نوادر إبن المقفع

حَدثنَا أَبُو الْأَشْقَر، حَدثنَا عَليّ بن جَعْفَر الْكَاتِب، قَالَ، كَانَ رجل، يُجَالس ابْن المقفع، فيكثر الْكَلَام، ويطيل الْجُلُوس. فَكَانَ ابْن المقفع، يستثقله، فَجَاءَهُ يَوْمًا، وَقد تنَاول دَوَاء، فَقَالَ لغلامه، اسْتَأْذن لي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَام، قد أَخذ دَوَاء، قَالَ كيس، فَقَالَ لَهُ الْغُلَام، لَيْسَ إِلَى ذَاك سَبِيل، قَالَ، فَكتب فِي قرطاس:

هَل لذِي حَاجَة إِلَيْك سَبِيل
لَا يُطِيل الْجُلُوس إِلَّا قَلِيل

ثمَّ رمى بالقرطاس فِي الدَّار، فعرفها ابْن المقفع، فَنظر فِي الَّذِي كتب، وَكتب فِي أَسْفَل من ذَلِك الْكتاب:

أَنْت يَا صَاحب الْكتاب ثقيل
وَقَلِيل من الثقيل طَوِيل

***

زعم يزيد، مولى ابن عون، قال: كان رجل بالبصرة، له جارية، تسمى ظمياء، فكان إذا دعاها قال: يا ضمياء، بالضاد. فقال ابن المقفع، قل: يا ظمياء. فناداها: يا ضمياء. فلما غير عليه ابن المقفع، مرتين أو ثلاثا، قال له: هي جاريتي، أو جاريتك؟

***

قال عمر بن الخطاب: من نبل الفقر، أنك لا تجد أحداً، يعصي الله، ليفتقر، فنظمه ابن المقفع:

دليلك إن الفقر خيرٌ من الغنى
وإن القليلَ المالِ خيرٌ من المثري

لقاؤك مخلوقاً عصى الله بالغنى
ولم ترى مخلوقاً عصى الله بالفقرِ

***

كتب بعض الأكابر إلى عبد الله بن المقفع، يلتمس معاقدة الإخاء، والاجتماع على المخالصة والصفاء، فلما لم يجبه، كتب إليه يعتب، فكتب له عبد الله: إن الإخاء رق، وكرهت أن أملكك رقي، قبل أن أعرف، حسن ملكتك.

***

لقي ابن المقفع، بعض الأكابر، فقال له: بلغني عنك ما كرهته. فقال ابن المقفع: لا أبالي! قال: ولم؟ قال: لأنه إن كان حقّاً، غفرته، وإن كان باطلاً، كذّبته. وهذا من أحسن جوابٍ.

***

قال ابن المقفع، وقد جرى ذكر الشعر، وفضيلته: أي حكمة تكون أبلغ، أو أحسن، أو أغرب، أو أعجب، من غلام بدويّ، لم ير ريفا، ولم يشبع من طعام، يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى القفر، واليرابيع والظّباء، وقد خالط الغيلان، وأنس بالجان، فإذا قال الشعر، وصف ما لم يره، ولم يعهده، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق، ومساويها، ويمدح ويهجو، ويذمّ ويعاتب، ويشبّب ويقول ما يكتب عنه، ويروى له، ويبقى عليه.

***

كتب ابن المقفع، إلى صديق، ولدت له جارية:

بارك الله لكم، في الإبنة المستفادة، وجعلها لكم زيناً، وأجرى لكم بها خيراً، فلا تكرهها، فإنهن الأمهات، والأخوات، والعمات والخالات، ومنهن الباقيات الصالحات. ورب غلام، ساء أهله بعد مسرتهم، ورب جارية، فرحت أهلها، بعد مساءتهم.

***

قيل لابن المقفع: الصديق أحب إليك، أم القريب؟ قال: القريب أيضاً، يجب أن يكون صديقاً.

***

قال بعضهم: أنا بالصديق، آنس مني بالأخ، فقال له ابن المقفع: صدقت، الصديق نسيب الرّوح، والأخ، نسيب الجسم.

***

سئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوانٌ سرقت نُونُه، فنظمه الشاعر، فقال:

نون الهوان من الهوى مسروقة
وأسير كل هوى أسير هوان

***

قال ابن المقفع:

من سالم الناس، ربح السلامة، ومن تعدى عليهم، كسب الندامة، ومن عذب لسانه، كثر إخوانه، ومن أهلك نفسه في مرضاة غيره، عظمت جنايته.

إِئتِ إلى الناس، ما تحب أن يؤتى إليك، الإحسان، يقطع اللسان، الاستماع، أسلم من القول، القلب، أسرع تقلباً من الطرف، المتكلف لما لا يعنيه، متعرض لما يكره، ومن أدخل نفسه فيما لا يعنيه، ابتلي فيه بما يعنيه، كمون الحقود، ككمون النار في العود.

إحذر صولة اللئيم، إذا شبع، استعن بالصمت، على إطفاء الغضب، الصنيعة عند الكفور، لا تثمر إلا مرا، من عرف ثمار الأعمال، كان حقيقاً أن لا يغرس مراً، ومن أبصر العاقبة، فآثرها، أمن الندامة.

من تعزّز بالله، لم يذلّه سلطان، ومن توكّل عليه، لم يضرّه إنسان.

من طال كلامه سئم، ومن قلّ احترامه، شتم.

إياك واللّجاج، فإنه يوغر الصدور، وينتج النفور، ويقلّب القلوب، ويفتح باب الحروب.

الإفراط في التواضع، يوجب المذلّة، والإفراط في المؤانسة، يوجب المهانة.

لا تعرضنّ عقلك على النّاس، فإذا اضطرك أمر، فكن كصاحب الشطرنج، وإيّاك أن تبتدئ في مجلس، لم تسبر عقول أصحابه، فبين العقول، بون (مسافة) بعيد.

المال عون، ومعوان على المروءة، وربما تحولت البغضاء مودة، والمودة بغضاء، ومن عدم ماله، أنكره أهله.

أكرم الأخلاق، التواضع، التواضع، يورث المحبة، الكبر، مقرون به سوء الظن، الجواد، من بذل، ما يضن به، أحسن العفو، ما كان عن عظيم الجرم.

أعظم الجهاد، جهاد المرء نفسه، لقول الله تعالى، إن النفس لأمارة بالسوء، وقرب الصالحين، داع للصلاح.

إن المُنى، رأسُ أموالِ المفاليسِ، وكَثرةُ الأماني، تَطرد القناعة، وتُفسِدُ الحِسَ، وتُخْلِق العقلَ.

إن الحسد، خلق دنيء، وإن دناءته، أن يوكل بالأدنى، فالأدنى.

إذا أكرمك الناس، لمال أو سلطان، فلا يُعْجِبَنَّكَ ذلك، فإن زوال الكرامة، بزوالها، ولكن ليعجبك، إن أكرموك لعلم، أو لأدب، أو لدين.

المشاراة (المجادلة)، والمماراة (ناظر وجادل، نازعَ وخالف)، يفسدان الصداقة القديمة، ويحلان العقدة الوثيقة، وأيسر ما فيهما، أنهما ذريعة، إلى المنافسة، والمغالبة.

من عرف قدره، قل إفراطه. لا تُجالِسْ عدوَّك، فإنه يَتَحَفَّظ عليك الخطأَ، ويُمارِيك في الصَّوابِ. كن في الحرص على معرفة عيبك، بمنزلة عدوك، في معرفة ذلك. لا تجنين على نفسك، عداوة وبغضة، اتكالاً على ما عندك من العمل، والقوة والمنعة. لا يغتر الأقوياء، بفضل قوتهم، على الضعفاء. الضعيف المحترس من العداوة، أقرب إلى السلامة، من القوي المغتر. من حصن سره، أمن ضرر ذلك.

المشاورة، أوثق ظهير، بإجالة الرأي، تظفر بالحزم، أكثر محادثة، من يصدقك عن عيوبك، أكمل النصحاء، من لم يكتم صاحبه نصيحة، وإن استقله، كثرة أعوان السوء، مضرة بالعمل، من ترك رأي ذي النصيحة، اتباعاً لما يهوى، استوخم العاقبة، لا رأي، لمن انفرد برأيه.

خسر من أنفق حياته في غير حقها. إستصغر المشقة إذا أدت إلى منفعة. بالحزم يتم الظفر. أحسن والدولة (غَلَبة، ما يتداول) لك يحسن إليك والدولة عليك. البصير من عرف ضره من نفعه.

الفكر، مفتاح القلب، القلم، بريد القلب، من قل كلامه، حمد عقله، الدنيا، قد تدرك بالجهل، كما تدرك بالعقل، من حرم العقل، رزئ (فقد) دنياه وآخرته، آفة العقل، العجب، الهم، مرض العقل، أنبل الأشياء قدرا، طاعة القلب، في اتباع الرشد، وانطلاق اللسان، في وقت الحاجة، لا تخل قلبك من المذاكرة، فيعود عقيما ولا تعف طبعك من المناظرة، فيعود سقيما.

اعتبر عقل الوالي، بإصابته موضع أصحابه. الوالي من وزرائه، بمنزلة الرأس، في أعضائه. من الحق على السلطان، رفع ذي الفضيلة، وأن يسد فاقته. خير الملوك، من يرى أنه لا يضبط ملكه، إلا بالعدل بين رعيته، واضيعهم، الفظ المتهاون. الملك الحازم، من استمسك برأي الحزمة، من ذوي الرأي. لا صلاح لرعية، واليها فاسد. أخوف الأحقاد، أحقاد الملوك. أبصر الوزراء، من بصر صاحبه، عيبه بالأمثال. حلية الملوك، وزراؤهم. فساد الوالي، أضر بالرعية، من جدب الزمان. بالرسول، يعرف قدر المرسل. رفق الرسول، يلين القلب الصعب. الملوك أحوج إلى الكتّاب، من الكتّاب، إلى الملوك.

تعلّموا العلم، فإن كنتم ملوكاً، فقتم، وإن كنتم وسطاً، سدتم، وإن كنتم سوقةً، عشتم.

طوبى لمن ترك دنياه، لآخرته، من ألزم نفسه، ذكر الآخرة، اشتغل بالعمل، من استبعد الآخرة، ركن إلى الدنيا، سرور الدنيا، كأحلام النائم، المغبون، من طلب ثواب الآخرة، في الدنيا. المغبون، من طلب الدنيا، بعمل الآخرة، الآلف للدنيا، مغتر، أهن دنيا بائدة، تستكمل كرامة، أحق ما صان الرجل، أمر دينه.

الإعتراف، يؤدي إلى التوبة، الإصرار، وعاء للذنوب، لا تحمد نفسك، على ما تركت من الذنوب، عجزا.

رأس البر، الورع، أحق الناس بالبر، أعملهم بالعاقبة، عمل البر، خير صاحب، بادر لعمل الخير، إذا أمكنك.

أطلب الرحمة بالرحمة، أنفع الكنوز، العمل الصالح، أحسن العمل الصالح، ما كان بصدق النية، خير الأعمال، ما دبر بالتقوى.

خير مستفاد، الهدى.

***

قد أصْبَح النَّاس، إلا قليلًا ممن عَصَم الله، مَدْخُولين منقوصين: فقائلُهم باغ، وسامعهم عيَّاب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غيرُ مُحقق لقوله، بالفعل، ومَوْعُوظهم غير سليم، من الهزء والاستخفاف، ومُسْتَشِيرُهم، غير موطن نفسه، على إنفاذ ما يُشار به عليه، ومصطبر (حبس نفسَه ومنعها عن) للحق مما يسمع، ومستشارُهم غير مأمون على الغش، والحسد، وأن يكون مهتاكًا للستر، مُشيعًا للفاحشة، مؤثرًا للهوى، والأمين منهم، غيرُ مُتحفظ، من ائتمان الخونَةِ، والصَّدوق، غير محترس، من حديث الكَذَبَةِ، وذو الدين، غير مُتورع، عن تَفْريط الفَجَرَة، يتقارضون الثناء، ويترقبون الدول، ويعيبون بالهمز، يكادُ أحزمُهم رأيًا، يلفته عن رأيه، أدنى الرِّضا، وأدنى السُّخْط، ويكادُ يكونُ أَمْتَنُهم عُودًا، أنْ تَسْحَرَه الكلمة، وتنكره اللحظة.

وقد ابتليتُ أنْ أكون قائلًا، وابتليتم أن تكونوا سامعين، ولا خير في القول، إلا ما انتُفع به، ولا يُنتفع إلا بالصدق، ولا صدق إلا مع الرَّأي، ولا رأي إلا في موضعه، وعند الحاجة إليه.

وإنَّ خير القائلين، من لم يكن الباطل غايتَه، ثم لزم القصد والصواب، وخير السَّامِعِين، من لم يكُن ذلك منه سُمعة، ولا رياءً، ولم يتخذ ما يسمع عونًا، على دفع الهوى، ولا بُلغة، إلى حاجة دُنيا.

وإن اجتمع للقائل والسَّامع، أن يُرزق القائل، من الناس، مِقَةً (محبة) وقبولًا، على ما يقوله، ويُرْزَق السَّامِعُ، اتعاظًا بما يسمع، في أمر دنياه، وقد صلحت نياتهما في غير ذلك، فعسى ذَلِكَ أن يكون من الخير، الذي يُبَلِّغه الله عباده، ويعجل لهم من حسنة الدُّنيا، ما لا يحرِمُهم من حسنة الآخرة، كما أن المريد بكلامه، أن يُعجب الناس، قد يجتمع عليه حرمان ما طلب، مع سوء النية، وحمل الوزر.

وما اجتمع فيه صلاح الرَّاعي والرَّعية، فكان الرَّاعي، مؤديًا إلى الرعية، حقهم في الرَّد عنهم، والغيظ على عدوهم، والجهاد من وراء بيضتهم، والاختيار لحكامهم، وتولية صلحائهم، والتوسعة عليهم في معايشهم، وإفاضة الأمن فيهم، والمتابعة في الخلق لهم، والعدل في القسمة بينهم، والتقويم لأودهم (إعوجاج)، والأخذ لهم بحقوق الله عز وجل عليهم.

وكانت الرَّعية، مؤدية إلى الراعي، حقه في المودة، والمناصحة والمخالطة، وتَرْكِ المنازعة في أمره، والصبر عند مكروه طاعته، والمعُونة على أنفسهم، والشِّدة على من أَخَلَّ بحقه، وخَالَفَ أمره، غير مُؤثرين في ذلك آباءهم، ولا أبناءهم، ولا لابسين عليه أحدًا، فإذا اجتمع ذلك في الراعي والرَّعية، تم الصَلاحُ، وبنعمة الله، تتم الصالحات.

ثم أن يُصْلِحَ الرَّاعي نَفْسَه، ويُفسد النَّاسَ، ولا قوة للرَّاعي، مع خذلان الرعية، ومُخالفتهم، وزُهْدهم في صلاح أنفسهم، على أن يبلغ ذات نفسه، في صلاحهم، وذلك أعظمُ ما تكون نعمة الله على الوالي، وحجة الله على الرَّعية بواليهم، فبالحري أن يؤخذوا بأعمالهم، وما أخلقهم أن تُصيبهم فتنة، وعذاب أليم.

ثم صلاح الناس وفساد الوالي، فإنَّ لولاة الناس، يدًا في الخير والشر، ومكانًا ليس لأحدٍ، وقد عَرَفناه فيما يعتبر به، أن ألف رجُلٍ كلهم مفسد، وأميرهم مُصْلِحٌ، أقل فسادًا، من ألف رجل، كلهم مصلح، وأميرهم مفسد، والوالي إلى أن يُصْلِح أدبه، الرَّعية، أقربُ من الرَّعية، إلى أن يُصْلِحَ الله بهم، الوالي، وذلك لأنهم لا يستطيعون مُعاتبته، وتقويمه، مع استطالته بالسلطان، والحمية التي تعلوه.

ثم ما اجتمع فيه فسادُ الوالي والرعية، فليس لكم حمدٌ، ومن أشد جهلًا، وأقطع عُذرًا، ممن لم يَعْرِفِ النِّعْمَة، ولم يقبل العافية، وإنَّ المرء ناظر، بإحدى عيون ثلاث، وهما الغاشتان، والصادقة، وهي التي لا تكاد توجد، عين مودة، تريه القبيح حسنًا، وعين شنآن، تُريه الحسن قبيحًا، وعين عدل، تريه حسنها حسنًا، وقبيحها قبيحًا.

***

البلاغة الإيجاز، وهكذا مذاهب العرب، وعاداتهم في العبارة، يميلون إلى أن تكون الألفاظ، أقل من المعاني في المقدار، والكثرة.

***

البلاغة، اسمٌ جَامِعٌ، لمعانٍ، تجري في وجوه كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الاشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سَجعاً وخُطباً، ومنها ما يكون رَسَائلَ، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جوابا، فغاية هذه الأبواب، الوحيُ (ما تلقيه إلى غيرك ليعلمه) فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز، هو البلاغة.

وكما أنّ خير أبيات الشعر، البيت، الذي إذا سمعت صدره، عرفت قافيته، فإنه لا خير في كلام، لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود (عمودُ الأَمر: قِوامُهُ الذي لا يستقيم إلا به) الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت.

***

لا ينقص الله عددك، ولا ينزع عنك نعمته، التي ألبسك، وأحسن العوض لك، وجعل لك خيراً مما رزأك به، وما أعطاك، خيراً مما قبض منك.

***

أعظم الله أجرك، في كل مصيبة، وأوزعك الشكر، على كل نعمة. إعرف لله حقه، واعتصم بما أمر به من الصبر، تظفر بما وعد، من عظيم الأجر.