إنَّ الطَّبيبَ لهُ عِلْمٌ يُدِلُّ به، أو حكاية: الملك فامان، والحكيم رَويَان، الليالي العربية

قال الصياد: إعلم، أيها العفريت، أنه كان في قديم الزمان، في مدينة الفُرس، وأرض الرومان، ملك، يقال له، الملك فامان، وكان ذا مال، وجنود وبأس وأعوان، وقد اُبْتُلِي بالبرص، وعجزت الأطباء، والحكماء، ولا السَّفُوفُ (كل دَوَاء يَابِس، غير معجون)، ولا الادهان، فهذا يوصِّي بأولادِهِ، وهذا يودِّعُ جيرانَهُ، وهذا يُغيِّرُ أخلاقَهُ، وهذا يُجهِّزُ أكفانَهُ.

وكان، قد رَحَلَ، الى مدينة الملك فامان، حكيمٌ، طاعن في السن، يقال له، الحكيم رَويَان، وكان، عارفًا بالكتب، تعلم كل علومها، عالمًا، بخواص النباتات والحشائش، والأعشاب المضرة والنافعة، وعِلْم الطب والنجوم، وكيف يكون، وعِلْمَ الفلاسفة، وحاز جميع العلوم.

ثم، إن الحكيم، لما دخل مدينة الملك فامان، وأقام بها، أيامًا قلائِلَ، فسمع خبر الملك، وما جرى له في بدنه، من البرص، الذي ابتلاه الله به، وان الأطباء، قد عجزت عن مداواته، وعلاجه، فلما بلغ ذلك الحكيم، باتَ تلك الليلة، ولما أصبح الله، بالصباح، واضاء بكوكبه، ولاح، لبس الحكيم، افخر ثيابه، ودخل على الملك فامان، وعرفه بنفسه، وأحسن ما به تكلَّمَ، وقال: أيها الملك، قد بلغني خبر البرص، الذي على جسدك، وما اعتراك منه، وقد عالجته الأطباء، ولم يعرفوا الحيلة في زواله، وانا أداويك، أيها الملك، ولا أسقيك دواء، ولا أدهنك بدهن.

فلما سمع الملك فامان، كلامَه، تعجَّبَ، وقال: كيف تفعل؟! وإن فعلت، أُغْنِيك لولد الولد، وأُنعِم عليك، واجعلك نديمي وجليسي، أتبرئني، من البرص، بلا دواء، ولا دهان؟!

قال رَويَان: نعم، بلا دواء، ولا دهان.

فتعجَّبَ فامان فقال: في أي الأوقات، وفي أي الأيام؟

قال رَويَان: يكون غدا، إِنْ شَاءَ اللَّه.

ثم، قام الحكيم رَويَان، ونزل المدينة، واكترى (استأْجر) بيتًا، أنْزَلَ فيه كتبه، واخرج الأدوية والعقاقير، وصنع كرة، وجعل صولجانًا، فيه قبضة مجوفة، اسقاها الادهان والعقاقير، التي عرفها واصطنعها، وأتقن الصولجان، بحسن حكمته، وصنعته، وأنشد:

نعم الإدام الخلّ، ما فيه ضرر
وكلُّ بيتٍ حل فيه، ما افتقر
يزيد في العقل، ودود البطن
يهلكه، محدِّد (شحذ) للذِّهن
وجاء في الكراث، فيما قد وردْ
قطع البواسير، وللرِّيح طرد
وينفع التُفَّاح، في الرَّعاف (النزف الأنفي)
مبرّد، حرارة الأجواف
وفيه نفع للسّقام (مرض، هزال، ضعف) العارض
ويورث نسيان، أكل الحامض
وفي السفرجل، الحديث قد ورد
تأكله الحبلى، فيحسن الولد
وأهْدَتْ لَنَا الأيَّامُ، بَطِّيخَةً
مِنْ حُلَلِ الأرضِ، ودارِ السَّلامِ (الجنة)
ماءٌ، وحَلْواءٌ، ورَيحَانَةٌ (طيبة الرائحة)
فاكِهَةٌ، حُرضٌ (أُشْنان، ما تغسل به الأيدي)، طعامٌ، إدامُ (ما يُطَيِّب)
تُنَقِّي المثَانَةَ، وتُصَفِّي الوُجُوه
تُطَيِّبُ النَّكْهَةَ، عشرٌ (عشر خصال) تَمَامُ

فلما صنع، وفرغ، طلع إلى الملك فامان، في اليوم الثاني، ودخل عليه، وتمنى له الخير، فأمره الملك فامان بالجلوس، وكان عنده الأمراء والحُجَّابُ، والوزراء وأرباب الدولة وكبارها، فلما استقر الديوان، ناوله الحكيم رَويَان، الصولجان، وقال: أيها الملك العزيز، خذ هذا الصولجان، واقبض عليه، مثل هذه القبضة، وانزل الميدان، واضرب به الكرة حتى تعرق، ويعرق كفك، فينفذ الدواء، فيسري في سائر جسدك، فإذا عرقت، وأثَّرَ الدواءُ فيك، فارجع إلى قصرك، وادخل بعد ذلك الحمامَ، واغتسل ونَمْ، فقد بُرِئت، بإذن الله تعالى، والسلام.

فأخذ الملك فامان، ذلك الصولجان من الحكيم، وأمسكه بيده وركب الجواد، ورُمِيَتِ الكرة بين يدَيْه، وساق خلفها حتى لحقها، وضربها بقوة، وهو قابض بكفه، على قصبة الصولجان، وما زال يضرب به الكرة، حتى عرق كفه وسائر بدنه، وتشرب جسده الدواء.

وعرف الحكيم رَويَان، أن الدواء سرى في جسده، فأمره بالرجوع إلى قصره، وأن يدخل الحمَّامَ من ساعته، فرجع الملك فامان من وقته، وأمر أن يُخلُوا له الحمامَ، فأَخْلَوْه له، وتسارَعَ الفراشون، وتسابَقَ المماليك، وأعدُّوا للملك قماشه، ودخل الحمام، واغتسل غسلًا جيدًا، ثم خرج، ونظر إلى جسده، فلم يجد فيه شيئًا من البرص، وصار جسده نقيًّا، مثل الفضة البيضاء، ففرح بذلك، غاية الفرح، واتسع صدره، وانشرح، ولبس ثيابه، وركب إلى قصره، ونام.

فلما أصبح الصباح، دخل الديوان، وجلس على سرير ملكه، ودخلت عليه الحُجَّابُ وأكابر الدولة، هذا ما كان، من أمر الملك، فامان، وأما ما كان، من أمر الحكيم، رَويَان، فإنه، رجع إلى داره، وبات، فلما أصبح الصباح، طلع إلى الملك، واستأذن عليه، فأذن له في الدخول، فدخل، وأشار إلى الملك، بهذه الأبيات:

إنَّ الطَّبيبَ لهُ عِلْمٌ يُدِلُّ به
ما دامَ في أجلِ الإنسان تَأخيرُ
حتّى إذا ما انقضتْ أيَّامُ مهلَتِهِ
حَارَ الطبيبُ وخَانتهُ العَقَاقيرُ
عجبتُ للطبيبِ يلحدُ في الخا
لقِ (الخالق) من بعدِ درسهِ التشريحا
دَوَاؤكَ فيكَ وما تَشْعُرُ
ودواؤكَ منكَ وما تبصرُ

ودخل عليه الحكيم رَويَان، فلما فرغ من شعره، نهض له الملك، قائمًا، وعانقه، وأجلسه بجانبه، وحدثه، وخلع عليه وأعطاه، وإذا، بموائد الطعام، قد مُدَّتْ، فأكل صحبتَه، وجعله نديمه وجليسه، وقال له: مثلك، حكيم الحكماء، معلمهم، يخدم الملوك، ويجالسهم.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت، وفي الغد قالت: بلغني، أيها الملك السعيد، وما زال الحكيم رَويَان، عند الملك فامان، والملك ينادمه، طول نهاره، فلما أقبل الليل، أعطى الحكيم، غير الخلع والهدايا، وأركبه جواده، والملك فامان، يتعجَّب ويقول: إن هذا الرجل، داواني، بغير دواء، والذي عجزت عنه الحكماء، فيجب عليَّ، أنْ أتخذه، جليسًا وأنيسًا، مدى الزمان، فواللهِ، ما يُستحق له، إلا كل اكرام.

وبات الملك فامان، مسرورًا فرحان، بصحة جسمه، وخلاصه من مرضه، فلما أصبح، خرج الملك، وجلس على سرير ملكه، ووقفت أرباب دولته، بين يدَيْه، وجلست الأمراء والوزراء، على يمينه ويساره، ثم طلب الحكيم رَويَان، فدخل عليه، فقام له الملك، وأجلسه بجانبه، وأكل معه وحيَّاه، وخلع عليه وأعطاه، ولم يزل يتحدَّث معه، إلى أن أقبل الليل، فانصرف الحكيم، إلى داره، وبات مع زوجته، وهو فرحان، شاكر، للملك فامان.

فلما أصبح الصباح خرج الملك، إلى الديوان، وقد أحدقت به، الأمراء والوزراء والحجاب، وكان له، وزيرٌ من وزرائه، بَشِع المنظر، لئيم، بخيل، حسود، مجبول على الحسد والمقت، فلما رأى، قرب الحكيم رَويَان، من الملك فامان، ورأى، ما أعطاه الملك، من المال الجزيل، والجاه والشرف، وخاف، أن يعزله الملك، والحكيم قرَّبَ، فحسده، والحَسَدُ، هُوَ المَلِيلةُ (حُمَّى باطنة) الكُبْرَى، وأضمر له شرا، ولَيْسَ لِلحاَسِدِ، إلاّ ما حَسَدَ.

وأن الوزير الحسود، تقدَّمَ إلى الملك فامان، وقبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه، ودعا له، بالعز والنِعَم، وقال: يا ملك العصر، أيها الملك الجليل، والسيد الفضيل، أنت، الذي شمل الناسَ إحسانُك، وإنّي، قد نشأت في احسانك وبركتك، ولك عندي نصيحة، والصِّدْقُ، فِي بَعْضِ الأمُورِ، عَجْز (أي، ربما يضر الصدقُ، صاحبَه)، فإن أمرتني أن أبديها، أبديتها لجلالتك.

قال الملك، وقد أزعجه كلام الوزير: ويلك، ما نصيحتك؟

قال الوزير: أيها الملك الجليل، قد قالت القدماء، مَن لم ينظر في العواقب، فما الدهر له بصاحب، وإنّي، قد رأيتُ الملكَ، على غير صواب، حيث أنعم على عدوِّه، وعلى مَن أتى، يطلب زوالَ ملكه، وقد أحسنت إليه، وأكرمته غاية الإكرام، وقرَّبَته غايةَ القرب، وأنا أخشى على الملك، منه.

قال الملك: من تزعم، ولمن تعني، وعن من تشير؟

قال الوزير: أيها الملك، إن كنتَ نائمًا، فاستيقظ، فأنا أشير، إلى الحكيم رَويَان، الذي أتى، من بلاد الرومان.

قال الملك: هذا عدوي!؟ إن هذا صديقي، وهو أصدق الناس لي، وأعزهم عندي، لان هذا الحكيم، داواني، بشيء قبضته بيدي، وأبرأني من مرضي، الذي عجزت فيه الأطباء، وأعيا الحكماء، وهو لا يوجد مثله، في هذا الزمان، غرباً وشرقاً، بعداً وقرباً، وأنت تقول عنه هذا!؟ وأنا، من اليوم، أُجري عليه الجرايات، الجرايات ولو قاسمته نعمتي، وملكي، كان قليلا في حقه، وما أظنُّ أنك تقول ذلك، إلا حسدًا.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث المباح.