قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، من تقلب الخيرات، إذا لم يكن صاحبه يحسن الاحتفاظ به، فأخبرني عن العجل، الغير المتثبت، ولا الناظر في العواقب، واضرب لي في ذلك مثلا.
قال الفيلسوف: إن الذي على ما ذكرت أيها الملك، صار أمره، إلى مثل ما رجعت إليه حال الناسك، الذي قتل إبن عرس، كان له وادا محبا، لشيء ظنه به، ولم ينتهي إلى حقيقته، ولم يكن في أمره متثبتاً، ولم يبرح نادماً.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أن ناسكاً من النساك، كانت له امرأة جميلة، فمكثا زمناً لم يرزقا ولداً، ثم حملت منه بعد الإياس (انقطاع الرجاء)، فسرت المرأة، وسر الناسك بذلك، فحمد الله تعالى، وقال لزوجته: أبشري وقري عينا، فإني أرجو أن تلدي غلاما، يكون لنا فيه متاع ومنافع، وأختار له أحسن الأسماء.
قالت المرأة: لم تتكلم فيما لا تدري، اضرب عن هذا، وارضَ ما قسم الله لنا، فإنَّ العاقل لا يتكلم فيما لا يدري، قلَّ أن يكون أصابه ما أصاب الناسك، الذي أراق على رأسه السمن والعسل.
قال الناسك: وكيف كان ذلك؟
٢ - مثل: الناسك، والسمن، والعسل
قالت المرأة: زعموا أن ناسكاً كان يجري عليه في كل يوم، رزق من السمن والعسل، فكان يأكل منه قوته وحاجته، ويرفع الباقي، ويجعله في جرة، فيعلقها في وتد في ناحية البيت، حتى امتلأت.
فلما كان ذات يوم، وهو مستلق على سريره، والجرَّة فوق رأسه، إذ نظر إليها، فذكر غَلاء السمن والعسل، فقال: أنا بائعٌ ما في هذه الجرَّة بدينار، فأشتري بالدينار عشرة أعنُز، فيحملن ويلدن، حتى يصير لي خمسين عنزا، ولا يمضي عليّ خمس سنين، حتى تصير أكثر من أربعمائة عنْز، ثم أبيعها، فأشتري بأثمانها مائة من البقر، بكلِّ أربعة أعنز ثورا، وأصيب بذرا، فأزرع على الثيران، فلا يأتي عليَّ خمسُ سنين، إلَّا وقد أصبت منها ومن الزرع مالا كثيرا، فأبني بيتا فاخرا، فإذا فرغتُ من ذلك، تزوَّجت امرأةً جميلة، ذات حسَب، فتحبل، ثم تلد ابنًا سويّا مباركا، فأختار له أحسن الأسماء، وأؤدَّبه أدبا حسنا، وأشتدُّ عليه في الأدب، فإن لم يقبل الأدب منِّي، ضربته بهذه العصا هكذا، ورفع العصا يُشير بها، فأصابت الجرَّة فانكسرت، وانصبَّ السمنُ والعسل، على رأسه ولحيته.
وإنما ضربت لك هذا المثل، لكيلا تعجل في شيء، لا تدري أيكون أم لا، ولتنتهي عن الكلام فيما لا تدري، واعبد الله وتوكل عليه.
فاتعظ الناسك بقولها، ثم إن المرأة ولدت غلاماً جميلاً، ففرح به أبوه وأمه، حتى إذا كان بعد أيام، قالت المرأة لزوجها: اقعد عند الصبي، حتى أغتسل وأرجع إليك.
فلم يلبث الناسك إلا قليلا، حتى جاءه رسولُ الملك، فذهب به، ولم يُخلِّف مع ابنه أحدا، غير ابن عرس داجن، كان قد رباه صغيراً.
وكان في بيته جُحر أسْود (حيَّة عظيمة، سوداء اللون)، فخرج يريد الغلام، فوثب عليه ابن عِرس، فقطَّعه قِطَعا، وامتلأ فمه من دمه.
ثم جاء الناسك، وفتح الباب، فالتقاه ابن عرس مبشرا، بما صنع من قتل الحية، فلما نظر إليه الناسك متلطِّخًا بالدم، هام، ولم يظن إلَّا أن ابن عرس قد قتل ولده، فلم يتأنَّ ولم يتثبت في أمره، فضرب ابن عِرس بعصا كانت معه، فقتله.
ودخل الناسك منزله، فرأى الغلام حياً، والأسْود مقتولًا، فعرف القصة، وتبين له سوء فعله، فندم ندامة شديدة على ما فرط منه. فلما رجعت امرأته، ودخلت عليه، ووجدته على تلك الحال، قالت له: ما يبكيك؟ وما شأن هذا الأسْود، وابن عِرس مقتولين؟
فأخبرها بالأمر، وقال: هذه ثمرة العجلة، وعاقبة من لم يتأن، وعمل بالعجلة ولم يتثبَّت، وندم حيث لا ينفع الندم.
ثم قال الفيلسوف للملك: إن أهل العقل، بحسن النظر، وبالمودة، والتأني وترك العجلة، وموافقة الأشياء، بما في ذلك من النفع والدفع، ولما في خلافه من الضر والنقض، فليعرف اللبيب ذلك، وليأخذ نصيبه من العمل.