المنمنمين يصيدون الدنيا بالدين، وهؤلاء القوم هم أهل الرياء، مظهرون التقشف، وإفراط التنسك، ومجانبة الحرام، ومواظبة الصلاة والصيام، لكي يشتهر ذكرهم بذلك عند القضاة، والحكام، والخواص، والعوام.
و يلقون ذوي المال بالبشر والاكرام، والتلطف في المقال، ويغشَّون أبواب الملوك، ويظهرون الكفاية والغنى، ويجعلون الدين سلماً إلى الدنيا.
وأكثر أغراضهم، أن تودع عندهم الأموال، أو تسند إليهم الوصاية على الأيتام، وتبجلهم العوام، وتقبل شهادتهم الحكام، وتندبهم الملوك إلى الأمانات، والأشراف على المستغلات.
وهؤلاء شر من اللصوص، والقطاع، والمشهورين بالعيث والفساد، وذلك إن شهرة هؤلاء بالشر، تدعو الناس إلى الاحتراس منهم، وتشبه هؤلاء بأهل الخيريدعو إلى الاغترار بهم، وقد قيل: إن الرياء هو الشرك الأكبر.
وشر الخونة هم المبرطخين، والناس بهم أكثر اغتراراً.
ذلك أن صاحب المال، إذ ندب أحدهم لشراء حاجة، سارع فيها، واحتاط في جودتها أتم الاحتياط، ثم وضع من أصل ثمنها شيئاً، فقام به من عنده، حتى يظهر لصاحب المال انه شهم عظيم، واسترخاصه لما يبتاعه برسمه، ونصحه، وثقته، وأمانته.
ولا يزال هذ دأبه، حتى يقرب من قلبه، ويحبه، ويسكن إليه، ويعول في الكثير عليه، فيفوز به ويستقطعه.
والممخرقون المموهون ، يتعرضون لذوي الآمال الكثيرة الواسعة، تعرض الأكفاء، ويظهرون الكفاية والاستغناء، ويباسطونهم مباسطة الأصدقاء، ويعتمدون جودة اللباس، ويستعملون كثيراً من الطيب.
ثم ان أحدهم بعد ذلك، يذكر لصاحب المال الواسع، انه ربح الأرباح العظيمة، ويوهمه بذلك ليصل إليه على غرة، ولا يزال ذلك دأبه، حتى يستقر في نفس صاحب المال، أنه يكسب في كل سنة، الجمل الكثيرة من المال.
فيقول له على سبيل المداعبة والمجون، يا أبا فلان، أنت تريد الدنيا كلها لك، لم لا تشركنا في متاجرك هذه، وما تجده من الأرباح الكثيرة.
فيقول له، أنت جبان عن إخراج الدينار، وتظن أنك إن أخرجته خطف، ولا تدري أنه كالبازي، إن أرسلته أكل وأطعمك، وإن أمسكته لم يصد شيئاً، واحتجت أن تطعمه، وإلا مات. كذلك الدينار، إن أمسكته لم تكسب شيئاً، واحتجت إلى أن تنفق منه.
فيقول له، الأمر والله كما قلت، ولو أشرت عليّ بشيء لم أخالفك.
فيقول الممخرق المموه، والله لو كان عندي علم أنك تنشط، لكنت فعلت معك خيراً كثيراً، وكان انضاف إلى مالك الجمل الكثيرة الواسعة، ولكن ما فات لا كلام فيه، والعمل في المستقبل، وسوف يستقر بيني وبينك، ما تحمد عاقبته ان شاء الله.
فيشكره صاحب المال، الشكر التام على هذا القول، ويعتقد انه قد فاز بجملة من المال، ولا يزال صاحب المال يلزه، وهو يمطله باستلام المال، ليزداد حرصاً، ورغبة، حتى يسلمه المال، فإذا قبضه منه، يكون حاله معه مثل حاله مع المطمع، إذا صار المال تحت يده.
أما المطمعون، فإنهم يعترضون أصحاب الأموال، بالبشر، والاكرام، والتحية، والاعظام، إلى أن يأنسوا بهم، ويعرفوهم بالمشاهدة.
وربما قضوا ما قدروا على انجازه من حوائجهم، إلى أن يألفوهم، ويحصل بينهم شبه الصداقة.
ثم إن أحدهم يذكر لصاحب المال، في عرض المقال، انه قد تعرض فرص مفيدة، محمودة العاقبة، حاضرة النفع، ويذكر أنه تاجر ويقول:
إنني فكرت فيما عليك من المؤن، والنفقات، والخرج، وما تأخذ به نفسك الكبيرة من التوسعة، وإن هذا الأمر يعود بضرر ما لم تساعد المكاسب، وما غرضي إلا التقرب إليك، ونصحك، وخدمتك.
ما أريد والله شيئاً من هذا المتجر، يكون تحت يدي، ولا أقبض منه شيئاً بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب، بل يكون ذلك بيدك، أو بيد أحد غلمانك، أو نوابك.
ويخرج له في صورة الناصحين، المشفقين، المحبين، ويكثر عليه السفسطة، والكرّ، ويذكر له أصناف الأطماع كلها، ويمنيه المحال، فإذا استجاب إلى ذلك، كان أمره معه على أحد قسمين.
أن يأمنه، ويجعل المال تحت يده، فيعطيه منه اليسير على صفة انه من الربح، ويطاول به الأوقات، ويدافع به الزمان، ويدفع إليه في الأحايين الشيء اليسير الحقير، حتى يلتقيا على الوسط، ثم يحتج عليه ببعض الآفات والشوائب، فإن لزه صاحب المال وأكد في الطلب، قابحه، وكاشفه وبرطل من جملة المال جهات تحميه، وتدفع عنه، ثم يبكي إليهم ويشتكي ويقول: هذا راباني، وافقرني، واستخدمني، وأكل كدي، وما أعطاني شيئاً، ويريد أن يخسرني ويهلكني. فإن روعي صاحب المال، اكتتب له عليه حجة، ثم لا يستوفيها إلا في الآخرة، بين يدي الله عز وجل.
أن لم يأمنه، وعول على أن يكون القبض بيده، والمتاع مخزوناً عنده، واطأ عليه البائعين والمشترين، وحصل لنفسه، وعمل على ما يفوز به.
فإن حال سعر المشتري إلى النفاق، وحصل لصاحب المال أدنى ربح، ولو كان يسيراً حقيراً، تبجح بذلك، واعتد به عليه، واوهمه أن مفاتيح الأرزاق بيده.
وإن كسد ورخص، أحال على الأقدار وقال، ليس لي علم بالغيب، ولا في يد أحد من الأمر شيء، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت.
واعلم يا أخي وفقك الله، أن شراً من هؤلاء المطمعين، وأشد منهم غائلة، القوم الذين يتعرضون لصنعة الكيمياء، وهم الطماعون المطمعون، في عمل الذهب والفضة من غير معدنيهما، فيجب على كل عاقل من الناس الحذر من التقرب إليهم، والاستماع لشيء من حديثهم أبداً، والله يكفي كل مسلم أمرهم إن شاء الله.
المصادر:
- الإشارة إلى محاسن التجارة، وغشوش ،المدلسين فيها،
أبو الفضل الدمشقي،
1175م.