التجارة، والتجار، في القرن السادس بعد الهجرة، اي الثاني عشر ميلادي

يجب في كل ما تشتريه، أن لا تعول على أول نظرة، فقد قيل أول نظرة سحر. وقيل اتهم نظرك فيما تستحسن، حتى يكون الاستحسان على حال واحد لا ينقصه تكرار النظر، فإن تكرار النظر يجلو كل صدأ، فإذا تكرر، وثبت في الأوقات المختلفة على حال واحد في الجمال، فهو الجميل حقاً، فإن زاد، فهو الغاية القصوى، وذلك الذي قصده الشاعر بقوله:

يزيدُك وجهه حُسناً
إذا ما زدته نظرا

وبين نظر الراغب في الشيء، أو المحتاج إليه، وبين نظر الزاهد فيه، بون (مسافة) بعيد، وذلك أن المستغني عن الشيء ينظر إليه بنظر سالم من الشهوة، ويفكر فيه بعقل خالص من الهوى والرغبة، وذو الحاجة يستحسن غير الحسن، ويهون عنده غير الهين.

وأصل التجارة في البيع والشراء، أن يشتري من زاهد، أو مضطر إلى أخذ الثمن، ويبيع من راغب، أو محتاج إلى الشراء، لأن ذلك من أوكد الأسباب إلى مكان الاستصلاح في المشتري، وتوفر الربح.

والتجارة، إذ ميزت من جميع المعايش كله، وجدتها أفضل، وأسعد للناس في الدنيا. إلا أن التجارة مع فضلها، مُّبَيِّنَة (بِوُضوحٍ) على الشدة، والمصارفة (حوَّلَ وبَدَّلَ)، والنظر في الحقير، والمضايقة في الطفيف، ومتى لم يكن التاجر عندهم هكذا، كان معيباً.

ويحتاج التاجر أن يكون معه من سوء الظن، مثل ما معه من حسن الظن، فإنه إذا ساء ظنه، كان سبباً لحفظ رأس ماله، وإن حسن ظنه، أخطر به، وكان ما يخشى عليه زائداً، على مقدار ما يرجي له.

وليعلم أن إفراط الحرص في طلب الفائدة، ربما كان سبباً للحرمان، وأن شدة الاجتهاد في طلب الربح، طريق إلى الخسران.

وكل ما يباع أو يشترى، فهو إما مكيل، أو موزون، أو مذروع (مقدار وطول )، أو مقدّر بالزمان، أو مقدّر بالعدد.

يحتاج التاجر، إلى معرفة غشوش الكيالين، والوزانين، والمساح، والعدادين، وإلى العلم باستخراج الساعات الزمانية، والمعتدلة، واستخراج بعضها من بعض، لئلاً يَتَبِع غير مأمون.

والتاجر إذا اشترى الأثقال، يحتاج إلى أن يكون معه أصحاب ثقات ، وأعوان كفاة، يعينونه وقت الشراء، ووقت الحزم، والحمل، ووقت التقليب والبيع.

فإنه إن كان وحيداً، تأذى قلبه وجسمه، وطمع في سرقة ماله الجمالون، والحمالون، والبحرية، وكل من يجري مجراهم، ممن يحتاج إلى معونته بسببها في التنقل.

فالأصلح لمن كان وحيداً من التجار، أن يعتمد على الخفيف، الذي يمكنه الاحتياط عليه بنفسه.

ويجب أن لا يصدق لأحد من السماسرة قولاً، ولا يقبل لهم نصحاً، فإنها صناعة مبنية على الكذب، ولو كان قد تقدم بينك وبينه أعظم صداقة، واكّد جوار.

فإن الدلال، تارة يصف البضاعة وجودتها، ويباهت (حَيَّرَ بِالكَذِبِ وَالبُهْتانِ) أهل الخبرة بها.

وتارة يذكر قلتها، وأنه لم يبق في البلد منها شيء يباع، غير الذي تحت يده.

وتارة يذكر انها ستغلو ويرتفع سعرها.

وتارة يذكر ان الراغبين إليه فيها كثير، وربما واطأ قوماً يأتون إليه بحضرة الزبون، يطلبونها، ويدفعون إليه العربون، ويقيدونه.

والوكلاء يرتبون في حلق (جمع حلقة) البيع، من يزيد في البضائع، ويوهم الناس والتجار انه مشتر، وذلك حيلة على الراغين.

ولا يتورعون عن هذ الفعل، وإن كانوا بمن ينسب إلى صلاح، وأمانة، وذلك أنهم في صناعة، الماهر عندهم فيها من باع بالزيادة، وهم يفتخرون بهذا، ويشتهون أن يشيع عنهم، لأنه من أبواب المعيشة.

واعلم أن المصدق بغير دليل مقلّد، والمقلّد مذموم عند سائر العقلاء، وقابل المحال مخدوع، والمخدوع ليس بحكيم، والعرب تقول لا رأي للكذوب. وذلك أن المصدق بالمحال ، يبني تدبيره على حسب ما قيل له، فيكون رايه فاسداً، لأنه مبني على الكذب.

ويجب أن يحترس أيضاً، من التصديق بأحاديث كثير من التجار.

فإن منهم من إذا أراد شراء بضاعة، وانكشف له نفاقها في بعض البلاد التي يريد السفر إليها، حدث وأشاع أن تلك البضاعة في تلك البلد بائرة، قد سقط سعرها، وقل طالبها، ووقع الغني عنها.

وربما زور كتاباً بخط مجهول، وضمنه ذلك، وذكر أنه وصل إليه من قريب له، أو صديق، ونصب هو من يشتريها له.

وربما كان قد تواطأ، هو وصاحب له في ذلك الموضع، على مثل هذا، فقال له إذا كتبت إليك، وأنا قول الله الله، احذر ان تشتري البضاعة الفلانية لكسادها، فلا تشترها، فاشترها.

وإذ ذكرت لك أن قيمتها عندنا دينار، فاعلم أنها ديناران، فربما وقع الكتاب في يد غيرك قبل وصوله إليك، فإنه لا يؤمن، ولا يكاد يسلم من ذلك، فتفوت الفرصة فيه.

ومن التجار، من إذا أراد بيع بضاعة عنده، وكان عند غيره مثلها، وثمنها عشرة دنانير مثلاً، فإنه يتحدث مع التجار أنه قد دفع له فيها أحد عشر ديناراً، ورغب إليه في ذلك فامتنع، وأنه طامع في الزيادة.

فيمتنع غيره من البيع إذا سمع ذلك، ثم يمضي هو ويعقد البيع على متاعه ويتزن ثمنه، ويكون الذي بذل له عشرة دنانير، وربما سأل المشترين، ان يذكروا انهم ابتاعوا منه بأزيد من السعر.

فإن لامه بعد ذلك القوم الذين غرهم بقوله، قال لم أرغب في البيع، لكن قادتني إليه ضرورة، ويعتذر بأعذار يصنعها.

ويجب على التاجر، إذا رأى البركة في نوع من الأنواع، أو جهة من الجهات، أن يلزم ذلك الشيء، ما خلا ما فيه إشراف على خطر، أو خوف استدراج، فإنه قد يكون من قسمة الانسان، توفر الحظ له في ذلك النوع

ويجب على التاجر أن يعتمد المسامحة في البيع ، فإنها أحد أبواب المعيشة، ومجلبة للرزق.

وذلك، بأن يقرر التاجر في نفسه، انه إذا ربح ديناراً واحداً مثلاً، كان نصفه موقوفاً على المسامحة، إما في وزن، أو نقد، أو هبة لواسطة أو حطيطة (تَخْفِيضِ)، إن سأل المشتري فيها. فإن المشتري، إنما باله وذهنه مصروف إلى ذلك.

ومن أمثال العامة قولهم، السماح رباح، والدُّهْنُ يَيِيعُ الهَرِيْسَةَ.

والتجار ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:

- فمنهم الخزان.

- ومنهم الركاض.

- ومنهم المجهز.

الخزان

اعلم يا أخي، وفقك الله لما يحب ويرضى، أن قانون أمر الخزان، أن يشتري الشيء في في إبانه، وتواتر حمله، وكثرة البائعين له، وقلة الطالبين، ثم إحكام حفظه، والتربص به إلى أضداد هذه الأشياء، أعني انقطاع وصوله، وتعذر حمله، وبعد وقته، وكثرة طلابه.

وهذا الصنف من التجار، أحوج الناس إلى تقديم المعرفة بأحوال البضائع، في أماكنها وبلادها، وكثرتها فيها أو قلتها، ورخصها أو غلائها، وتوفر ريعها وسلامته، أو نقصانه، أو عطبه، وانقطاع الطريق أو أمنها، وذلك باستطلاع الأخبار، والتقصي من الركبان، فإنه ما نفقت قط بضاعة من كثرة، وإنما تنفق من قلتها، بالإضافة إلى طلابها.

ويجب على الخزان، إذ استقر في نفسه، وصح في عزمه، أن يشتري بضاعة بنقد مئتي دينار مثلاً، أن يختصر، ويقسم هذا الشراء فيجعله في أربع دفعات، وبين كل شرية إلى الاخرى خمسة عشر يوماً، فيكون استكمال شراء تلك البضاعة في مدة شهرين.

فإنه لا يخلو الشيء المشترى، إما أن يغلو، وإما أن يرخص، أو يثبت على حالة واحدة.

فإذا اشترى البعض، وزاد سعره، فقد عرف توجه النفع، وتيسر الفائدة، ووجب أن يستبشر بذلك إن كان ممن يقنع ويرى، أن الأخذ بالحزم، أفضل من غنيمة الخطر.

وإن رخص، فرح من جهتين: إحداهما، السلامة من تفاوت السعر في شراء الجملة. والثاني، التمكن من شراء المسترخص الجيد

وإن بقي على حال واحدة، لم يزد ولم ينقص، يزدد بصيرة في قبض ما يشتريه، ويخزنه.

فإنه لا يكاد فيما يهجم على شرائه في دفعة واحدة، أن يسلم الإنسان أن تتبع نفسه منه شيئاً أهمله، وتتطلع إلى استدراكه، ولذلك تقع المخاصمات، والمحاكات، كثيراً في هذا الفن.

وليعلم أن نفاق البضاعة وغلاءها من سعادتها، ورخصها وكسادها من منحستها.

فالخزان، إنما يجب أن يأخذ البضاعة في حال كسادها ورخصها، ثم يتربص بها إلى حين زوال المنحسة عنها، وعودة السعادة إليها.

ومما يجب على الخزان تأمله، أحوال السلطان الذي هو في كنفه، وقوة دولته وضعفها، وعدله او جوره، وفقره او غناه.

فإن كان عادلا، ودولته ضعيفة الأعداء، وجباياته دارّة، وأمواله كثيرة، فهذه النعمة الشاملة.

وإن كان عادلاً، غير أنه ضعيف عن قهر أعدائه، فيجتنب شراء الأثقال، ويعتمد على الخف الذي يمكنه إخفاؤه وستره، أو يطرح الشراء في تلك السنين، ويدخر الدينار.

وإن لم يتهيأ له، خوفاً من استهلاك النفقة له، اعتمد أن يكون شراؤه لما يصلح أن يحمل إلى الديار التي هي آمن، وأصلح ليكون ذلك عدة للنجاة، ويسافر بها، فتكون له حجة يستتر بها، ويوري عن نفسه من الهرب، أو يسفرها.

وإن كان السلطان جائراً، غير انه قوي، فيكتم بيعه وشراءه، ويتظاهر بالفقر، ولا يشتري ما يعلم أنه يصلح له، ويحتاج إليه، وإن كان ربحه ظاهراً.

وإن جمع الجور، والفقر، والضعف، فيجب أن يبادر الإنسان بالانتقال عن مملكته، فهو احمد وأحزم في المبدأ، والعاقبة.

الركاض

يستحب له، أن يستصحب معه رقعة، بأسعار جميع البضائع، فإذا أراد أن يشتري شيئاً، رجع إلى الرقعة، فنظر الفرق بين سعره في هذه، وسعره في تلك البلدة، واضاف إليه ما يحتاج من المؤن التي تلزم إلى حين الوصول، ثم يضيف إلى ثبت الأسعار، ثبتاً بمكوس البضائع، فان مكوسها تختلف في سائر البلدان، ثم يميز الفائدة وكذلك في جميعها.

ويجب على الركاض أيضاً، إذا دخل بلدة لم يعرفها، أن يكون قد تقصى عن الوكيل المأمون ، والموضع الحريز، وما شاكل هذا المعنى، خوفاً أن يقع مع مطول، أو مدولب قد أشفى على إلافلاس، فيغرق وهو لا يعرف.

واعلم، أنه يجب على الركاض أن ينتظر أولاً فيما يبتاعه، فيحتاط فيه، ولا يكون في نفسه بمنزلة من يعده أمله فيه عند وصوله إلى البلد الذي يقصده، فربما تأخر مسيره، أو بطل لأحدى العوائق، كخوف الطريق، أو تعذر الرياح إن كان سفره في البحر، أو لحادث يطرأ في الموضع الذي يقصده.

فكثيراً ما يتفق ذلك للناس، فيقاسي بيعه في البلد الذي اشترى فيه، وإن لم يكن قدم الاحتياط، اتضع فيه شيئاً كثيراً، ولذلك يقول التجار والمسافرون: التبصرة نصف عطية.

المجهز

اعلم يا أخي، وفقك الله عز وجل، أن قانون الُمَجهِّز، أن يُنَّصِبُ له، في الموضع الذي يُجَهِّزُ إليه، من يقبض البضائع التي يصدرها إليه.

ويتولى هذ القابض بيعها وشراء الأعواض عنها، ويكون ثقة، أميناً، مأموناً، موسراً، قد نصب نفسه للتجارة مع خبرة بها، فيكون الحمل إليه، وهو المتولي للبيع، وله حصة في الربح، في كل ما يبيعه أو يشتريه، وإن كسد شيء من السلع ورأى خزنها، وأنفذ إليه ما قدم الاحتياط في شرائه وحصله قبل الموسم، وتمكن من جودته وإصلاحه.

ثم يعتمد الُمَجهِّز شراء البضائع، على حال امهال، وتأنّ، وإمكان التخيّر، فأي بضاعة لم يتمكن فيها من ذلك، التمسه في غيرها، فإن الربح موقوف على صلاح الشراء

ثم لا ينفذ بضاعة، إلا مع الأصحاب الثقات ، الذين يرعونها، إلى أن يتسلمها المتولي القابض.

المصادر:
- الإشارة إلى محاسن التجارة، وغشوش ،المدلسين فيها، أبو الفضل الدمشقي، 1175م.