القيمة المتوسطة، تجارة، القرن السادس بعد الهجرة

أبو الفضل الدمشقي، في كتابه: "الإشارة إلى محاسن التجارة، وغشوش المدلسين فيها"، الذي الفه في القرن السادس بعد الهجرة، اي الثاني عشر ميلادي، قال:

الأعراض وتشتمل على الأمتعة، والبضائع، والجواهر، والحديد، والنحاس، والرصاص، والخشب، وسائر الأشياء المصنوعة منها...

الأعراض تحتاج الى التحفظ في وقت شرائها، وتحصيلها، وذلك بأمرين.

- الأول، العلم بقيمتها المتوسطة، وبجيدها ورديئها، وغشوش المدلسين فيها.

- والثاني، معونة الخبيرين بها، إذا كانوا ثقات، واستماع نصحهم، فقد قال النبي: «استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها».

أما بتثمين ما يثمن من الأعراض، ومبلغ قيمته المتوسطة، فهو بالإضافة الى المكان الذي يلتمس معرفة ذلك فيه، وذلك لأن قيمة الأسفاط الهندية بالمغرب مخالفة لقيمتها باليمن، والمتوسط والمعتدل من أسعارها في أحد المكانين غير المتوسط والمعتدل من أسعارها في المكان الآخر. وقيمة المرجان بالمشرق، غير قيمته بالمغرب، وذلك لأجل القرب من المعادن.

وكذلك الأمكنة المشهورة، كل مكان منها يختص بفن من الفنون لا ينطبع في غيرها مثله، فإن قيمة ذلك الشيء المصنوع في معادنه، مخالفة لقيمته في الأما كن التي يستظرف فيها.

والوجه في تعرّف القيمة المتوسطة، أن تسأل الثقات الخبيرين عن سعر ذلك في بلدهم، على ما جرت به العادة أكثر الأوقات، المستمرة، والزيادة المتعارفة فيه، والنقص المتعارف، والزيادة النادرة، والنقص النادر، وتقييس بعض ذلك يبعض، مضافاً إلى نسبة الأحوال التي هم عليها من خوف أو أمن، ومن توفر وكثرة أو اختلال، و تستخرج بقريحتك لذلك الشيء قيمة متوسطة، أو تستعملها من ذوي المعرفة والأمانة منهم، فإن لكل بضاعة، ولكل شيء ما يمكن بيعه، قيمة متوسطة معروفة عند أهل الخبرة به.

فما زاد عليها سمي بأسماء مختلفة على قدر ارتفاعه، فإنه إذا كانت الزيادة يسيرة قيل قد تحرك سعره، فإن زاد شيئاً قيل قد نفق، فإن زاد أيضاً قيل ارتقى، فإن زاد قيل قد غلا، فإن زاد قيل قد تناهى.

فإن كان مما الحاجة إليه ضرورية كالأقوات، سمي الغلاء العظيم والمبير (الهالك لا خير فيه).

وبإزاء هذه الأسماء في الزيادة أسماء النقصان، فإن كان النقصان يسيراً قيل قد هداً السعر، فإن نقص أكثر قيل قد كسد، فإن نقص قيل قد اتضع، فإن نقص قيل قد رخص، فإن نقص قيل قد بار، فإن نقص قيل قد سقط السعر وما شاكل هذا الاسم.

والتجار المجربون يقولون، اشتر غالي الرخيص، ولا تشتر رخيص الغالي.

مثال ذلك، انه إن كان الشيء، قد جرت العادة في أكثر الأوقات أن يكون ثمنه دينارين، وكان الديناران هما قيمته المتوسطة، ثم زاد سعره بسبب انقطاع طريق، أو تأخر وروداً، أو كثرة طالب، أو قلته هو في ذاته بسبب إحدى الجوائح السماوية أو الأرضية، فبلغ أربعة دنانير، ثم استمر على ذلك وقتاً من الزمان، ثم صلح سعره فبلغ ثلاثة دنانير، فهذا يسمونه رخيص الغالي، ومشتريه من الخزان معيب عند التجار، لأن الأشياء ترجع إلى حقائقها ومتوسطاتها، وإن تمادت على خلاف ذلك وقتاً ما.

فإن نقص سعره فبلغ ديناراً واحداً، إما لقلة طالب، أو لأمن سبيل، أو زيادة ريع وأضداد ما تقدم ذكره، ثم تمادى على ذلك مدة، ما ثم تحرك سعره فبلغ ديناراً واحداً ونصف دينار، فإن هذا يسمونه غالي الرخيص، ومشتريه محمود عند التجار، لأن سعادة البضاعة تدل على عودتها إلى حالها الأول.

قال الشاعر:
زيادة شيء تلحق النفس بالمنى
وبعض التغالي في التجارة أربح

وروي عن النبي أنه قال: «نزعت البركة من الشيء الغالي، والشيء الرديء»، فالشيء الغالي قد أخذ الفائدة فيه غيرك، ونزعت منه البركة، فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح.

والأعراض تحتاج الى صيانتها من ان يسرع اليها الفساد، والتغيير، وذلك بشيئين.

- أحدهما العلم بالشيء المفسد لكل نوع منها، ما هو، وكم هو.

- والآخر، المعرفة بما يمنع من ذلك الفساد، وبما يزاد في ذلك التوقي، وينقص، بحسب اختلاف الأوقات، والأحوال، من صيف وشتاء، وسفر وحضر.

مثال ذلك، فيما يزاد وينقص، أن أحد الأشياء المتلفة للمتاع، الغبار، والبلل من الماء، والندى، وغير ذلك من الأدهان.

واعلم، أن البضائع صاحبها معرض لشغل القلب، والخوف من اتضاعها، سيما إذا كانت غالية، أو مما يفسد بسرعة.