أبو الفضل الدمشقي، في كتابه: الإشارة إلى محاسن التجارة، وغشوش المدلسين فيها، الذي الفه في القرن السادس بعد الهجرة، اي الثاني عشر ميلادي، قال:
قال الحكيم، إذا افتقر الرجل، اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان ظنه به حسناً، ومن نزل به الفقر فلا بد له من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب بهاؤه.
وليس من خلة هي للغني مدح، إلا هي للفقير عيب، فإن كان الفقير شجاعاً سمي أهوج، وإن كان جواداً قيل مفسد، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لسناً سمي مهذارا، وإن كان صموتا سمي عيياً.
وحفظ المال يحتاج إلى خمسة أشياء:
- أن لا ينفق أكثر مما يكتسب.
- أن لا يكون ما ينفق، مساوياً لما يكسب.
- أن يحذر الرجل أن يمد يده إلى ما يعجز عنه، وعن القيام به، مثل من شغل ماله في قرية يعجز عن عمارتها.
- أن لا يشغل الرجل ماله بالشيء الذي يبطئ خروجه عنه، وإنما يكون ذلك مما يقل طلابه، لاستغناء عوام الناس عنه.
- أن يكون الرجل سريعاً إلى بيع تجارته، بطيئاً عن بيع عقاره.
وقال خالد بن يزيد المهلبي لابنه، وهو يوصيه عند موته: انت غلام لسانك فوق عقلك، وذكاؤك فوق حزمك، لم تعجمك الضراء ولم تزل في سراء، والمال واسع وذرعك ضيق، وليس شيء أخوف عليك عندي من حسن الظن بالناس، فإنهم والله يا بني يخدعون شمالك عن يمينك، وسمعك عن بصرك، فخف عباد الله على حسب ما ترجو الله.
وأول ما وقع في روعي، أن الله سيحفظ عقبي من بعدي، ويقدمني على خير إن شاء الله، وذلك أني غلبتني شهوتي يوماً، فأخرجت ديناراً لقضاء وطري، فوقعت عيني على سكته، وعلى اسم الله عز وجل المكتوب عليه، فقلت في نفسي، إني لمن الخاسرين الضالين إن أنا أخرجت من يدي ديناراً من الذهب الأحمر، عليه اسم الله ، لا إله إلا الله محمد رسول الله، واعتضت به إثماً في الآخرة، وشهوة تعقب ندامة في الدنيا، وأنا أريد أن أخرج كل يوم دراهم، على كل درهم منها الإسلام كله، ولا يجب إخراجها إلا فيما اجتمع أن يكون لله تعالى فيه رضي، ولي فيه مصلحة، وفعلت ذلك، وأمسكت عن شهوتي، وأنا أرجو أن هذا الفعل حسنة يرزقني بها الله الجنة ثم مات.
أما انفاق المال، فينبغي أن يحذر فيه خمس خصال، وهي:
- اللؤم.
- التقتير.
- السرف.
- البذخ.
- سوء التدبير.
فأما اللؤم، فهو يا أخي، الامساك عن أبواب الجميل، مثل مواساة القرابة، والافضال على الصديق، وتفقد ذوي الحرمات، وتعاهد أبواب البر، مثل الصدقة على محاويج الناس، وكل ذلك على قدر الامكان والوسع والطاقة. فاللئيم يؤتى من قبل جهله بالجميل، وقلة معرفته بقدره وفضيلته.
وأما التقتير، فبالتضييق فيما لا بد منه، ولا مدفع له، مثل أقوات الأهل ومصالح العيال. والمقتر يؤتى من قبل انه لا يعرف أبواب الواجب، ويجهل العدل، وما في تركه من النقص.
وأما السرف، فهو الانهماك في اللذات، واتباع الشهوات. والمسرف يؤتى من قبل إيثاره اللذة على صواب الرأي.
وأما البذخ، فهو أن يتعدى الرجل ما يتخذه أهل طبقته، وطوره، فيما يتغذى به، أو ما عساه أن يلبسه طلباً للمباهاة.
وأما سوء التدبير، فأن لا يوزع نفقته في جميع حوائجه على التقسيط والاستواء، حتى يصرف إلى كل باب منها قدر استحقاقه، فإنه متى لم يفعل ذلك، وأسرف في واحد، وقصر في اخر، لم تتشاًكل أموره، ولم تنتظم أحواله، ولم يشبه بعضها بعضاً.
ومن سوء التدبير أيضاً، أن لا يتقدم في اتخاذ الشيء الذي يحتاج إليه عند كثرته، وإمكانه، والأمن من فساد يعرض له، فيؤخر ذلك إلى حين تدعوه إليه الحاجة مع شدة الاضطرار، فيأخذه كيفما اتفق، وبما كان من الأثمان، ويزول عن حكم الاختيار.
ومن سوء التدبير أيضاً، أن يتقدم في اتخاذ ما يحتاج إليه لمدة يفسد فيها، كشرائه قبل أوان الحاجة إليه، أو يتلف بإهماله لصيانته، وترك الحوطة عليه.
وسيء التدبير يؤتى من قبل أنه لا يعرف مقادير النفقة ولا أوقاتها. وقيل: إن من لم يحسن أن يمنع، لم يحسن أن يعطي. ولا يقلّ مع الإصلاح شيء، ولا يبقى مع الفساد شيء، وليحتط من ابتاع، فإنما يغبن عقله، لا درهمه.
ومن رسالة لبعض الأدباء، احذر أن تخرج من يدك درهماً، حتى ترى في يدك ما هو خير منه، فإن رمل عالج، لو أخذ منه ولم يزد عليه، ذهب عن اخره. والجبال إنما تفنى بالهباء الذي يتعلق بالأميال.
وكتب بعض الأدباء إلى ولده: حفظك الله يا بني، أما بعد فكن مع الناس كلاعب الشطرنج، احفظ شيئك، وخذ شيء غيرك من وجه حق يوجب لك أخذه، فإن مالك إن خرج من يدك لم يعد إليك، وإنما يصير في عدد ما مضى وعاد، وثمود وأصحاب الرس، واعلم إن الدينار كالمحموم، فإذا صرفته مات، ومن مات فقد فات .
وقال عتبة بن كثير :
الناس أَتْباعُ من دَامَتْ لَهُ النِّعَم
والويل للعبد إن زلّت به القدم
المال زين ومن قلّت دراهمه
حي كمن مات إلاّ أنّه صنم
لما رأيت أخلّائي وخالصتي
والكلّ مستتر عنّي ومحتشم
أبدوا جفاءَ وأعراضنا فقلت لهم
أذنبت ذنباً فقالوا ذنبك العدم
وقال غيره في هذا المعنى:
وكان بنو عمّي يقولونَ مرحباً
فلمّا رأوني مُعْدَمَاً مات مرحبُ
كأنّ مقلاً حين يغدو لحاجة
إلى كلّ من يلقى من الناس مذنبُ