أبو الفضل الدمشقي، في كتابه: الإشارة إلى محاسن التجارة، وغشوش المدلسين فيها، الذي الفه في القرن السادس بعد الهجرة، اي الثاني عشر ميلادي، قال:
فأما الصنائع، فمنها علمية، ومنها عملية، ومنها مركبة عملية وعلمية، ومنها مركبة من صناعة وتجارة.
فأما الصنائع العلمية، فالفقه، والنحو، والهندسة، وما جرى هذ المجرى.
وأما الصنائع العملية، وهي المهن، فالحياكة، والفلاحة، ومشط الصوف، والكتّان، وما جرى هذ المجرى، مما لا يحتاج صانعه في إدراكه، الا الى كثرة المشاهدة، والدربة، فيثبت رسوم ذلك في نفسه، كمثل البهيمة التي عودت نوعاً من الرياضة، فعرفته، وثبتت رسومه عندها.
وقد قيل قديماً، الصناعة في الكف، أمان من الفقر، وامان من الغنى. وذلك أن الصانع بيده، لا يكاد كسبه يقصر عن إقامة ما لا بد منه، ولا يكاد كسبه يتسع لاقتناء ضيعة، أو عقد نعمة، وأيضاً فإنه مع ذلك، إذا ميّز الناس دخل في أدون طبقاتهم.
وأما الصنائع المركبةمن العلمية والعملية، فكالطب، والفروسية، والكتابة، وما شاكل ذلك.
وأما الأشياء المركبةمن صناعة وتجارة، فكالبزازة (بائع «البز» أي الثياب والأقمشة)، والعطارة، وما شاكل ذلك، لأن كل واحدة من هاتين مركبة.
أما دخولها في باب الصنائع، فلأجل حاجة البزاز إلى معرفة مقادير الأمتعة، وجيدها، ورديئها، وغشوش المدلسين فيها. والبزاز أيضاً يحتاج إلى طي المتاع، ونشره، وما يعتمد في حفظه.
وأما العطار، فإنه يحتاج إلى معرفة العقاقير، والأدوية، والأشربة، والطيب، وجيد ذلك ورديئه، وغشوش المدلسين فيه، وما يحول ويفسد بسرعة، وما لا يسرع إليه الفساد، وما يعتمد في حفظه وإصلاحه، وتركيب معاجين وأشربة، وسفوفات، وجوارشات.
وأما دخول العطار والبزاز في باب المتاجرة، فلأجل البيع، والشراء، والمرابحة، وما يجري هذا المجرى.
وقد قيل، قيمة كل أمرئ ما يُحْسِنُ. وقيل أيضاً، الناس أبناء ما يحسنونه. فالعلم بالصنائع والعلوم على الاطلاق حسن، لكن بعضها أفضل من بعض، ويجري التفاضل بينها من وجهين، وهما:
- من قبل موضوعها.
- ومن قبل غايتها.
مثال ذلك ، قولنا الطبيب أفضل من النجار.
بيان ذلك، أن موضوع الطبيب الذي ينظر فيه، ويبين أثر صناعته، أبدان الناس، وموضوع النجار الذي ينظر فيه، ويبين أثر صناعته، الخشب، وأبدان الناس أفضل من الخشب.
وأما من قبل الغاية، فإن غاية الطبيب حفظ الصحة الموجودة، وإعادة الصحة المفقودة. وغاية النجار، تأليف الخشب على الصورة القائمة في نفسه، كالسرير والباب. وحفظ الصحة على الأبدان السقيمة، أفضل من عمل الباب، والسرير.
فمنها ما يرفع أهله ويشرفهم، ويغنيهم عند المساجلة والمكاثرة عن كريم المناسب وشريف المناصب.
ومنها ما يضع المحترفين به أشد الضعة، وبخملهم أقبح الخمول، حتى لا يكون لأحد منهم نظر في منزلة، ولا كفاءة في مناكحة، وإن كان لبعضهم قديم يذكر به، وأب معروف يعتزى إليه.
وقيل:
لا تطلبنّ معيشة بمذلّة
فليأتينك رزقك المقدورُ
وأما الصنائع التي كرهتها الحكماء الأخيار، فمنها الصنائع المضرة بالعقول والآراء، ومنها الصنائع المضرة بالأدمغة والأجسام. مثل معاناة الأشياء المنتنة، والسمك، والغبار، و مثل من يعرض نفسه للصفع، والسخرية، والاستهزاء، والهتار، والقيادة، فنعوذ بالله من كل شر.