وفي الغد، قالت لُبَابَة: بلغني، أيها الملك السعيد، أن صافية قالت:
أمير المؤمنين، حتى لا أكرر ما ذكرته أختي، سأذكر فقط، أنه لما توفي والدي، أخذت والدتي منزلاً، فأقمتُ معها مدة يسيرة، وبعد، أعطتني للزواج، مع المِلك الذي تركه لي والدي، لواحد من أغنى الرجال، في هذه المدينة، وأسعد أهل زمانه.
واقمت معه مدة سنة، في أرغد عيش، ثم مات زوجي، فأصبحت أرملة (التي مات زوجها)، وورثت منه، ثمانين ألف دينار، بمقتضى ما خصني، بالفريضة الشرعية، وكان هذا المبلغ كافياً، لأقضي بَقِيَّة حياتي، باِتِّساع، وراحة.
وبمرور أشهر من حزني، والى يوم من الأيام، طلبت صنع عشرة فساتين مختلفة، كانت عظيمة الجمال، حتّى أن كلا منها، كلفني ألف دينار، وبدأت في ارتدائها، ولم أزل، فلما أنا جالسة في بيتي، في صباح يوم من الأيام، إذ قيل لي: مولاتي، إن سيدة متقدمة في العمر، لم أَرَها عمري، حضرت الى المنزل، وتطلب التحدث إليكِ.
فنظرت الى روحي، ورغبت في دخولها، فلما دخلت، سلَّمت علي وقالت: سيدتي الطيبة، عذرا للمجيء وإزعاجك، لكن، الثقة التي لدي، في بِرّك وإِحسانك، منحتني هذه الجرأة.
سيدتي الفاضلة، اعلمي، أن لدي ابنة يتيمة، ستتزوج اليوم، وإننا غرباء، لا نعرف أحدا في هذه المدينة، نشعر بالقسوة، وهذا يسبب لنا قلقا، وارتباكا، وحضوركم لنا شرف، ونحن بذلك نعترف، فان غبتم، فلا عوضٌ لنا عنكم، ولا خلفُ، وأنا قصدي لك الأجر والثواب، فاحضري عرسها، تكوني جبرتي خاطرها، ليس لها، إلا الله تعالى، ثم، بكت.
السيدة المسكينة! أخذتني الرحمة، ورقَّ قلبي عليها، فقلت: والدتي الطيبة، لا تحزني، أخبريني، أين يجب أن أذهب، أحليها بحللي، ومصاغي.
ففرحت السيدة العجوز، غاية الفرح، من هذه الإجابة، وقالت: جبرتي قلبي، وأين أسلك! لا بد، أن يُملأ قلبك بالرضا، كما ملأت، قلوبنا، سيدتي، ما تكلفي نفسك، عناء حفظ المنزل، يكفي، أن تأتي معي في المساء، جهِّزي نفسك، فإني وقت العشاء، أجيء، وآخذك، وداعاً يا سيدتي، حتى أتشرف، برؤيتك مجدداً.
بمجرد أن تركتني، قمت وهيَّأت نفسي، فلبست الإزار (نوع من اللباس الداخلي، من سرة البطن، إلى مستوى الركبتين) والصدار (لباس داخلي، اتخذته النساء، يغطي صدر المرأة، ومنكبيها)، ورداء طويل متسع، له فتحة عند الرقبة، على هيئة السبعة، وسرحت شعري، فكورته خلف رأسي، وضفائر على جنبيّ عنقي، وغطيت رأسي ببرنس (غِطاء للرأس) من الحرير، مطعم بالجواهر، وشرعت بنظم الأساور، والخواتم والأقراط، وبقية الحلى والمصاغ، وتعطرت بالنرجس والسوسن، وارتديت الجلباب، ما أعلم ما خُبئ لي في الغيب، وإذا بالعجوز قد أقبلت فرحة، وقالت: يا سيدتي، يا فرحتي، هم بانتظارك، متطلعين حضورك، جَاءَتْنا الحظوظ، قومي، انا دار الافراح، تزيل الاتراح، ابدا بسط وانشراح، قومي سيدتي العزيزة، أنا مستعدة، لإرشادك.
فنهضت، وانطلقنا على الفور، ومشت العجوز أمامي لتريني الدرب، حتى أتينا، إلى طريق واسع، تم كنسه، وأَصابه رَشٌ (المطر القليل)، وهبَّ فيه النسيم، ورَاقَ، فتوقفنا عند بوابة، مقنطرة بقبة من الرخام، عليها من الزهور آس، وشقائق النعمان، وأقاح (جمع أقْحُوانُ)، وعلى الباب قنديل، نوره جعلني أقرأ، هذا النقش:
البيتُ لا يُبْتَنَى إلاَّ له عَمَدٌ
ولا عِمادَ إذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ
فَإِن تَجَمَّعَ أَوتادٌ وَأَعمِدَةٌ
وساكنٌ بَلَغوا الأمرَ الذي كادوا
فلما وصلنا إلى الباب، طرقته السيدة العجوز، ففُتِح لنا، ودخلنا، فوجدنا دهليزًا مفروشًا ببسط حرير، معلقة فيه شموع، مرصوصة صفين، مضيئة من الباب، إلى أن استقبلتنا روضة (ميدان، حديقة)، احتوت فسقية (حوض من رخام في وسطه نافورة ماء)، في اندفاق، بمياه تُزيل الاتراح (الاحزان)، ولم نشعر، حتى خرجت صبية، فنظرت اليها يا أمير المؤمنين، فاذا هي أكمل من البدر في تمامه، بجبين أزهر، كالصبح إذا أسفر، فأتت فورا نحوي، وأجلستني بجانبها، بعد أن احتضنتني، وقالت: أهلا وسهلا بأختي العزيزة، ألفُ مرحبا، آنستِني، وجبرتِ خاطري، قد أنشدت الدار، تَعْلَمُ مَنْ قَدْ زَارَهَا، أَهْلًا وَسَهْلًا، بِأَهْلِ الْجُودِ، وَالْكَرَمِ.
سيدتي، انا أعلم، أنك قد أتيت إلى هنا، لتحضري حفل زفاف، لكني، آمل أن يكون لدينا زفاف وافراح، من التراب، قصر قد قام، تعلَّقَ بالسحاب، ذات جمال، فيه الجوهر.
سيدتي، إن لي أخًا، وهو شاب أحسن مني، أوسم الرجال، أكثرهم إنجازًا، سمع أنك حزتي الحسن والجمال، ففتن بالصورة، ونظرك نظرة، اعقبته حسره، ومصيره، يعتمد عليك، وسيكون، أكثر الرجال بؤسا، إذا لم تُشْفِقِي عليه.
سيدتي، قد أحَبَّكِ قلبُه، وإنه على علم بمكانتك، وأنك سيدة قومك، ويمكنني، أن أؤكد لك، أنه يستحق هذا الاِتّحاد، وهو الآخر، سيد قومه، ويريد أخي، أن يتزوَّجَكِ بسنة الله ورسوله، وما في الحلال، من عيب.
ثم، أقبلت عليَّ يا أمير المؤمنين، وقالت: لا يوجد لها نظير، مفروشة بالحرير، ببرعم أبيض، يغزل وينسج، وما نجاته، إلا أنت.
منذ وفاة زوجي، لم يطرأ على تفكيري، الزواج، مرة أخرى، لكن، بفضل جودِك، يُعاش بعد موتٍ، وينجبر الكسير، وصمتُّ … فيها انتِ، نعم، سأروي قصتي … وتَوَرّدَت خدودي.
ففرحت الصبية وقالت: يا حُسن، تلك الخدود، العَندَمِيّاتِ (الحمراوات).
ثم، صفَّقَتْ بيدَيْها، ففُتح باب، وخرج منه شاب، نقيُّ الاثواب، وحسنٌ وجمال، وبهاء وكمال، رخيم (عَذْب) الدلال، بحاجب كقوس نِبَال (سهام)، وعيون، تختلس القلوب، بالسحر الحلال،
قَدْ زَادَ حُسْنًا تَبَارَكَ اللهُ
جَلَّ الَّذِي صَاغَهُ وَسَوَّاهُ
قَدْ حَازَ كُلَّ الْجَمَالِ مُنْفَرِدًا
كُلُّ الْوَرَى فِي جَمَالِهِ تَاهُوا
قَدْ كَتَبَ الْحُسْنُ فَوْقَ وُجْنَتِهِ
أُبْصرُ أَنَّ لَا مَلِيحَ إِلَّا هُو
فلما نظرتُ إليه، ذلك أحبه قلبي، ومال، وجلس بالقرب مني، وتحدثت معه ساعة، واكتشفت، من خلال المحادثة، أن جدارته، وفضيلته، أَعظَم مما أخبرتني به أخته، التي، عندما وجدت أننا سعداء، وراضون، صفقت مرة أخرى، وإذا بقاض، قد دخل ومعه أربع شهود، ثم، إنهم كتبوا كتابي، على ذلك الشاب، وانصرفوا، فالتفَتَ الشاب إليَّ، وقال: ليلةٌ، مباركة.
قلتُ: الحمد لله، وحده.
قال: يا سيدتي، إني، أشرط عليك، شرطًا.
قلتُ: يا سيدي، وما الشرط؟
قال: أنك لا تختارين أحدًا غيري، ولا تميلين، إليه.
قلتُ: أفعل ذلك.
ففرح فرحًا شديدًا، وعانقني، فأخذت محبته، بمجامع قلبي، وقدَّموا لنا السماط (ما يُمدّ من الموائد، ليوضع عليه الطَّعامُ، في المآدِب ونحوها)، فأكلنا وشربنا، حتى اكتفينا، ودخل علينا الليل، وبتنا في عناق، إلى الصباح، ولم نزل على هذه الحالة، مدة شهر، ونحن في هناء، وسرور.
وبعد شهر من زواجنا، احتجت، أن أشتري بعض القماش، فاستأذنت زوجي، في أن أسير إلى السوق، فأذن لي، في الرواح، فلبست ثيابي، وأخذت معي، من باب الرفقة، السيدة العجوز، التي تحدثت عنها، والتي عاشت في المنزل، وجاريتين، ونزلت إلى السوق، فقالت لي العجوز، عندما وَصَلنا: سيدتي الطيبة، هنا تاجر، فتى شاب، مات والده، وخلف له مالًا كثيرًا، ومهما طلبتِ، تجديه عنده، وما عند أحد في السوق، أحسن من قماشه، فاقعدي بنا عنده، نشتري منه ما أردتِ، دون إرهاق نفسك، بالسير، من متجر إلى آخر.
فسمحت للعجوز أن تقودني، ودخلنا متجر تاجر شاب حسن، ضَامِرُ (قليل اللحم) البَطْنِ، رَقِيقُ الخَصْرِ، له وجه، كوجه الهلال، من شعره وجبينه، أمسى الورى، (الخَلْقُ من البَشَر) في ظلمة وضياء، وجلست، وطلبت منه، أن يريني أجمل الأقمشة الحريرية، التي لديه، فأخرج لنا ما طلبناه، فأعجبني أحدها، ووافق عليّ، فقالت العجوز له: كم ثمنه؟
ردا قال: أنا أبيعه، لا بفضة ولا بذهب، الا تتنازل لي، ببوسة، من خدها.
فقلت للعجوز: إن لم يأخذ الدراهم، أعطيهِ، قماشه.
ورغبت، في أن تخبره المرأة العجوز، أن اقتراحه، كان وقحًا، وسَفِيها، وقالت العجوز: ما الذي يفيدك، من القبلة؟
قال: إنها عندي، أحسن من كل ما في دكاني، ولا آخذ شيئًا، والقماش، هدية من عندي، في قبلة واحدة.
فقالت لي العجوز: يا ابنتي، قد سمعتِ هذا الشاب، وما يصيبك شيء، إذا أخذ منك قبلة، وتأخذين، ما تطلبينه.
فقلتُ لها: أَمَا تعرفين يَمِيني؟! والسعادة؟ والليالي؟
فقالت العجوز: انت ميلي بوجهك، وبوسة ولا غير، ولا عليك شيء، فأَطِيعِيني.
ولا زالت العجوز، تُحَسِّنُ لي الأمر، وأن ما يطلبه التاجر، لم يكن مهماً، وهو مجرد تقديم الخد، وأنه ينتهي سريعا، حتى أدخلت رأسي في الجراب، ورضيت بذلك، وملت له خدي، فلمَّا قبَّلني، عضَّني عضة قوية، حتى قطع اللحم من خدي، فكانا الألم والمفاجأة، كبيران، لدرجة أنه غشِي عليَّ، وسقطت، فأخذتني العجوز، وفرّ التاجر.
فلما أفقتُ، وجدتُ الدكان مقفلة، وخدي مغطى بالدماء، والعجوز، تُظهِر لي الحزن، وتقول: سيدتي الطيبة، أستجدي عفوكِ، أنا سبب هذه المحنة، أحضرتك إلى هذا التاجر، ولم أكن لأعتقد، أنه قادر، على مثل هذا الخبث، وإني، على جمر الغضا (شجر جمره شديد الالتهاب)، ما فيهم من نجيب، الكريم، الفاضل، الحسيب، لكن، لا تحزني، قومي بنا إلى البيت، واعملي نفسك ضعيفة، وأنا أجيء إليك بدواء، تداوين به هذه العضة، فتبرأ، سريعًا.
فقمتُ من مكاني، وأنا في غاية الفكر، واشتد بي الخوف، و
تَوَلَّتْ بِهجَةُ الدُّنيا
فَكُلُّ جَدِيدِها خَلِقُ
وَخانَ النّاسُ كُلُّهُم
فَما أَدري بِمَنْ أَثِقُ
رَأَيتُ مَعالِمَ الخَيرا
تِ سُدَّت دُونَها الطُّرُقُ
فَلا حَسَبٌ وَلا نَسَبٌ
وَلا دينٌ وَلا خُلُقُ
فَلَستُ مُصَدِّقَ الأَقوا
مِ في شَيءٍ وَإنْ صَدَقُوا
ومشيت، حتى وصلتُ إلى البيت، واشتد عليّ الكرب، وظهر المرض، وإذا بزوجي دخل، وقال: حبيبتي، ما الذي أصابك؟
قلت له: ما أنا، طيبة.
فقرب مني، ورأى خدي مجروح، فقال: ما هذا الجرح، الذي بخدك؟
واِرْتَأيت، أنه من الصعب الدخول، في تفاصيل، موضوع مثل هذا، وبَدا لي الاعتراف، مخاطرة، و
عاقَه مَقدور سوءٍ فَاِنثَنى
واِرتَوى بِالعارِ وَالرأيِ الأشر
فقلت: إني لما استأذنتك، وخرجت في هذا النهار، أشتري قماشاً، مرَّ حمال، يحمل حزمة من الخشب، وكان الطريق ضيق، فخدشني طرف عود من الحطب، وجرح خدي، كما ترى.
قال: غدًا أذهب إلى الحاكم، وأشكو له، فيشنق، كلَّ حمالٍ، في المدينة.
فشعرت بالخوف، من أن أكون سبب موت، الكثير من الأبرياء، فصرخت قائلة: احذر يا سيدي، فما هذا أمر محتمل، شنق الرجال، وسفك الدماء، هذا عمل ظالم، وأكون سبب قيامك بذلك، وادخل في خطيتهم، فلا أستحق، المغفرة.
أخبريني إذن بصدق، قال، ما سبب جرحك؟
قلت: فإني ركبت حمارًا، نفر بي، فوقعت على الأرض، فصادفني عود، فخدش خدي، وجرحني.
لما كان الأمر كذلك، قال، غدًا أطلع لجعفر البرمكي، أحكي له الحكاية، فيقتل كلَّ حمَّار، في هذه المدينة.
قلت: هل أنت تقتل، الناس كلهم، بسببي؟ أرجوك، تعفو، عن هؤلاء الرجال، الفقراء، وبكيت.
قال: ماذا إذن يا سيدتي، ماذا عليّ، أن أصدق؟ تكلمي! أنا أريد، سماع الحقيقة، من شفتيك.
أجبته: مولاي، استولى عليّ دوار، فسقطت، وهذا، الذي جرى، لي.
أكاذيبك أكاذيب، لقد استمعت لفترة طويلة، إلى أكاذيبك، ولا سمعت عمري، وما أسرع، ما نسيتِني! وبهذه الكلمات، فقد زوجي صبره، وصفق بيديه، فدخل ثلاث عبيد، فصاح: اسحبوها، وارموها، وسط الدار.
ونفذ العبيد، أمره على الفور، فأمسك أحدهم، بكتفيّ، وآخر، جلس على ركبتيّ، وأمسك برجليّ، وأمر الثالث، أن يأخذ سيفًا، وقال له: اضربها ضربة، تقسمها نصفين، وارموها في بحر الدجلة، فيأكلها السمك، وهذا جزاء، مَن يخون الأيمان، والمودة، و
إِذَا كَانَ لِي فِيمَنْ أُحِبُّ مُشَارِكٌ
مَنَعْتُ الْهَوَى رُوحِي لِيُتْلِفَنِي وَجْدِي
وَقُلْتُ لَهَا يَا نَفْسُ مُوتِي كَرِيمَةً
فَلَا خَيْرَ فِي حُبٍّ يَكُونُ مَعَ الضِّدِّ
اضرب، ماذا تنتظر، تابع قائلا، من يمنعك؟
فقلتُ: يا عبدَ الخير، تمهَّلْ عليَّ قليلًا، حتى أتشهَّد، وأوصي.
ثم، رفعتُ رأسي، ونظرتُ إلى حالي، وكيف صرتُ في الذلِّ، بعد العزِّ؛ فجرَتْ عَبرتي (دمعتي)، وبكيتُ، وأنشدت:
أَقَمْتُمْ فِرَاقِي فِي الْهَوَى وَقَعَدْتُمْ
وَأَسْهَرْتُمْ جَفْنِي الْقَرِيحَ وَنِمْتُمُ
وَمَنْزِلُكُمْ بَيْنَ الْفُؤَادِ وَنَاظِرِي
فَلَا الْقَلْبُ يَسْلَاكُمْ وَلَا الدَّمْعُ يُكْتَمُ
وَعَاهَدْتُمُونِي أَنْ تُقِيمُوا عَلَى الْوَفَا
فَلَمَّا تَمَلَّكْتُمْ فُؤَادِي غَدَرْتُمُ
وَلَمْ تَرْحَمُوا وَجْدِي بِكُمْ وَتَلَهُّفِي
أَأَنْتُمْ صُدُوفَ الْحَادِثَاتِ أَمِنْتُمُ
سَأَلْتُكُمُ بِاللهِ إِنْ مُتُّ فَاكْتُبُوا
عَلَى لَوْحِ قَبْرِي إِنَّ هَذَا مُتَيَّمُ
لَعَلَّ شَجِيًّا عَارِفًا لَوْعَةَ الْهَوَى
يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ الْمُحِبِّ فَيَرْحَمُ
فلما فرغتُ من شعري، بكيتُ، فلما سمع الشعر، ونظر إلى بكائي، ازداد غيظًا على غيظه، وأنشد:
تَرَكْتُ حَبِيبَ الْقَلْبِ لَا عَنْ مَلَالَةٍ
وَلَكِنْ جَنَى ذَنْبًا يُؤَدِّي إِلَى التَّرْكِ
أَرَادَ شَرِيكًا فِي الْمَحَبَّةِ بَيْنَنَا
وَإِيمَانُ قَلْبِي لَا يَمِيلُ إِلَى الشِّرْكِ
فلما فرغ من شعره، بكيت واستعطفته، وقلت في نفسي: أتواضع له، وألين له الكلام، لعله يعفو عني من القتل، ولو كان يأخذ، جميعَ ما أملك، ثم، شكوتُ إليه ما أجده، وأنشدت:
وَحَقِّكَ لَوْ أَنْصَفْتَنِي مَا قَتَلْتَنِي
وَلَكِنَّ حُكْمَ الْبَيْنِ (المودة والْعَدَاوَة) مَا فِيهِ مُنْصِفُ
وَحَمَّلْتَنِي ثِقْلَ الْغَرَامِ وَإِنَّنِي
لَأَعْجَزُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ
وَمَا عَجَبٌ إِتَلَافُ رُوحِي وَإِنَّمَا
عَجِبْتُ لِجِسْمِي بَعْدَكُمْ كَيْفَ يَصْرِفُ
فلما فرغتُ من شعري، بكيتُ، فنظرني ونهرني، وقال: ما لنا حاجة، بثنائك، وأنشد:
تَشَاغَلْتُمُ عَنَّا بِصُحْبَةِ غَيْرِنَا
وَأَظْهَرْتُمُ الْهِجَرَانَ مَا هَكَذَا كُنَّا
سَنَتْرُكُكُمْ لَمَّا تَرَكْتُمْ مَرَامَنَا
وَنَصْبِرُ عَنْكُمْ مِثْلَ صَبْرِكُمُ عَنَّا
وَنَهْوَى سِوَاكُمْ مُذْ جَنَحْتُمْ لِغَيْرِنَا
وَنَجْعَلُ قَطْعَ الْوَصْلِ مِنْكُمْ وَلَا مِنَّا
فلما فرغ من شعره، صرخ على العبد، وقال: اشطرها نصفين، فليس لنا فيها، فائدة.
فبينما نحن كذلك، نتشاجر بالأشعار، تقدَّمَ إليَّ العبد، فأيقنتُ بالموت، ويئست من الحياة، وإذا بالعجوز، قد دخلت وقالت: يا ولدي، بحق تربيتي لك، تعفو عن هذه الصبية، فإنها، ما فعلَتْ ذنبًا، يوجب ذلك، وأنت شاب صغير، أخاف عليك من دعائها، وماذا يقول الناس، عن هذا الغضب الدموي، تشوه سمعتك بقسوتك، وتفقد، تقدير الناس.
ثم، بكت العجوز، ولم تزل تلحُّ عليه، حتى قال: قد عفوت عنها، ولكن، لا بد أن أعمل فيها أثرًا، أثرًا، يذكرها، بجريمتها.
ثم، أحضر قضيبًا من سفرجل، ونزل به على جسدي بالضرب، ولم يزل يضربني على ظهري وجنبيَّ، حتى غبتُ عن الوجود، من شدة الضرب، ويئست من حياتي، فأمَرَ العبيدَ، أنه إذا دخل الليل، يحملونني، ويأخذون العجوز معهم، تدلهم على البيت، فيرمونني في بيتي الذي كنتُ فيه سابقًا، ففعلوا ما أمرهم به سيدهم، ورموني في بيتي، وراحوا.
ولا زلت انا في غشوتي، حتى لاح الصباح، فلاطفت جسدي، بالمراهم والأدوية، واستمررت في مداواة نفسي، أربعة أشهر، حتى شُفِيت، فلما شفيت، بقيت أضلاعي، كأنها مضروبة بالمقارع، كما ترى، ثم، جئتُ إلى الدار، التي جرى لي فيها، ذلك الأمر، فوجدتُها خربة، فجئت إلى أختي هذه، التي من أبي، فسلَّمت عليها، وأخبرتها بخِزْيي، وبجميع ما جرى لي، فحثتني على تحمل مصابي بصبر، وقالت لي: هذا هو العالَم، مَن ذا، الذي من النكبات، سليم، و
ما الدّهرُ إِلاّ هكذا فاصْطبرْ لهُ
إذا اشتدَّ ضيق فانتظر بعدهُ فتحا
ثم، أخبرتني بخبرها، وبجميع ما جرى لها، مع أختَيْها، وما قد صرن اليه، وقدمت لي، أختي الصغرى، التي جاءت للعيش معها، بعد وفاة، والدتنا.
وفي كل يومٍ، تخرج أختاً، فتشتري لنا، ما نحتاج إليه، من المصالح، واستمررنا على هذه الحالة، إلى هذه الليلة، التي مضت، فخرجَتْ أمينة، تشتري لنا، ما نحتاج إليه، فوقع لنا ما وقع، من مجيء الحمال، والغرباء، ومن مجيئكم في صفة تجار، وكنا شرطنا شرطا، فخالفتمونا فيه، فقابلناكم على مخالفتكم، واستخبرناكم، عما جرى لكم، فحكيتم لنا حكايتكم، وما جرى لكم، فعفونا عنكم، وانفصلتم عنا، وما نشعر اليوم، الا ونحن بين يدَيْك، وهذه، حكايتنا.
فأعرب الخليفة، عن رضاه، بمعرفة، جميعَ ما جرى، لزبيدة وصافية، وتعجَّبَ من حكايتهما، فجعلهما، تاريخًا مثبتًا، في خزانته، ثم، إنه قال لزبيدة: سيدتي، أعلميني، ألم تخبرك الجنية، التي سحرت أختَيْك، عن منزلها، أو تعد، برؤيتك، مرة أخرى؟
أمير المؤمنين، أجاب زبيدة، نسيت أن أقول لجلالتك، أن الجنية، وضعت شيئًا من شعرها، في يديّ، في يوم أحتاج حضورها، قالت: أحرقي من هذا الشعر شيئًا، فأحضر إليك عاجلًا، ولو كنتُ، خلفَ جبل، قاف.
سيدتي، سأل الخليفة، أين، الشعر؟
وكانت زبيدة، حريصة أن تحمل الشعر معها، دائمًا، منذ ذلك الحين، في علبة، فأخرجتها من جيبها، وفتحت غطاءها، وأظهرت الشعر للخليفة، فقال: دعونا نجعل الجنية، تظهر الآن، لأن مرادنا، أن نأخذ، حاجتنا منها.
ووافقت زبيدة، فتم إحضار بعض النار، فوضعت قدراً من الشعر، وأحرقت منه شيئًا، فلما فاحت رائحته، اهتز القصر، وسمعوا دويًّا وصلصلة، وإذا بالجنية حضرت، على شكل سيدة، ترتدي ملابس جميلة، وكانت مسلمةً، فقالت: السلام عليك، يا أمير المؤمنين.
قال الخليفة: وعليكم السلام، ورحمة الله، وبركاته.
أمير المؤمنين، قالت الجنية، هذه الصبية، زرعت معي جميلًا، ولا أقدر، أن أكافِئَها عليه، فهي، أنقذتني من الموت، وقتلت عدوي، ورأيت، ما فعله معها أختاها، فما رأيت، إلا أني أنتقم منهما، فسحرتهما كلبين، بعد أن أردتُ قتلهما، فخشيت، أن يصعبَا عليها، وإنْ أردتَ خلاصهما، يا أمير المؤمنين، أخلِّصهما، كرامةً لك، ولها.
قال الخليفة:
إِياكَ أن تطمعَ في حاسدٍ
في كلِ ما بيديهِ من ودِّه
فإِنه ينقُضُ في سرعةٍ
جميعَ ما يبرمُ من عِقدهِ
ويكفي العفو، عن ضرب هاذين الكلبين، كلّ واحد منهما، مئة سوط، واِشْفِي، صافية، من ندوبها.
ثم، إن الخليفة، خصص لكل من الأمراء الغرباء، قصرًا رائعًا، في مدينة بغداد، وألحقهم بمجلسه، وأحضر القضاة والشهود، وزوَّجَ الثلاثة امراء، لزبيدة وصافية وأمينة، وحصل الخليفة هارون الرشيد، على ألف بركة، لإعطائه السعادة، لعدد من الأشخاص، الذين عانوا، من مصائب، لا تصدق.
فقالت عزيزة، لأختها لُبَابَة: يا اختاه، هذه قصة جميلة، لطيفة، لم يسمع مثلها قط، ولكن، احكي قصة أخرى، نقضي، ما بقي، من سهر ليلتنا.