وفي الغد، قالت لُبَابَة: فلما قرب الملك، من السواد، وجده قصرًا، مبنيًّا بالحجارة السود، مصفَّحًا بالحديد، وأحد شِقَّيْهِ مفتوح، والآخر مغلوق، ففرح الملك، ووقف على الباب ودقَّ دقًّا لطيفًا، فلم يسمع جوابًا، فدقَّ ثانيًا وثالثًا، فلم يسمع جوابًا، فدقَّ رابعًا، دقًّا مزعجًا، فلم يُجِبْهُ أحدٌ، فقال: لا شكَّ أنه خالٍ.
فشَجَّعَ نفسه، ودخل من باب القصر، إلى دهليزه، ثم صرخ وقال: يا أهل القصر، إني رجل غريب، وعابر سبيل، هل عندكم شيء، من الزاد، تربحوا الاجر والثواب، من ربِّ العباد؟
وأعاد الملك القول، ثانيًا وثالثًا، فلم يسمع جوابًا، فقوَّى عَزِيمَتَه، وثبَّت نفسه، ودخل من الدهليز، إلى وسط القصر.
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: فلما دخل القصر، لم يجد فيه أحدًا، ورأى القصر، مفروش بالحرير، وفي وسطه فسقية، عليها أربعة سباع، من الذهب الأحمر، يُلقى الماء من أفواهها، كالدُرّ (جمع دُرّة) والجوهر، وفي دائر القصر طيور، وعليه شبكة من ذهب، تمنعها من الخروج، فتعجَّبَ الملك من ذلك، وتأسَّفَ، حيث لم يَرَ فيه أحدًا، يستخبر منه، عن تلك البركة، والسمك، والجبال والقصر، ثم، جلس بين الأبواب يتفكَّر، وإذا هو بأنينٍ، من كبد حزين، فسمعه يترنم بهذا الشعر:
يا دَهرُ ما أَقساكَ يا دَهرُ
لَم يَحظَ فيكَ بِطائِلٍ حُرُّ
أَمّا اللّئامُ فَأَنتَ صاحِبُهُم
وَلَهُم لَدَيكَ العَطفُ وَالنَصرُ
تَصفُو لَهُ الدُنيا بِلا كَدَرٍ
وَيُطِيعُهُ في عَيشِهِ اليُسرُ
وَعَلى الكَريمِ يَدٌ يُسَلِّطُها
مِنكَ الجَفاءُ المُرُّ وَالقَسرُ
مَرعاهُ جَدبٌ وَالحُظوظُ لَهُ
حَربٌ وَجانِبُ عَيشِهِ وَعرُ
وَجَناهُ شَوكٌ وَالبُحورُ لَهُ
وَشَلٌ (ماء قليل) وَحَشوُ فُؤادِهِ جَمرُ
قد كنتُ أطمعُ بالفضائل في العُلا
فالآن جُلُّ منايَ أن أتخلَّصا
فلما سمع الملك، ذلك الشعر والأنين، نهض قائمًا، وتبع الصوت، فوجد سترًا مسدولًا (سَدَلَ السَّتَائِرَ: أرْخَاهَا، أنْزَلَهَا)، على باب مجلس، فرفعه، فاذا خلف الستر، شابًّا جالسًا، على كرسي مرتفع عن الأرض، مقدار ذراع، وهو شاب مليح، بقَدٍّ رجيح، ولسان فصيح، وجبين أزهر، ووجه اقمر، وخَدٍّ أحمر، عليه شامة، كنقطة عنبر.
ففرح الملك، وسلَّمَ عليه، والصبي جالس، وعليه قباء (ثوبٌ، يُلبَسُ فوق الثياب) حرير، مُطرَّز بذهب مصريّ، وفوق رأسه، تاج مصري، وعليه، أثر حزن وبكاء، فلما سلم عليه الملك، رد عليه، بأحسن سلام، وقال: اعذرني، ولي المعذرة، في عدم القيام، وانت اعز.
قال الملك: قد عذرتك أيها الفتى، وانا ضيف، عندك، واتيتك، في شيء مهم، أيها الشاب، أخبرني عن هذه البِركة، وعن سمكها الملون، وعن هذا القصر، وسبب وحدتك فيه، وما سبب بكائك؟
فلما سمع الشاب، كلام الملك، جرت دموعه على خده، ثم، انه انشد:
لعمرك قد تَشابهت اللَيالي
فَما في عودها شيء جَديد
أعللُ النفسَ بالآمال أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأمل
ثم، إنه بكى بكاءً شديدًا، فتعجَّبَ الملك، وقال: يا فتى، ما بكاؤك؟
فقال الشاب: يا سيدي، كيف لا أبكي، وهذه الحال، حالتي! ثم مدَّ يده، إلى أذياله فرفعها، فإذا نصفه السفلي، إلى قدمَيْه، حجر، ومن سُرَّتِهِ، إلى شعر رأسه، بَشَر.
وأدرك لُبَابَة الصباح، وسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني، ايها الملك السعيد، أن الملك، لما رأى الشاب بهذه الحال، حزن حزنا عظيما، وتأسف وتأوه، وقال: يا فتى، لقد زدتني، هما على همي، كنت أطلب السمك وخبره، وصرت اسأل، عن خبرهم وخبرك، فلا حول ولا قوة، الا بالله، العليّ العظيم، عجل يا فتى، بالحديث.
قال الشاب: إعلم أيها الملك، أنَّ لهذا السمك، ولي، أمرًا غريباً عجيبًا، وذلك، أنه كان يا سيدي، والدي، ملك هذه المدينة، وكان اسمه محمود، صاحب جزائر هذه الجبال الأربعة، أقام في المُلك، سبعين عامًا، ثم تُوُفِّيَ، وتسلطنتُ بعده، وتزوَّجْتُ بابنة عمي.
وكانت ابنة عمي، تحبني، إلى يوم من الأيام، محبة عظيمة، حتّى، أني إذا غبت عنها، يوماً واحداً، لا تأكل ولا تشرب، حتى تراني، عندها.
وذهبت ابنة عمي، يومًا من الأيام، إلى الحمَّام، وأمرت الطباخ، أن يجهز لنا طعامًا، لأجل العشاء، وإني دخلت هذا القصر، ونمت في الموضع، الذي أنام فيه، وأمرتُ جاريتَيْن، أن يروِّحَا علي.
فجلسَتْ واحدة عند رأسي، والأخرى عند رجلي، وقد قلقت لغياب ابنة عمي، ولم يأخذني نوم، غير أن عيني مغمضة، ونفسي يقظانة، فسمعت التي عند رأسي، تقول، للتي عند رجلي: يا مسعودة، إن سيدنا، مسكين شبابه، ويا خسارته، مع سيدتنا، الخبيثة الزانية.
قالت مسعودة: لعن الله، النساء الزانيات، ومثل سيدنا، وأخلاقه، لا يصلح لهذه، التي كل ليلة، تبيت، في غير فراشه.
قالت الجارية الأخرى: إن سيدنا، مغفَّل، حيث، لم يسأل عنها، أهو أبكم، لما يستيقظ في الليل، ولا يجدها، بجانبه؟
قالت مسعودة: ويلك، وهل عند سيدنا، عِلْم بحالها؟! بل، تعمل له عملًا، في قدح الشراب، الذي يشربه كلَّ ليلة، قبل المنام، فتضع فيه البنج، فينام، وتلبس ثيابها، وتخرج من عنده، فتغيب إلى الفجر، وتأتي إليه، وتبخره عند أنفه بشيء، فيستيقظ من منامه، ولم يشعر بما جرى، ولم يعلم، أين تذهب، ولا ما، تصنع.
فلما سمعتُ، كلامَ الجواري، صار الضياء، في وجهي ظلامًا، وما صدَّقتُ، أن الليل أقبَلَ، وجاءت بنت عمي، من الحمام، فمددنا السماط (نَسِيجٌ، يبسط، ليوضع عليه الطعام)، وأكلنا، وجلسنا ساعة، نتنادم كالعادة، ثم دعوت، بالشراب الذي أشربه عند المنام، فناولتني الكأس، فجعلت أني أشربه مثل عادتي، وأهرقته، ورقدت في الوقت والساعة، وإذا بها قالت: نَمْ ليتك، لا تقم ابدا، واللهِ كرهتك، وكرهت صورتك، وملَّتْ نفسي، من عشرتك.
ثم، انها قامت، ولبست أفخر ثيابها، وتبخَّرَتْ، وأخذت سيفي، وتقلدته، وفتحت بابَ القصر، وخرجت، فقمتُ وتبعتها، حتى خرجت من القصر، وشقت في أسواق المدينة، إلى أن انتهت إلى أبوابها، فتكلَّمَتْ، بكلام لا أفهمه، فتساقطت الأقفال، وانفتحت الأبواب، وخرجَتْ، وأنا خلفها، وهي لا تشعر، حتى انتهت، إلى ما بين الكيمان (جمع كَوم)، وأتَتْ خُصّا (بيتٌ من شَجَر، أَو قصب)، له قبة مبنية بطين، فدخلته هي، وصعدتُ أنا، على سطح القبة، وأشرفت.
وإذا، بابنة عمي، قد دخلت، على عبدٍ أسود، راقد، على قليل من قش القصب، لابس هِدْمة (ثَوْبٌ بالٍ)، فقبَّلت الأرض، بين يدَيْه، فرفع ذلك العبد، رأسه إليها، وقال لها: ويلك! أي شيء، كان قِعَادك، والساعة، كان عندنا السودان، والمزرُ (نَبِيذ الشعير، والحنطة والحبوب)، في اِصْطِبَاب، كل واحد، وصبيته فرحا، وأنا، ما رضيت، أن أشرب شيئا، لغيابك.
قالت ابنة عمي: يا سيدي، وحبيب قلبي، أَمَا تعلم، أني متزوجة، بابن عمي، وأنا أكره الخلق، في صورته، وأبغض نفسي، في صحبته، ولولا أني أخشى، خاطرك، ماكنت تركت الشمس تطلع، الا ومدينته خراب، يزعق فيها، البوم والغراب، ومأواها، الثعالب والذئاب، وأنقل حجارتها، إلى خلف جبل، قاف.
قال العبد: تكذبين يا ساقطة، وأنا أحلف، وحق فتوَّة (حميَّة) السودان، إن بقيتِ، تقعدين إلى هذا الوقت، لا أصاحبك، أتنقلبين عليَّ، من أجل شهوتك، يا منتنة، يا أخس البيضان؟
فلما سمعت كلامه، وانا أنظر وأرى، واسمع ما جرى، صارت الدنيا، في وجهي ظلاماً، وما عرفت روحي، في اي موضع انا، وبنت عمي، واقفة، تبكي عليه وتتذلل، وتقول للعبد: يا حبيبُ قلبي، وثمرة فؤادي، إذا غضبت عليّ، من يبقى لي، وإذا طردتني، من يؤَاويني، يا ويلي، يا حبيبي، يا نور عيني، ما أحد غيرك، بقي لي.
وما زالت تبكي، وتتضرَّع، حتى رضي عليها، ففرحت، وقامت، وخففت من لباسها، وقالت: يا سيدي، ما عندك شي، تأكله جاريتك؟
قال العبد: اكشفي الوعاء، فإن فيه، عظام فئران مطبوخة، فكليها، وقومي لهذا الإناء، فيه بقية مزر، فاشربيها.
فقامت، وأكلت وشربت، وغسلت يديها وفمها، وجاءت، ورقدت مع العبد، على قش القصب، فلما نظرتُ، إلى هذه الفعال، التي فعلَتْها بنتُ عمي، تأكدت انها خائنة، وغبتُ عن الوجود، فنزلت من فوق أعلى القبة، ودخلت، وانا متلثم، وأخذت السيفَ، الذي جاءت به بنت عمي، وهممت أن أقتل الاثنين، فضربت العبد أولًا، على رقبته، فظننت، أني قد قضيت عليه.
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب المسحور، قال: وأتَتِ المدينة، بنت عمي، ودخلَتِ القصر، ورقدَتْ في فراشي، إلى الصباح، ورأيتُ، بنتَ عمي، في ذلك اليوم، قد قطعت شعرها، ولبست ثياب الحزن، وقالت: يا ابن عمي، لا تلُمْني، فيما أفعله، فإنه بلغني، أن والدتي توفيت، وأن والدي، قُتِلَ في الجهاد، وأن أخويَّ، أحدهما مات ملسوعًا، والآخَر رديمًا (مُغَطًّى تَحْتَ التُّرَابِ)، فيحقُّ لي، أن أبكي وأحزن.
فلما سمعت كلامها، سكتُّ عنها، وقلتُ: افعلي، ما بَدَا لك، فإني، لا أخالفك.
فمكثتْ، في حزن وبكاء وعويل، سنة كاملة، اثني عشرة شهرا، وبعد السنة، قالت لي: أريد، أن أبني لي، في قصرك، مدفنًا مثل القبة، افرده للأحزان، وأسميه، بيت الأحزان.
فقلتُ لها: افعلي، ما بَدَا لك.
فقامت وأمرت، فبَنَتْ لها، بيتًا للحزن، وبَنَتْ في وسطه، قبة ومدفنًا، مثل الضريح، وإنه، لما ضربت العبد، لم أقطع الوريدين، بل قطعت الحلقوم، والجلد واللحم، ثم، نقلت ابنة عمي، العبد، وأنزلته فيه، وهو ضعيف جدًّا، لا ينفعها بنافعة، لكنه يشرب الشراب، ومن اليوم الذي جرحتُه فيه، ما تكلَّمَ، إلا أنه حي، لأن أجله، لم يفرغ، وصارت كل يوم، تأتيه بكرة وعشيًّا، وتبكي عنده، وتعدد (ذكرت مناقِبَه ومحاسِنَه) عليه، وتسقيه الشراب والمساليق، ولم تزل على هذه الحال، صباحًا ومساءً، إلى ثاني سنة، وأنا أطول روحي عليها، لا التفت.
ودخلتُ عليها، يومًا من الأيام، على غفلة، فوجدتها تبكي، وتلطم وجهها وتقول: لما تغيبت عن ناظري، يا نزهة خاطري، حدثني يا روحي، كلمني يا صديقي، وانشدت تقول، هذه الأبيات:
بِحَقِّ الهَوى لا تَعذِلوني (تلوموني) وَأَقصِروا
عَنِ اللَومِ إِنَّ اللَومَ لَيسَ بِنافِعِ
وَكَيفَ أُطيقُ الصَبرَ عَمَّن أُحِبُّهُ
وَقَد أُضرِمَت نارُ الهَوى في أَضالِعي
هُمُ الأَحبَّةُ إنْ خانُوا وإنْ نَقَضوا
عَهدي فما حُلْتُ عَنْ وَجْدي ولا فِكري
أَشكُو منَ الـهَجر في سِرٍّ وفي عَلَنٍ
شكْوَى تُؤَثرُ في صلْدِ منَ الحجر
فلما فرغت من كلامها وبكائها، قلت لها: يا بنت عمي، يكفيك من الحزن، فما بقي ينفع البكاء.
قالت: لا تتعرض لي، وان اعترضت، قتلت روحي.
فسكتت عنها، فلم تزل في حزن وبكاء، سنة أخرى، ثم، السنة الثالثة، دخلت يوما، وانا مغتاظ، لحادث عرض لي، فوجدتها نحو الضريح، وهي تقول: يا سيدي، لا اسمع منك، ولا كلمة، يا سيدي، ثلاث سنين، ولا جواب، وانشدت تقول شعرا:
حَامِلُ الْهَوَى تَعِبُ
يَـسْـتَخِفُّهُ (حمله على الخِفّة والطَّيش) الطَّرَبُ
إِنْ بَكَى فَحُقَّ لَهُ
لَيْسَ مَا بِهِ لَعِبُ
أَقولُ وَلَيلَتي تَزدادُ طولا
أما لِليل بَعدُهُم نهار
وَجَدتُ الْهَوَى نيراناً تَلَظّى
قُلوبُ العاشِقينَ لَها وَقودُ
فَلَو كانَت إِذا اِحتَرَقَت تَفانَت
وَلَكِن كُلَّما اِحتَرَقَت تَعودُ
كَأَهلِ النارِ إِذ نَضِجَت جُلودٌ
أُعيدَت لِلشَقاءِ لَهُم جُلودُ
عَمْرَك اللَهُ (نَشَدْتُك اللهَ) أَما تَرحَمُني
أَم لَنا قَلبُكَ أَقسى مِن حَجَر
فلما فرغَتْ من شعرها، اخذت سيفي، وقلتُ لها، وسيفي مسلول في يدي: هذا كلام الخائنات، اللاتي ينكرن العِشرة، ولا يحفظن الصحبة.
فلما سمعت كلامي، وثبت قائمة، وقالت: ويلك، انت الذي فعل معي، هذا الفعل، وجرح صديقي، واوجعني، وله ثلاث سنين، لا هو ميت، ولا هو حي.
فقلت لها: نعم، انا فعلت ذلك.
وأردتُ أن أضربها، فرفعت يدي في الهواء، فلما سمعت كلامي، ورأتني مصمماً على قتلها، ضحكت وقالت: تخسأ، هيهات، ان يرجع ما فات، او تجيء الأموات، لقد كان في قلبي، لهيب لا يخفى، ونار لا تطفأ، وقد أمكنتي منك.
ثم، وقفَتْ على قدمَيْها، وتكلَّمَتْ، بكلامٍ لا أفهمه، وقالت: اخرج بسحري، نصفك حجرًا، ونصفك الآخر، بشرًا.
فصرتُ كما ترى، وبقيتُ، لا أقوم ولا أقعد، ولا أنا ميت ولا أنا حي، فلما صرتُ هكذا، سحرَتِ المدينة، وما فيها من الأسواق والغيطان (حقول)، وكانت مدينتنا، أربعة أصناف: عربي، فارسي، روماني، اغريقي، فسحرتهم سمكًا، فالأبيض عرب، والأحمر فُرس، والأزرق رومان، والأصفر اغريق، وسحرَتِ الجزائرَ الأربع، أربعةَ جبال، محيطة بالبِركة.
ثم، أنه لم يكفها ذلك، وما صارت حالتي اليه، ولكن، كلَّ يوم، تعذِّبني، وتضربني بسوطٍ من الجلد، مائةَ ضربة، حتى يسيل دمي، وتتفسخ اكتافي، ثم، تلبسني من تحت هذه الثياب الفاخرة، ثوبًا من الشوك، على نصفي الفوقي، ثم، إن الشاب بكى، وأنشد:
وَإِنَّ العُسرَ، يَتبَعُهُ يَسارٌ
وَقَولُ اللَهِ، أَصدَقُ كُلَّ قيلِ
وَكَم مِن مُؤمِنٍ، قَد جاعَ يَومًا
سَيُروى، مِن رَحيقٍ سَلسَبيلِ
كان لي، قلبٌ أعيشُ به
فاصطلى (عانى شدّة)، بالحُبِّ فاحترقا
جاروا علينا، واعتدوا وتجبروا
فلعلَّ بالفردوس، أن نتعوَّضا
صَبْرًا لِحُكْمِكَ، يَا إِلَهِي وَالْقَضَا
أَنَا صَابِرٌ، إِنْ كَانَ فِيهِ لَكَ الرِّضَا
فعند ذلك، التفت الملك إلى الشاب، وقال: أيها الشاب، زدتني همًّا، على همي، بعد أن فرّجت، عنى غمي، ولكن، يا فتى، أين هي، وأين العبد المجروح؟
قال الشاب: ان العبد، في القبة، في مدفنه راقد، وهي في ذلك المجلس، الذي يحاذي الباب، وهي تجيء له، كل يوم مرةً، عندما تشرق الشمس، وعند مجيئها، تأتي إليَّ، وتجرِّدني من ثيابي، وتضربني بالسوط، مائةَ ضربة، وأنا أبكي وأصيح، ولا ليَّ حركة، ولا قوة، حتى أدفعها عن نفسي، ثم، بعد أن تعاقبني، تذهب إلى العبد، بالشراب والمسلوقة، بكرة النهار.
قال الملك: والله يا فتى، لَأفعلن معك معروفًا، أُذكَر به، وجميلًا، يؤرِّخونه، سِيَرًا من بعدي.
ثم، جلس الملك، يتحدَّثَ معه، إلى أن أقبل الليل، ثم، قام الملك، وصبر إلى أن جاء وقت السحر، فتجرَّدَ من ثيابه، وتقلَّدَ سيفه، ونهض إلى المحل، الذي فيه العبد، فنظر إلى الشمع والقناديل، ورأى البخور والأدهان، ثم، قصد العبد، وضربه فقتله، ثم، حمله على ظهره، ورماه في بئر، كانت في القصر، ثم، نزل ولبس ثياب العبد، ورقد داخل الضريح، والسيف معه، مسلول في طوله.
وبعد ساعة، أتَتِ الملعونة الساحرة، وعند دخولها، جرَّدت ابن عمها من ثيابه، وأخذت سوطًا، وضربته، فقال: أواه، يكفيني ما أنا فيه، يا بنت عمي، ارحميني، يا بنت عمي.
فقالت: كنت أنت رحمتني، وأبقيتَ لي، معشوقي!
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني يا ملك الزمان، أن الساحرة، ضربت ابن عمها، حتى تعبت، وسال الدم من جنبيه، فألبسته ذلك اللباس الشوكي، ومن فوقه ذاك القباء، ثم، أنها نزلت للعبد، ومعها قدح الشراب، وطاسة المسلوقة، على عادتها، ودخلت الى القبة، وبكت وصرخت وعددت، وقالت: يا سيدي كلمني، يا سيدي، حدثني، وأنشدت:
حتى متى هذا الصدود وذا الجفا
فلقد جرى من أدمعي ما قد كفى
ثم، إنها بكت وقالت: يا حبيبي كلمني، يا حبيبي حدثني، يا روحي جاوبني.
فخفض الملك صوته، وعوج لسانه، وتكلم بكلام السودان وقال: أواه، أواه، لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما سمعت كلامه، صرخت من الفرح، وغشي عليها، ثم إنها استفاقت، وقالت: يا سيدي، أحقاً كلمتني، أصحيحاً حدثتني!
فخفض الملك صوته، وقال: يا ساقطة، أنت لا تستحقين، أن أكلمك.
فقالت: وما السبب، يا حبيبي، يا روحي، جاوبني.
قال الملك: سببه، أنك طول النهار، تعاقبين زوجك، وهو يصرخ ويستغيث، حتى أحرمتِني النومَ، من العشاء إلى الصباح، وزوجك يتضرع، ويدعو عليّ وعليك، حتى أقلقني صوته، وأضرني، ولولا هذا، لكنتُ تعافيتُ، فهذا، الذي منعني، عن جوابك.
فقالت: يا سيدي، عن إذنك، أخلصه مما هو فيه.
قال الملك: خلِّصيه، وأريحينا.
فقالت: سمعًا وطاعة.
فقامت، وخرجت من القبة، إلى القصر، وأخذت طاسة، ملأتها ماء، ثم تكلمت عليها، فصار الماء، يغلي كما يغلي القدر، ثم رشته منها، وقالت: بحقِّ ما تلوته، إن صرت هكذا، بسحري ومكري، فاخرج، من هذه الصورة، الى صورتك الأولى، وإن كنت هكذا، خلقك الله، أو سخط عليك، فلا تتغير.
فانتفض الشاب، وقام على قدمَيْه، وفرح بخلاصه، فقالت له: اخرج، ولا ترجع إلى هنا، وإلا قتلتك. وصرخت في وجهه، فخرج من بين يديها، وعادت إلى القبة، ونزلت وقالت: يا سيدي، اخرج إليَّ، حتى أنظر، الى صورتك الجميلة، وأفرح بسلامتك.
قال الملك، بكلام ضعيف، يشبه كلام السودان: أي شيء فعلتِه، أرحتِني من الفرع، ولم تريحيني، من الأصل.
فقالت: يا حبيبي، يا سيدي، وما هو الأصل؟
قال الملك: ويلا لك، يا ملعونة، أهل هذه المدينة، والأربع جزائر، كل ليلة، إذا انتصف الليل يرفع السمك رأسه، ويدعو عليَّ وعليك، فهذا هو، سبب منع عافيتي، فخلِّصيهم، وتعالي خذي بيدي، وأقيميني، فقد توجَّهت إلى العافية.
فلما سمعت، كلام الملك، وهي تظنه العبد، قالت له، وهي فرحانة: يا سيدي، يا قلبي، على رأسي وعيني.
ثم، نهضت وقامت، وهي مسرورة تجري، وخرجت إلى البركة، وأخذت من مائها قليلًا.
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني، أيها الملك السعيد، أن الصبية الساحرة، لما أخذت شيئًا، من ماء البركة، وتكلَّمت عليه، بكلام لا يُفهم، فتراقص السمك، ورفع رأسه، وقام في الحال، وانفكَّ السحر، عن أهل المدينة، وصارت المدينة عامرة، والأسواق منصوبة، وصار كل واحد في صناعته، وانقلبت الجبال جزائر، كما كانت.
ثم، إن الصبية الساحرة، رجعت إلى الملك في الحال، وهي تظن أنه العبد، وقالت: يا حبيبي، ناولني يدك الكريمة، أقبِّلها.
فقال الملك، بكلام خفي: تقربي مني.
فدَنَتْ منه، فسل الملك سيفه، وطعنها به في صدرها، حتى خرج من ظهرها، ثم ضربها، فشقَّها نصفين، ورماها على الأرض، شطرين، وخرج، فوجد الشاب المسحور، واقفًا في انتظاره، فهنَّأه بالسلامة، وقبَّل الشابُّ يدَه وشكره، ودعا له، فقال له الملك: أتقعد في مدينتك، أم تأتي معي إلى مدينتي؟
فقال الشاب: يا ملك الزمان، أتدري ما بينك، وبين مدينتك؟
فقال الملك: يومان ونصف.
فعند ذلك، قال له الشاب: أيها الملك، إن كنتَ نائمًا، فاستيقظ، إن بينك، وبين مدينتك، سنة للمُجِدِّ، وما أتيتَ في يومين ونصف، إلا لأن المدينة كانت مسحورة، وأنا، أيها الملك، لا أفارقك لحظة عين.
ففرح الملك بقوله، ثم قال: الحمد لله، الذي مَنَّ عليَّ بك، فأنت ولدي، لأني طول عمري، لم أُرزَق ولدًا. ثم، تعانَقَا، وفرحَا فرحًا شديدًا، ثم، مشيا حتى وصلا إلى القصر، وأخبر الملك، الذي كان مسحورًا، أربابَ دولته، أنه مسافر، فقدم له الامراء، وتجار المدينة، ما يحتاج اليه، وشرعوا في التجهيز، مدة عشرة ايام، ثم، انهما سافرا، ومعهما خمسون مملوكاً، وهدايا عظيمة، وقلب السلطان، ملتهب على مدينته، كيف يغيب عنها.
ولم يزالَا، مسافرين ليلًا نهارًا، سنة كاملة، وكتب الله لهم بالسلامة، حتى أقبلَا، على مدينة السلطان، وأرسلا، فاعلما الوزير، بوصول السلطان وسلامته، فخرج الوزير والعساكر لمقابلته، بعدما قطعوا الرجاء، وأقبلت العساكر، وهنَّئُوه بالسلامة، فدخل، وجلس على الكرسي، ثم أقبل على الوزير، وأعلمه بكل ما جرى، على الشاب، فلما سمع الوزير، ما جرى على الشاب، هنَّأه بالسلامة، ولما استقر الحال، أنعم السلطان، على أناس كثيرين، ثم قال للوزير: عليَّ بالصياد، الذي أتى بالسمك.
فأرسل الوزير، إلى ذلك الصياد، الذي كان سببًا، لخلاص أهل المدينة، فأحضره، وخلع عليه، وسأله عن حاله، وهل له أولاد، فأخبره الصياد، أن له ابنًا، وابنتين، فأرسل الملك واحضرهم، فتزوَّجَ الملك، بإحدى ابنتيه، وتزوَّجَ الشاب، بالأخرى، وأخذ الملك، الابنَ عنده، وجعله صاحب ديوان النفقات، ثم أرسل الوزير، إلى مدينة الشاب، التي هي الجزائر السود، وقلَّده سلطنتها، وحلفه ان يزوره، وأرسل معه، الخمسين مملوكًا، الذين جاءوا معه، وأرسل معه، كثيرًا من الخلع، لسائر الأمراء، فقبَّلَ الوزير يدَيْه، وخرج مسافرًا، واستقر السلطان والشاب، وأما الصياد، فإنه قد صار، أغنى أهل زمانه، وبناته زوجات الملوك، إلى أن أتاهم، الممات، وما هذا بأعجب، ممَّا جرى للحمَّال.