لماذا المال، كالذَّهب، والفضَّة، والدراهم؟

أبو الفضل الدمشقي، في كتابه: "الإشارة إلى محاسن التجارة، وغشوش المدلسين فيها"، الذي الفه في القرن السادس بعد الهجرة، اي الثاني عشر ميلادي، قال:

لما كان الانسان كثير الحاجات، بعضها ضرورية، بعضها طبيعية، وبعضها عريضة وضعية، كحاجته إلى منزل مبني، وثوب منسوج، وغذاء مصنوع، وكحاجته عند المرض إلى أدوية مركبة من عقاقير وأشربة.

وكل واحد من هذه الحاجات، يحتاج إلى أنواع من الصناعات حتى تتكون، ثم حتى تتم.

كما يفعل في النبات، وحاجته أن يزرع أو يغرس، ثم ينقى، ثم يسقى ويربى، ثم يحصد أو يلقط، ثم يحتاج إلى صناعة اخرى تكون تمام الانتفاع به.

وكحاجة القمح بعد حصاده، إلى الدارس (دَرَسَ الدَّارِسُ سَنَابِلَ القَمْحِ: دَاسَهَا بِمِدْراةٍ أي مشط، أو بِدَرَّاسَةٍ)، والذرو (التَّفْرِيقُ وَالبَعْثَرَةُ)، والغربلة، والتنقية، والطحن، والنخل، والعجن، والخبز، حتى يصلح أن يتغذى به.

وحاجة الكتان بعد البلّ (رطّبه بالماء ونحوه)، والتعطين (أَلْقَاهُ فِي المَاء وَتَركه ليلين وترق أليافه)، إلى النفض، والدق، ثم المشط والغزل، ثم إلى الطبخ، ثم سائر أعمال النساجة (صناعة النسيج)، ثم إلى الصفر (صَبَغَهُ بصُفْرَةٍ، والصُّفْرة أَيضاً السَّواد) والقصارة (القَصَّارُ والمُقَصِّرُ: المُحَوِّرُ للثياب، لأَنه يَدُقُّها بالقَصَرَةِ، التي هي القِطْعَة من الخشب، وحرفته القِصارَةُ)، والخياطة، حتى يصلح أن يكتسي به.

ولم يمكن الواحد من الناس لقصر عمره، أن يتكلف جميع الصناعات كلها، وإن كان فيه احتمال لتعلم كثير منها، فليس يقدر على جمعها كلها البتة حتى يحيط بها من أولها إلى اخرها علماً.

ولأن الصناعات مضمومة بعضها إلى بعض، كالبناء يحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى الحداد، وصناع الحديد يحتاجون إلى صناعة أصحاب المعادن، وتلك الصناعات تحتاج إلى البناء، فاحتاج الناس لهذه العلة، إلى اتخاذ المدن والاجتماع فيها، ليعين بعضهم بعضاً، لما لزمتهم الحاجة إلى بعضهم بعضاً.

فلما كان الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ولم يكن وقت حاجة كل واحد منهم وقت حاجة الآخر، حتى إذا كان واحد منهم مثلاً نجاراً، فاحتاج إلى حداد فلا يجد، ولا مقادير ما يحتاجون إليه متساوية، ولم يمكن أن يعلم ما قيمة كل شيء من كل جنس، وما مقدار العرض عن كل جزء من بقية الأجزاء من سائر الأشياء، وما مقدار اخرى كل صناعة اخرى الصناعة الأخرى، فلذلك احتيج إلى شيء يثمن به جميع الأشياء، ويعرف به قيمة بعضها من بعض، فمتى احتاج الانسان إلى شيء مما يباع، أو يستعمل، دفع قيمة ذلك الشيء من ذلك الجوهر، الذي جعل ثمناً لسائر الأشياء.

ولو لم يفعل ذلك، لكان الذي عنده نوع من الأنواع التي يحتاج إليها صاحبه، كالزيت، والقمح، وما أشبههما، وعند صاحبه أنواع أخر، لا يتفق أن يحتاج هذا إلى ما عند ذاك، ويحتاج ذاك إلى ما عند هذا في وقت واحد، فتقع الممانعة بينهما.

وإن وقع الاتفاق بينها، في حاجة كل واحد منهما إلى ما عند صاحبه، لم يقع بينهما اتفاق في أن يكون يحتاج هذا مما بيد ذاك، إلى ما يكون قيمته مقدار ما يحتاج إليه ذلك مما في يد هذا، لا يزيد ولا ينقص.

فإنه قد تكون حاجة صاحب القمح مثلاً إلى رطل زيت، وحاجة صاحب الزيت إلى حملي قمح، وقد تكون حاجة صاحب القمح إلى زيت كثير، وحاجة صاحب الزيت إلى قمح قليل، فيقع الاختلاف بينهما إذ ذاك.

فنظرت الأوائل في شيء يثمن به جميع الأشياء، فوجدوا جميع ما في أيدي الناس، إما نبات، أو حيوان، أو معادن، فأسقطوا النبات والحيوان عن هذه الرتبة، لأن كل واحد منهما مستحيل يسرع إليه الفساد.

وأما المعادن، فاختاروا منها الأحجار الذائبة الجامدة، ثم أسقطوا منها الحديد، والنحاس، والرصاص.

فأما الحديد فلإسراع الصدأ إليه، وأما الرصاص فلتسويده، وإفراط لينه فتتغير أشكال صورته. كذلك أسقط بعض الناس النحاس، لما يركبه من الزنجار(صدأ)، وطبعه بعض الناس كالدرهم، فإنهم عملوا منه فلوساً يتعاملون بها.

ووقع إجماع الناس كافة، على تفضيل الذهب والفضة، لسرعة المواتاة (المطاوعة) في السبك، والطرق، والجمع، والتفرقة، والتشكيل بأي شكل أريد، مع حسن الرونق، وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وبقائهما على الدفن، وقبولهما العلامات التي تصونهما، وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس.

فطبعوهما، وثمنوا بهما الأشياء كلها، ورأوا أن الذهب أجل قدراً في حسن الرونق، وتلزز الأجزاء، والبقاء على طول الدفن، وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منه بعدة من أجزاء الفضة، وجعلوهما ثمنا لسائر الأشياء.

فاصطلحوا على ذلك، ليشتري الانسان حاجته في وقت إرادته، وليكون من حصل له هذان الجوهران، كأن الأنواع التي يحتاج إليها حاصلة في يده، مجموعة لديه متى شاء، فلذلك لزمت الحاجة في المعاش إلى المال الصامت (كالذَّهب والفضَّة والدراهم المضروبة، وعكسه الناطق كالماشية).

وقال بعض الأدباء : العين(المال) للعين قرة، وللظهر قوة، ومن ملك الصفراء ابيض وجهه، واخضر عيشه.