرش، والسرير والماسة الكبيرة، والمشاعل المضيئة، فعزمت على قضاء الليل هناك، والعودة، إلى سفينتي، في صباح اليوم التالي.
وجلست على السرير، وتغطيت بلحاف، بعد أن قرأت شيئًا من القرآن، وأردت النوم، فلحقني القلق، من التفكير في أنني وحدي، في هذا المكان المهجور، فمنعني هذا النوم، فلما انتصف الليل، سمعت تلاوة القرآن، بصوت حسن رقيق، ففرحت، ونهضت على الفور، وأخذت شعلة، ولم ازل اتبع الصوت، حتى انتهيت، الى مخدع بابه مردود.
ووضعت الشعلة على الأرض، ونظرت من خلال فتحة الباب، فبدا لي، غرفة مخصصة للدين، فيها قناديل معلقة موقدة، وسجادة مفروشة، جالس عليها شاب حسن المنظر، يقرأ بصوت عالٍ، باهتمام كبير، من القرآن الذي كان أمامه، على طاولة صغيرة، فعجبت، وسررت من هذا المنظر، وإنما هذا، يكون له أمر عجيب، فكيف هو سالم، دون أهل المدينة، اعتقدت، جازمة.
فدخلت وسلَّمت عليه، فرفع بصره، ورد عليَّ السلام، فقلت: رأيت المدينة، فلم أجد فرجًا، أفهذا عذاب الدنيا؟ أفقد أَبْقَى ما أَبْقَى، حجارة، ما استبقى؟ ألا تخبرني، سبب هذا؟
قال الشاب: سيدتي الصالحة، من فضلك، أولا أخبريني، ما الذي أوصلك هذا المكان، ومن أنت، وأنا اخبرك من أنا، وبما جرى عليّ وعلى أهل مدينتي، وسبب تحول سكان هذه المدينة، إلى الحالة التي رَأَيْتِها، ولماذا، أنا وحدي، نجوت.
فأخبرته في بضع كلمات، من أين أتيت، وما الذي دفعني للقيام بهذه الرحلة، وكيف، مِن يُمْن الطّالع، وصلت إلى هذا الميناء، بعد عشرين يومًا من الإبحار، وعندما انتهيت، ناشدته أن يفي وعده، وأخبرته كم أخذت بالبئس، الذي لاحظته، في جميع الأماكن، التي مررت بها.
قال الشاب: سيدتي العزيزة، أمهليني.
ثم، طبق المصحف، وأدخله في كيس من الأطلس (حرير)، وأجلسني بجانبه، فنظرت إليه، فإذا هو كالبدر، حسن الأوصاف، لين الأعطاف، بهي المنظر، رشيق القد، أسيل الخدر، زهي الوجنات و
قسماً بجودتهِ وصدق لسانهِ
وبطيب مولدهِ وعالي قدرهِ
ما المسك ان عرفوه إلَّا عَرْفهُ (رائحته)
والريح عنبر نشرها من نشرهِ
وكذلك الشمس المنيرة دونهُ (فوق)
مما حكَّتهُ قلامةٌ (مَا قُطِعَ مِنْ طَرَفِ الظُّفْرِ) من ظُفرهِ
وَغَدَتْ مِنَ الْمَرِّيخِ حُمْرَةُ خَدِّهِ
وَالْقَوْسُ يَرْمِي النَّبْلَ مِنْ جَفْنَيْهِ
وَعُطَارِدُ أَعْطَاهُ فَرْطَ ذَكَائِهِ
وَأَبَى السَهو (الغَفلةُ والذُّهولُ عن الشيء) نَظَرَ الْوُشَاةِ إِلَيْهِ
فَغَدَا الْنَجمُ حَائِرًا مِمَّا رَأَى
وَالْبَدْرُ بَاسَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فنظرتُ إليه نظرةً، أعقبتني ألف حسرة، وأوقدَتْ بقلبي كلَّ جمرة، وشعرت بعاطفة غريبة، كانت عليّ، حتى ذلك الحين،
تقولُ لأترابٍ لَهَا وهي تَمْترى
دموعاً على الخَدَّيْن من شدَّةِ الوَجْدِ
أكُلُّ فَتَاةٍ لا محالةَ نازِلٌ
بها مِثْلُ ما بي أم بُليتُ به وحْدِي
بَرَاني لَهُ حُبٌّ تنشَّبَ في الحَشَا
فلم يَبْقَ من جِسْمِي سِوَى العظمِ والجِلْدِ
وقلت: أيها المحبوب، أيها الشيء، العزيز من روحي، تكلم، أتوسل إليك، أي معجزة، جعلتك أنت وحدك الحيّ، من الكثير الذين ماتوا في الحياة، بهذه الطريقة، غير المألوفة.
سيدتي، لقد جعلتِني أرى، من خلال سؤالك، أن لديك معرفة، بالله الحق. إعلمي، أن هذه المدينة، كانت عاصمةُ مملكة قوية، ووالدي، كان هو الملك، وكان والدي وجميع أهله وقومه، يعبدون النار، دون الملك الجبار، وكانوا يقسمون بالنار والنور، والظل والحرور، والفلك الذي يدور، متمردين على الله.
وكان أبي، ليس له ولد، فرُزِقَ بي، في آخِر عمره، وعلى الرغم من أن والدي ووالدتي، كانا عابدان النار والأصنام، كانت مربيتي في طفولتي، سيدة مسلمة صالحة، تؤمن بالله ورسوله، حفظت القرآن، وتُوافق أهلي، في الظاهر.
وكان أبي يقدرها، لاتصافها بالأمانة والعفة، وكان يكرمها ويزيد في إكرامها، وكان يعتقد، أنها على دينه، فسلَّمني أبي إليها، وقال: خذيه وربِّيه، وعلِّميه أحوالَ ديننا، وأحسني تربيته، وقومي، بخدمته.
أميري، ألا بحمدالله، كلُ خيرٍ، تعجَّب، من صنع الله، في خلقه، ولا تعبد، سوى الله تعالى، الواحد الْقَهَّار، غالبًا ما كانت تقول لي، وعلَّمتني القرآن، فحفظته، وعلمتني قراءة العربية، وفعلت كل هذا، دون معرفة والدي، وعلم الجميع، فلما أتممت ذلك، قالت لي: يا ولدي، اكتم هذا الأمر عن أبيك، ولا تُعلِمه به، لئلا، يقتلك.
فكتمته عنه، ولم أزل كاتمًا عن أبي الخبر، حتى ماتت تلك العجوز، بعد أيام قلائل، فازداد أهل المدينة، كفرًا وعتوًّا وضلالًا، فبينما هم، على ما هم فيه، إذ سمعوا مناديًا ينادي، بصوت عالٍ، شبيه بصوت الرعد القاصف، سمعه القريب والبعيد يقول: يا أهل هذه المدينة، ارجعوا عن عبادة النار، واعبدوا الرحمن، الله، الواحد، الملك الجبار.
فحصل عند أهل المدينة فزع، واجتمعوا عند أبي، وهو ملك المدينة، وقالوا له: ما هذا الصوت المزعج، الذي سمعناه، فاندهشنا، من شدَّة هوله؟
فقال والدي: لا يهولنَّكم الصوت، ولا يفزعكم، ولا يردكم، عن دينكم.
فمالت قلوبهم، إلى قول أبي، ولم يزالوا منكبين، على عبادة النار، واستمروا وازدادوا في طغيانهم، إلى مدة سنة، لميعاد ما سمعوا الصوت الأول، فظهر لهم ثانيًا، فسمعوه ثلاث مرات، على ثلاث سنين، في كل سنة مرة، فلم يزالوا عاكفين على ما هم عليه، حتى نزل عليهم المقت والسخط من السماء، بعد طلوع الفجر، فمُسِخوا حجارة سودًا، وكذلك دوابهم وأنعامهم، ولم يسلم من أهل هذه المدينة غيري، ومن يوم جرَتْ هذه الحادثةُ، وأنا على هذه الحالة، في صلاة وصيام وتلاوة قرآن، وقد سئمت من الوحدة، وما عندي، مَن يؤانسني.
هذه الكلمات الأخيرة، أَضْرَمت قلبي، فقلت، وقد ملك فؤادي، وسلب لُبّي وروحي: أيها الأمير، لولا انه من الممكن العيش، في مدينة، هوذا كل شيء تراه، نصبًا للحزن! سفينتي في خدمتك، لإبعادك عن هذا البقعة السوداوية، تذهب معي إلى مدينة بغداد، تنظر العلماء الفقهاء، تزداد علمًا وفقهًا، والتي أمامك، سيدة قومها، وحاكمة على رجال وخدم وغلمان، وسفينتي مشحونة بالمتجر، وفي بغداد، لي مال وممتلكات، وإني أقدم لك، مَأوىً آمنًا هناك، حتى يمنحك أمير المؤمنين، هارون الرشيد، الذي لا بد أنك سمعت عنه، المساعدة، وتأكد، من أنه بإبلاغه بوصولك، لن يذهب أمرك سدى.
ولم ازل الاطفه، وأحسِّن له التوجُّه، حتى أجابني، وقضينا بقية الليل، نتحدث عن رحلتنا، حتى غلب علينا النوم. فلما أصبح الصباح، نزلنا من القلعة إلى المدينة، حيث وجدنا أختاي، والعبيد والربان، وهم يفتشون عليّ، وفي قلق وجزع شديد على سلامتي، فلما رأوني، فرحوا بي، وسألوني، عن سبب غيابي.
فأخبرتهم بما رأيت، وبما منعني من العودة إلى السفينة، في اليوم السابق، ولقاء الأمير الشاب، وسبب الخراب، الذي ساد المدينة، وخبر الشاب، وقدمت أختاي إلى الأمير، ثم، نزلنا المركب، وأنا بغاية الفرح، وأكثر فرحي، بصحبة هذا الشاب.
وانهمك البحارة، عدة أيام، في إنزال البضائع التي أحضرتها، وشحن ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه، من خزائن أبيه، وتركنا ما لا حصر له، فكنا بحاجة إلى عدة سفن، لنقل إلى بغداد، كل الثروات، التي كانت، أمام أعيننا.
وأقمنا ننتظر الريح، بعد أن ملأنا السفينة، بما كنا نرغب في حمله، وبعد أن أخذنا المؤن والمياه، التي اعتقدنا، أننا بحاجة إليها لرحلتنا، وفي الواقع، من الغذاء، بقيت كمية كبيرة، من تلك التي جلبناها من البصرة، وطابت لنا الريح، فنشرنا القلوع، وسافرنا.
في بداية رحلتنا، لم نزل أنا وأختاي والأمير الشاب، في تَحابّ وحوار، نقضي وقتنا معًا كل يوم، فغارت أختاي، من الانسجام الذي استشفّوه، بيني وبين الأمير الشاب، وصارتا في غيظ، وأضمرتا، المكر لي، و
كلُّ العداوةِ قد تُرْجى مَوَدَّتُهَا
إلاَّ عداوةَ من عَادَاكَ عن حَسَدِ
واحذرْ حسودَك ما استطعتَ فإنه
إن نِمْتَ عنه فليسَ عنك براقدِ
إن الحسودَ وإن أراكَ توَدُّداً
منه أضرُّ من العدوِّ الحاقدِ
ولَربَّما رَضِيَ العدوُّ إِذا رأى
منك الجميلَ فصار غيرَ معاندِ
ورِضا الحسودِ زوالُ نعمتِكَ التي
أُوتِيتَها من طَارفٍ أو تالدِ (عكس طارف، قديم موروث غير مكتسب)
وقعدت أختاي عندنا، وصارتا تتحدثان، فقالتا لي، وقد أكنَّتا الخبث: يا أختنا، ما تصنعين بهذا الشاب الحسن، عندما نصبح، في بغداد؟
وأدركت، أنهم طرحوا هذا السؤال، لاكتشاف مشاعري، وبتحول لطيف، أخبرتهما داعبة: سأتخذه لي، زوجا.
ثم، التفتُّ إلى الأمير، وأقبلتُ عليه، وقلت: قصدي، أن أقول لك شيئًا.
قال الامير: سمعًا وطاعةً.
قلت: أنه، إذا وصلنا الى بغداد، انا أقدم لك نفسي، تكون لي زوجا، واكون لك اهلا.
أجاب الأمير: أعلن أمام أختاكِ، هو، انه إذا وصلنا الى بغداد، الى منزلنا، اكون لك اهلا، وتكوني، لي زوجة.
فلما نظرتا هذا الخطاب، أيها الملك السعيد، تغير لونهما، وقالتَا: نِعْمَ ما فعلتما، وانّا، لا نصدق، مما نحن فيه، من الفرح.
وأضمرتا لي الشرَّ، ولم نزل سائرين، مع اعتدال الريح، حتى خرجنا من بحر الخوف، وجبال كسير وعوير، وثالث ليس فيه خير، ودردور مسندم، المكنى بأبي جهرة، ودخلنا بحر السلام، فسافرنا أيامًا قلائل، إلى أن قربنا من مدينة البصرة، ولاحت لنا أبنيتها، فأدركنا المساء، فبت تلك الليلة، آمل، أن نصل اليوم التالي.
ولكن في الليل، تفرقنا، فبينما الشاب الأمير، وأنا، كنا نائمَين، قامَتْ أختاي، وحملتاني أنا والأمير بفرشنا، ورمتانا في البحر، فأما الشاب، فإنه كان لا يحسن العومَ، فغرق، وأما أنا، فلبرهة خضت في الماء، وسارت المركب، وبقيت انا، وصعدت على قطعة خشب، رزقني بها الله، فركبتها، وضربتني الأمواج، إلى أن شعرت بأرض صلبة تحت قدميّ، فتقدمت بصعوبة، بقدر ما سمح لي الظلام، وسقطتُ، أرضا.
ولاح الصباح، واستيقظت، فوجدت أني، كنت في جزيرة صغيرة مهجورة، وطلعت الشمس، وسرعان ما جفت ملابسي، فسرت، ورأيت أنواعًا عديدة من الفاكهة، وينبوعًا من المياه العذبة، مما أعطاني الأمل، في الحفاظ على حياتي.
وجلست أستريح في الظل، وإذا أنا بحية، تسعى يميناً وشمالاً، ولسانها قد تدلى، وقد اقبلت نحوي، فنهضت على الفور، فلاحظت خلفها ثعبان، قد قبض ذنبها، يريد هلاكها، وهي هاربة منه، فأخذتني الشفقة، وبدلاً من الفرار، امتلكت الجرأة والشجاعة، فعمدت الى حجر كبير، وألقيتُه على رأس الثعبان، فمات من وقته، فنشرت الحية جناحين، وطارت في الجو، فتعجَّبْتُ من ذلك، وقد تعبت، فنمت في موضعي.
ولك أن تتخيَّل دهشتي، يا أمير المؤمنين، أن أجد بالقرب مني، لما أفقت، فتاة سوداء، مشرقة دافئة، ومعها كلبين، فجلست على الفور، وقلت لها: مَن أنت، وما شأنك؟
قالت الفتاة: أنا التي فعلتِ معي الجميل، وزرعتِ معي المعروف، انا الحية، التي كنت في هذا المكان، وقتلتِ عدوها، منكر الخير، القاسي. إني جنية، وما كافأتك، بأفضل من الفعل، الذي قمت به للتو، فإني وَقَفت على خيانة أختيك، وللثأر لكِ، لما نجيتِني، طرت في الريح، وذهبت إلى المركب التي رماك منها أختاك، ونقلتُ جميعَ ما فيها، إلى بيتك، وأغرقتها، وأما أختاكِ، فإني سحرتهما هذين الكلبين السود، وهذه العقوبة، ليست كافية، وأريدك، أن تعامليهما، بالطريقة التي سأخبرك بها.
بهذه الكلمات، أصبحت الجنية كالطير، وحَمَلَتْنِي أنا والكلبين، وطارت بنا، ثم حَطّت في داري، فرأيتُ جميعَ ما كان في المركب من ثروات، في وسط بيتي، ولم يَضِعْ منه شيء، وسلمتني الجنية، الكلبين.
ذلك من فعل اختيكِ، والحمد لله، وبقي عذاب الآخرة، وهو أشد وأبقى، تحدثت الجنية، على النحو التالي، وقالت، قبل أن تتركني: في عقوبة على الجريمة التي ارتكبتاها أختاك، آمرك، أن كل ليلة، تضربي كلَّ واحدة منهما، مئة سوط، مكافئة على ما فعلوا، وإن خالفتني فيما أقول، جعلتُكِ مثلهما، و
سِوَى وَجَعِ الحُسّادِ داوِ فإنّهُ
إذا حلّ في قَلْبٍ فَلَيسَ يحُولُ
وَلا تَطْمَعَنْ من حاسِدٍ في مَوَدّةٍ
وَإنْ كُنْتَ تُبْديهَا لَهُ وَتُنيلُ
ولا تدن الحسود فذاك عُرّ (الجَرَب)
مضض (على كره) لا يعالج بالهناء
لا تقطعنْ ذنبَ الأفعى وترسلها
إن كنت شهماً فأتبعْ رأْسها الذنبا
وها انا أعاقبهما، كل ليلة، ولا هو باختياري، مضطرة، أن أنفذ أمرها، وكيف؟ وقد توجع خاطري، وإني أشعر بالشفقة، وأعبر بدموعي، عن مدى ألمي، فهذا سبب ضربي الكلبين، وبكائي، وهذه قصتي، وحكايتي.
كُتِبتِ من السالمين، يا سيدتي، قال الرشيد، أمير المؤمنين، ثم قال للصبية الثانية: وأنتِ، ما سبب الضرب، الذي على جسدك؟
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت، عن الحديث المباح.