كليلة ودمنة، مقدمة عبد الله بن المقفع

هذا كتاب كليلة ودمنة، جمع لهوًا وحكمة، فاجتباه الحُكماء لحكمته، والسخفاء لِلَهْوِه، ولم يزل العقلاء من أهل كل زمان، يلتمسون أن يُعقَل عنهم، ويحتالون لذلك بصنوف الحِيَل، ويطلبون إخراج ما عندهم من العِلل.

وينبغي لمن طلب هذا الكتاب، أن لا تكون غايتُه منه بلوغَ آخره، فليس ينتفع بقراءته ولا يُفيد منه شيئًا، وإن طمَحتْ عيناه إلى جمعه، فإنه خليقٌ ألَّا يُصيبَ منه، إلَّا كما أصاب الرَّجل، الذي بلغني أنه رأى في بعض الصحارى كنزا، فقال في نفسه: إن أنا أحرزتُ ما ههنا بنقله وحدي، لم أنقله إلَّا في أيام، وجعلت لنفسي عملا طويلا، ولكن أستأجر رجالًا يحملونه، وأكون قد استظهرت لنفسي، في إراحة بدني عن الكد، بيسير الأجرة أعطيهم إياها.

ففعل ذلك، وجاء بالرجال، فحَمَلَ كلُّ واحدٌ منهم ما أطاق، وانطلقوا. فلم يزَل دائبًا في ذلك، حتى فرَغ، واستنفد الكنز كله، ثم انطلق إلى منزله بعد الفراغ، فلم يجد شيئا، ووجد كل رجل منهم قد حاز ما حمل لنفسه، ولم يكن له من ذلك إلا العناء والتعب، لأنه لم يفكر في آخر أمره.

وكذلك من قرأ هذا الكتاب، فعليه بالفهم لما يقرأ، والمعرفة، ولا يعرِضْ في نفسه، أنَّه إذا أحكم القراءة له، وعرف ظاهر القول، فقد فرغ ممَّا ينبغي له أن يَعرِف منه، كما أنَّ رجُلًا لو أُتِي بجوزٍ صِحاح في قشوره، لم ينتفع به حتى يكسره ويستخرج ما فيه، ولا يكن كالرجل الذي بلغني أنه طلب علم الفصاحة، فأتى صديقا له، ومعه صحيفة صفراء، فسأله أن يكتب له فيها علم العربية، فكتب له في الصحيفة ما أراد، فانطلق الرجل إلى منزله، وجعل يقرؤها ولا يدري ما معناها، وظنَّ أنه قد أحكم ما في الصحيفة، وأنه تكلَّم في بعض المجالس، وفيه جماعةٌ من أهل الأدب والفصاحة، فقال له بعضهم: لحنت، فقال: ألحنُ والصحيفة الصفراء في منزلي؟ وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء؟

فالمرء حقيقٌ أن يطلب العلم، فإذا وجد حاجته منه، وفَهِمَه، وعَرفَه، وبلغ غايته منه، انتفع بما يرى فيه، فإنه يُقال في أمرين، لا ينبغي لأحد أن يقصِّر فيهما، بل يُكثِرُ منهما: حُسنُ العمل، والتزود للآخرة.

ويُقال أيضًا في أمرين، يحتاج إليهما كل من احتاج إلى الحياة: المال، والأدب. ويُقال في أمرين لا ينبغي لأحدٍ أن يستكبر عنهما: الأدب والموت، ويُقال: إنَّ الأدب يجلو العقل، كما يجلو الوَدَكُ النارَ، ويزيدُها ضوءًا، والأدبُ يرفع صاحبه، والعلم يُنجي من استعمله، ومن عَلِم ولم يستعمل علمه، لم ينتفع بعلمه، وكان كمَثَل الرَّجل، الذي بلغني أن سارقًا دخل عليه في منزله، فاستيقظ، فقال في نفسه: لأسكُتَنَّ حتى أنظر غاية ما يصنع، ولأترُكَنَّه حتى إذا فرَغ مما يأخذ، قمتُ إليه، فنغَّصت ذلك عليه، وكدَّرته.

فسكت وهو في فراشه، وجعل السارق يطوف في البيت، ويجمع ما قدر عليه، حتى غلب على صاحب البيت النُّعاس، وحمله النوم، فنام، ووافق ذلك فراغ السارق، فعمد إلى جميع ما كان قد جمعه، فاحتمله وانطلق به.

واستيقظ الرجل بعد ذهاب السارق، فلم يرَ في منزله شيئا، فجعل يلوم نفسه، ويعاتبها، ويعضُّ كفَّيه أسفا، وعرف أنَّ فطنته وعِلمه لم ينفعاه شيئا، إذ لم يستعملهما.

والعلم لا يَتِم لأمرئ إلَّا بالعمل، والعلم هو الشجرة، والعمل هو الثمرة، وإنما يطلب الرجل العلم لينتفع به، فإنْ لم ينتفع به، لتعجّب من جهله وفعله، ورُبَّ رجلٍ لو قيل له: إنَّ رجلًا كان عارفًا بطريق مَخُوف، ثم ركِبه، فأصابه فيه مكروهٌ أو أذى، ومن لم ينتفع بمعرفته، كان كالمريض العالم، الذي يعلم ثقيل الطعام من خفيفه، ثم تحمِلُه الشهوة على أكل الثقيل منه، وترك ما هو أقرب إلى النجاة، والتخلص من علته.

فأقلُّ الناس عُذرا في ترك الأعمال الحسنة، من قد عرف فضلها وحُسنَ عائدتها، وما فيها من المنفعة، وليس يعذِره أحدٌ على الخطأ، كما أنَّه لو أنَّ رجلين، أحدُهما أعمى، والآخر بصير، وقعا في جُبّ، لكان البَصيرُ عند العقلاء، أقلَّ عذرًا من الأعمى، إذ كانت له عينان يبصر بهما، وذاك بما صار إليه جاهل غير عارف.

وعلى العالم أن يبدأ بنفسه، ويؤدبها بعلمه، ومن كان يطلب العلم ليعلِّمه غيره، وليعرِّفه سواه، فإنما هو بمنزلة العين التي ينتفع الإنسان بمائها، وليس لها من تلك المنفعة شيء، وإن خلالا ثلاثا، ينبغي لصاحب الدنيا أن يقتبسها ويُقبسها: منها العلم، ومنها المال، ومنها اتخاذ المعروف، وقد قيل: إنه لا ينبغي لطالبٍ أن يطلب أمرا، إلَّا من بعد معرفته بفضله، فإنه يُعَدُّ جاهلا، من طَلَبَ أمرا، وعنَّى نفسه فيه، وليس له منفعة.

وينبغي لمن عقَل، ألَّا يطلب أمرا، فيه مضرة لصاحبه، يطلبُ بذلك صلاح نفسه، فإنَّ الغادر مأخوذ، ومن فعل ذلك كان خليقا أن يُصيبه ما أصاب الرجل، الذي بلغني أنه كان يبيع السمسم، وكان له شريك، فكان سمسمهما في بيت واحد، غيرَ أنَّ الذي لكل واحد منهما على حدة، فأحبَّ أحدهما أن يذهب بالذي لشريكه من السمسم، ثم أحب أن يجعل له علامة، حتى إذا دنا الليل عرفه بها، فعمد إلى ردائه، فغطَّاه به.

ثم انطلق إلى صديق له، فأخبره بالذي همَّ به، وسأله أن يعينه عليه. فأبى صديقه ذلك، إلَّا أن يجعل له نصف ما يأخذ منه، ففعل، ثم إنَّ شريكه دخل البيت، فرأى سمسمه مُغطًّى برداء صاحبه، فظنَّ أنه غطَّاه من التراب والدواب، فقال في نفسه: لقد أحسنَ شريكي في تغطيته سمسمي وإشفاقه عليه، وسمسمُه أحقُّ أن يُغطَّى بردائه.

فحوَّل الرداء على سمسم صاحبه، فلمَّا كان في الليل، جاء التاجر، والرجلُ معه، ودخلا البيت وهو مُظلِم، فجعل الرجلُ يلتمس ويجسُّ، حتى وقعت يده على الرداء المغطَّى على السمسم، وهو يُقدِّر أنه كما غطَّاه، وأنه سمسم صاحبه، فأخذ نصفه، وأعطى صديقه الذي عاونه نصفه.

فلمَّا أصبح، جاء هو وشريكه حتى دخلا البيت، فلمَّا رأى الرجل أنَّ الذي ذهب سمسمُه، ورأى سمسم صاحبه على حاله، دعا بالويل، وعرف أنَّ الذي أخذه ذلك الرجل، ليس برادِّه، ويخشى أن تكون فيه فضيحته، فلم يقُل شيئًا.

وينبغي لمن طلب أمراً، أن يكون له فيه غايةٌ ونهايةُ، فإنه من أجرى إلى غير غاية، أوشك أن يكون فيه عناؤه.

وربما أصاب الرجلُ الشيء، وهو غير راجٍ له، كما أصاب الرجل، الذي بلغني أنه كانت به حاجةٌ شديدة، وخَلَّةٌ ظاهرة، وفاقةٌ وعُري، فغدا يطلب من معارفه وشكا إليهم، وسألهم ثوبًا يلبسه.

وجَهِد فلم يُصِب شيئًا، ورجع إلى منزله وهو آيِس، فبينما هو نائم على فراشه، إذا بسارق قد دخل عليه في منزله، فلمَّا رآه الرجل قال: ما في منزلي شيء يستطيع هذا السارق أن يسرقه، فليصنع ما يشاء، وليُجهِد نفسه.

وإنَّ السارق دار في البيت، وطلب، فلم يجد شيئًا يأخذه، فغاظه ذلك، وقال في نفسه: ما أرى ههنا شيئًا، وما أحب أن يذهب عنائي باطلًا.

فانطلق إلى خابية فيها شيءٌ من بُرِّ (قمح صُلْب)، فقال: ما أجد بُدًّا من أخذ هذا البُرّ، إذ لم أجد غيره.

فبسط ملحفة كانت عليه، وصب ذلك البُرَّ فيها، فلمَّا بصُر به الرجل، قد جعل البُرَّ في الملحفة، وهو يريد أن ينطلق بها، قال: ليس على هذا صبر، يذهب البُرَّ ويجتمع عليَّ أمران: الجوع والعُري، ولن يجتمعا على أحدٍ إلا أهلكاه، فصاح بالسارق، فهرب من البيت، وترك الملحفة، فأخذها صاحب المنزل، فلبسها، وأعاد البُرَّ إلى مكانه.

فليس ينبغي لأحد أن ييأس، ولكن لا يدع جُهدًا في الطلب على معرفة، فإنَّ الفضل والرزق يأتيان من لا يطلبهما، ولكن إذا نَظَر في ذلك، وجد من طلب وأصاب، أكثر ممَّن أصاب بغير طلب، ولم يكن حقيقا أن يقتدي بذلك، الواحد الذي أصاب من غير طلب، ولكن يقتدي بالكثير الذين طلبوا فأصابوا.

وحقٌّ على المرء أن يُكثر المقايَسة، وينتفع بالتجارب، فإذا أصابه الشيء فيه مَضَرَّة عليه، حَذِرَه وأشباهه، وقاس بعضه ببعض، حتى يحذر الشيء بما لقيَ من غيره، ولا يكون مَثَلُه كمثل الحمامة التي يُؤخَذ فرخاها فيُذبحان، وترى ذلك في وكرها، ولا يمنعها من الإقامة في مكانها، حتى تؤخذ هي فتُذبح.

وينبغي للمرء مع ذلك، أن يكون للأمور عنده حدّ لا يجوزُه، ولا يُقَصِّر عنه، فإنه مَن جاز الحد، كان كمن قصَّر عنه، لأنهما خالفا الحدَّ جميعا، وينبغي له أن يَعلم أنَّ كل إنسان ساع، فمن كان سعيه لآخرته ودنياه، فحياته له، وعليه.

ورُبَّ رجلٍ يُخبر بالشيء لا يقبلُه، ولا يعرف استقامته، فيصدِّق به لما يَرى من تصديق غيره، فيتمادى به ذلك حتى يكونَ كأنه عَرَفه، ورجل يصدق به لهواه في الأمر الذي يُخبَر به.

فالعاقلُ لا يزال للهوى متَّهِما، وينبغي له ألَّا يقبلَ من أحد، وإن كان صَدوقًا إلَّا صِدقا، وينبغي له ألَّا يتمادى في الخطأ، ولا يتوانى في النظر، وينبغي له إذا التبس عليه أمر، ألَّا يلجَ في شيء منه، ولا يُقدمَ عليه قبل أن يستيقن بالصواب منه، ولا يتمادى في الخطأ إذا ظهر له خطؤه، ولا يكون كالرجل الذي يحيد عن الطريق، فيستمر على الضلال، فلا يزداد في السير إلا جهداً، وعن القصد إلا بعداً، وكالرجل الذي تقذى عينه فلا يزال يحكها، وربما كان ذلك الحك سبباً لذهابها.

وقد قيل في أمور شتَّى، من كانت فيه، لم يستقِمْ أمره له، منها التواني في العمل، ومنها التضييع للفُرَص، ومنها التصديق لكل مُخبِر.

فمن قرأ هذا الكتاب فليقتدِ بما في هذا الباب، فإنني أرجو أن يزيده بصرا ومعرفة.