قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، من أمرِ من يدع ضُرَّ غيره، لضرِّ نفسه، فأخبرني عمَّن يدع صنعه، الذي يعرفه ويليق به، ويطلب سواه فلا يقدر عليه، فيراجع الذي كان في يده، فيفوته، ويبقى حيران متردداً.
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض، ناسك عابدٌ مجتهدٌ، فنزل به ضيفٌ ذات يوم، فدعا الناسك لضيفه بتمر ليتحفه به، فأكلا منه جميعاً.
ثم إنَّ الضيف قال: ما أحلى هذا التمر وأطيبه، فليس هو في بلادي التي أسكنها، وليته كان فيها! أرى أن تساعدني على أن آخذ منه ما أغرسه في أرضنا، فإني لست عارفاً بثمار أرضكم هذه، ولا بمواضعها.
قال الناسك: إنَّه لا يُعدُّ سعيدا، من احتاج إلى ما لا يجد، وليس بمقدورٍ عليه، فتشرَهُ لذلك نفسُه، ويقلُّ عنه صبره، ويصل إليه من ثِقل ذلك واغتمامه، ما يُضِرُّ به، ويُدخِل المشقة عليه، وإنك أنت العظيمُ الجَدّ، الجزيلُ الحظّ، حين قنعت بما رُزِقت، وزَهِدت فيما لا تظفر به، ولا تدرك طَلبتك منه.
فاستحسن الضيف كلامه وأعجبه، فتكلف أن يتعلمه، وعالج في ذلك نفسه أياماً.
فقال الناسك لضيفه: ما أخلقك أن تقع مما تركت من كلامك، وتكلفت من كلامي، في مثل ما وقع فيه الغراب.
قال الضيف: وكيف كان ذلك؟
قال الناسك: زعموا أن غراباً، رأى حجلة، تدرج وتمشي، فأعجبته مشيتها، وطمع أن يتعلمها. فراض على ذلك نفسه، فلم يقدر على إحكامها، وأيس منها، وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها، فإذا هو قد اختلط، وتخلع في مشيته، وصار أقبح الطير مشياً.
وإنما ضربت لك هذا المثل، لما رأيت من أنك تركت لسانك الذي طبعت عليه، وأقبلت على لساني، وهو لا يشاكلك، وأخاف ألا تدركه، وتنسى لسانك، وترجع إلى أهلك وأنت شرّهم لسانا، فإنه قد قيل: إنه يعد جاهلاً، من تكلف من الأمور ما لا يشاكله، وليس من عمله، ولم يؤدبه عليه آباؤه وأجداده من قبل.