قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ ما ذكرت، فأخبرني عن الملك، من يحق عليه أن يثق به، ويرجو عونه، ومتى ينبغي له أن يصنع المعروف، فضلاً عن التأني عند الغضب، والروِيَّة عند الفكر، الذي إذا عمل به الملك، كرم على رعيَّتِه، وثبَّت ملكه، وحفِظ أرضه.
قال الفيلسوف: إنَّ أفضل ما حَفظ به الملكُ مُلكه، وثبَّت به سلطانه، وكرَّم به نفسه، هو العقل، لأنه رأس الأمور وملاكها، مع مشاورة اللبيب الرفيقِ العالِم.
ومِن صلاح المرء في نفسه ومعيشته، المرأة الصالحة، الفاضلة الرأي، المواتية، وإنَّ الرجل إن كان شجاعا، ولم يكن حليمًا عاقلا، أو كان حليما عاقلا، وشاور غير لبيب، فإنه يبهظه الأمر اليسير، حتى يرى فيه القبح والضعف، بجهالته، وخطأ رأي أصحابه ونُصحائه، وإن أصابوا ظَفرا، أو لقُوا رشدًا، ساقه القدر إليهم، صارت عاقبة أمرهم إلى الندامة، وإذا كان على خلاف ذلك من الفضل، ومن نُبل الوزير، ثم أعانه القضاء، أصاب الفَلَج على من خاصمه، والغلبةَ على من ناوأه، والسرور له، كما زُعِم مما كان بين الملك، وامرأته، ووزيره.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
١ - مثل: الملك، وامرأته، ووزيره
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان ملكا، وكان متعبداً، فبينما كان نائما في بعض الليالي، إذ رأى ثمانية أحلام، يستيقظ عند كل منها، فأفزعته.
فلمَّا أصبح، دعا بالدراويش، فقصَّ عليهم ما رأى، وأمرهم أن يَعبُروها. فقال الدراويش: لقد رأى الملك أمرا عجبا، مُنكرا، لم يسمع بمثله فيما مضى، فإن أمهلتنا ستَّة أيام، ثم نأتيَك في اليوم السابع بتأويله، فنخبرك به، فلعلَّنا إن استطعنا، أن ندفعَ ما نتخوَّف منه.
قال الملك: قد أمهلتكم، فاعملوا برأيكم وما تعلمون أنه موافق.
فخرجوا من عنده، ثم اجتمعوا في منزل أحدهم، وائتمروا بينهم، وقالوا: قد وجدتم علماً واسعاً، تدركون به ثأركم، وتنتقمون به من عدوكم، وما طال العهد مُذ قتل منَّا اثني عشر ألفًا، وها هو قد أطلعنا على سره، فاستمكنَّا منه، وعرفنا فَرَقه (جزع) من رؤياه، وسألنا التفسير، فلعلَّنا ننتقم، فهلم نغلظ له القول، ونخوفه، حتى يحمله الخوف والجزع، على أن يتابعنا على ما نريد، ونأمر.
فنقول: إن قد نظرنا في كتابنا، فلم نجد شيئًا يصرف عنك سوء ما رأيت، إلَّا قتل من نُسمِّي لك، فإن قال الملك: وما تريدون أن تقتلوا؟ قلنا: نريد امرأتَك الملكة، أكرم نسائك عليك، ونريد أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك، ونريد ابن أخيك الكريم، ونريد وزيرك وصاحب أمرك، فإنه ذو حيلة وعلم، ونريد كاتبك صاحب سرك ولسانك، والفيل الأبيض الذي تقاتل عليه، والفيلين العظيمين، والفرس الذي تركبه، وسيفك الذي لا يوجد مثله، ونريد الفقيه الحكيم الفاضل العالم بالأمور، لننتقم منه بما فعل بنا.
ثم نقول: إنما ينبغي لك أيها الملك، أن تقتل هؤلاء الذين سميناهم لك، ثم تجعل دماءهم في حوض تملؤه، ثم تقعد فيه، فإذا أردنا أن نُخرِجك منه، اجتمعنا معشَر الدراويش من الآفاق الأربعة، فرقيناك، ومسحناك بالماء والأدهان الطيِّبة، ثم صيَّرناك إلى مجلسك، وقد أذهب الله عنك ما تجد من الحزن، من سوء رؤياك التي رأيت.
فإن أنت صبرت على هذا، وطابت به نفسك، نجوتَ من البلاء العظيم الذي قد رهقك وأشرف عليك، واستخلفت مكانهم مثلهم، وإن لم تفعل، فإنَّا نتخوَّف أن يُنزعَ مُلكك وتهلك، ويُستأصل عَقِبك.
فإن هو أطاعنا فيما نأمره، قتلناه أي قتلة شئنا.
فلما أجمعوا على ما أتمروا به، رجعوا إليه في اليوم السابع، وقالوا له: أيها الملك، إنّا نظرنا في كتبنا في تفسير ما رأيت، وفحصنا عن الرأي فيما بيننا، ولسنا نقدر أن نعلمك بما رأينا، إلا أن تخلو بنا.
فأخرج الملك من كان عنده، وخلا بهم، فحدثوه بالذي ائتمروا به، فقال الملك: الموتُ دون ما قلتموه، وما أسمع منه، أفأقتل هذه الأنفس التي هي عندي عِدلُ نفسي، وأحتمل الإثم والوِزر؟ ولا بدَّ من الموت على كل حال، ولست ملكا طولَ الدهر، وسواءٌ عليَّ الهلاك، وفراقُ الأحبة.
قال له الدراويش: إن أنت لم تغضب أخبرناك، فأذن لهم، فقالوا: أيها الملك، إنك لم تقل صواباً، حين تجعل نفس غيرك، أعز عندك من نفسك، فاحتفظ بنفسك وملكك، واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم، على ثقة ويقين، وقرّ عيناً بملكك، في وجوه أهل مملكتك، الذين شرفت وكرمت بهم، ولا تدع الأمر العظيم، وتأخذ بالضعيف، فتهلك نفسك إيثاراً لمن تحب.
واعلم أيها الملك، أن الإنسان إنما يحب الحياة، محبة لنفسه، وأنه لا يحب من أحب من الأحباء، إلا ليتمتع بهم في حياته، وإنما قوام نفسك بعد الله تعالى بملكك، وإنك لم تنل ملكك، إلا بالمشقة والعناء الكثير، في الشهور والسنين، وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك، فاستمع كلامنا، فانظر لنفسك مناها، ودع ما سواها، فإنه لا شيءَ يعدِلها.
فاشتد غمّ الملك، وحزنه، وقام فدخل منزله، ووقع لوجهه، وجعل يتقلب يمينا وشِمالا، محزونا مهموما، ويفكِّر أيَّ الأمرين يركب: ما أدري أي الأمرين أعظم في نفسي؟ المملكة أم قتل أحبائي؟ وليس ملكي بباق عليّ إلى الأبد، ولست بالمصيب سؤلي في ملكي، وإني لزاهد في الحياة إذا لم أرى امرأتي، وكيف أقدر على القيام بملكي، إذا هلك وزيري؟ وكيف أضبط أمري، إذا هلك فيلي الأبيض، وفرسي؟ وكيف أدعى ملكاً، وقد قتلت من أشار الدراويش بقتله؟ وما أصنع بالدنيا بعدهم؟
فمكث كذلك أيامًا، وفشا الحديثُ في الأرض، وقيل: لقد نزل بالملك أمرٌ، هو منه في كَرْب.
فلما رأى الوزير، ما نال الملك من الهم والحزن، فكّر ونظر فقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك، فأسأله عن هذا الأمر الذي قد ناله، من غير أن يدعوني، ولكني أنطلق إلى امرأته.
فأتاها فقال: إني منذ خدمت الملك إلى الآن، لم يعمل عملاً إلا بمشورتي، ورأيي، وأراه يكتم عني أمراً لا أعلم ما هو، ولا أراه يظهر منه شيئاً، وإني رأيته خالياً مع الدراويش منذ ليال، وقد احتجب عنّا فيها، وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره، فلست آمنهم أن يشيروا عليه بما يضره، ويدخل عليه منه السوء، فقومي وادخلي عليه، فاسأليه عن أمره وشأنه، وأخبريني بما هو عليه وأعلميني، فإني لست أقدر على الدخول عليه، فلعلّ الدراويش قد زينوا له أمراً، أو حملوه على خطة قبيحة، وقد علمت أن من خُلُقِ الملك، أنه إذا غضب لا يسأل أحداً، وسواء عنده صغير الأمور وكبيرها.
قالت الملكة: إنه كان بيني وبين الملك بعض العتاب، فلست بداخلة عليه بهذه الحال.
قال الوزير: لا تحْملنَّ الحقد في مثل يومك هذا، فلن يقدر أحدٌ أن يدخل عليه غيرُك، وقد كنت سمعتُه يقول غير مرة: إني إذا حزنت، واهتممت، فأتتني الملكة، سُرِّيَ ذلك عني، فانطلقي إليه، وكلميه بما تظنِّين أنه تطيب به نفسه، ويُجلي عنه ما به، وأعلميني بما يكون جوابه، فإنه لنا ولأهل المملكة أعظم الراحة.
فلمَّا سمعت الملكة ذلك، نهضت إلى الملك، فدخلت عليه، وجلست عند رأسه، وقالت: ما أمرُك أيها الملك السعيد المحمود؟ ما الذي قال لك الدراويش؟ أعلمني ما بك، فإني أراك مهموما حزينا، فإن كان الذي ينبغي لك أن تحزن له أمرا، فيه أجَلُنا، وهو جَلاءُ همّك وسرورك، واسيناك بأنفسنا، فافعل ذلك، وإن يكُ غضبا علينا، نُرضِك، ونأت ما يسرك.
قال الملك: أيتها المرأة لا تسأليني عن شيء، فتزيديني خبالا على ما بي، فإنه لا ينبغي أن يُعلَم ذلك، لعظم خطره، وشدة هوله.
قالت الملكة: أو وقد صار أمري عندك، إلى أن تجيبني بمثل ما قد سمعت؟ إنما أحمد الناس عقلاً، من إذا نزلت به النازلة، كان لنفسه أشد ضبطاً، وأكثرهم استماعاً من أهل النصح، حتى ينجو من تلك النازلة بالحيلة، والعقل، والبحث والمشاورة.
وعظيم الذنب لا يقنط من الرحمة، ولا تدخلّن عليك شيئاً من الهم والحزن، فإنهما لا يردان شيئاً مقضيا، إلا أنهما ينحلان الجسم، ويشفيان العدو، وأهلُ العلم والتجارب ينظرون في ذلك، ويَصبِرون أنفسهم على ما نزل بهم من حوادث الزمان.
قال الملك: أيتها المرأة، فإنَّ في الذي تفحصين عنه دماري، وهلاكك وولدك، وكثير من أهل ودّي، فإن الدراويش زعموا، أنْ لا بدَّ من قتلك، وقتل أهلي ونصحائي، ولا خيرَ لي في العيش بعدكم، ولا لذَّةَ لي بعد فراقكم، وذلك أفظع الأمور، وأجلُّها خطرا في نفسي، وهل أحد يسمع بهذا، إلا اعتراه الحزن؟
فلما سمعت الملكة ذلك، جزعت، ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعاً، فقالت: لا يُحزنك الله أيها الملك، ولا يسوئك، أنفسنا لك الفداء، فإن ذلك يسير في صلاحك وبقائك، وقد جعل الله لك من الأزواج، ما فيه الخَلَف والِعوَض، ولكن أطلب إليك بعد موتي، ألَّا تثق بالدراويش، ولا تستشيرهم، ولا تقبل رأيَ أحدٍ منهم، حتى تؤامر فيه أهل نصيحتك، والثقةِ لك، وتعرف ما تُقدِم عليه فيه من القتل، فإنَّ القتل عظيمُ الخطب، شديدُ الوزر، ولست تقدر أن تُحييَ مَن أهلكت، وقد قيل: إذا لقيت جوهراً، لا تظنُّ به خيرا، فلا تلقيه من يدك، حتى تريه من يعرفه.
وأنت أيها الملك لا تعرف أعداءك، واعلم أن الدراويش لا يحبونك، وقد قتلت منهم بالأمس اثني عشر ألفا، أفتظنُّ أنهم نسوا ذلك؟ أوظننت أن هؤلاء ليسوا من أولئك؟
ولعمري ما كنت جديراً أن تخبرهم برؤياك، ولا أن تطلعهم عليها، وإنما قالوا لك ما قالوا، لأجل الحقد الذي بينك وبينهم، لعلهم يهلكونك، ويهلكون أحباءك ووزيرك، فيبلغوا قصدهم منك.
فأظنك لو قبلت منهم، فقتلت من أشاروا بقتله، ظفروا بك، وغلبوك على ملكك، فيعود الملك إليهم كما كان.
فانطلق إلى الحكيم، فإنه عالم، فطن، لبيب أمين، فأخبره عمّا رأيت في رؤياك، واسأله عن وجهها وتأويلها.
فلما سمع الملك ذلك، سرَّى الهمَّ عن فؤاده، وأمر بإسراج فرسه، وركبه وانطلق إلى الحكيم، فلما انتهى إليه، نزل عن فرسه وحيَّاه، فقال له الحكيم: ما جاء بك أيها الملك؟ وما لي أراك متغيِّرَ اللون، ممتلئا همّا وحزنا؟
فقال له الملك: كنت نائما ذات ليلة، فسمعت من الأرض ثمانية أصوات، أَسْتَيقظُ مع كل صوت ثم أرقد، فرأيت ثمانية أحلام، فقصصتها على الدراويش، فأجابوني بما أخاف أن يصيبني منه، أمرٌ عظيمٌ، إمَّا أن أُقتَل في حربٍ، وإمَّا أن أُغصَب مُلكي، وأُغلَب عليه.
قال الحكيم: لا يَحزُنك أيها الملك هذا الأمر، ولا يُوجلَنّك، فأمَّا الأحلام الثمانية التي رأيت، فأقصصها، فإني مُنَبِّئك بتأويلها.
فقصَّ عليه الملك رؤياه، فقال الحكيم: لا يحزنك أيها الملك هذا الأمر، ولا تخف منه، فهذا تفسيره فيه بعض السخط، والإعراض عمّن تحبه، وإلى سبعة أيام، يأتونك رسل وبُرُد، حتى يقوموا بين يديك.
فلما سمع الملك ذلك، انصرف وقال: إني ناظر فيما قال.
فلمَّا كان اليوم السابع، لبس ثيابه، وأخذ زينته، وجلس في مجلسه، وأذن للعظماء والأشراف، فجاءته تلك الهدايا التي قال الحكيم، حتى وقفوا بين يديه.
فلما رأى الملك ذلك، فرح وقال: لم أوَفَّق حين قصصت رؤياي على الدراويش، وأمروني بما أمروني به، ولولا أنَّ الله جلَّ اسمه، رحمني، وتداركني برأي الملكة، كنت قد هلكت وزالت دنياي، فلذلك ينبغي لكلِّ أحدٍ، أن يسمع من الأخيار، والأخِلَّاء، وذوي القرابات، رأيهم، ويقبلَ مشورتهم، فإنَّ الملكة أشارت عليَّ بالرأي، الذي انتفعت به في بقاء مُلكي، والذي ترون من الفرح والسرور.
قال الوزير: لا يعمل المرءُ شيئا من الأشياء، صغيرا أو كبيرا، إلَّا برأي أهل المودة والخير.
قال الملك: أمَّا الإكليل، وسائر اللباس مما كان يصلح للنساء، خذها، واحملها، واتبعني بها إلى مجلس النساء.
فلمَّا انطلق الملك إلى مجلس النساء، دعا الملكة ومُسامِيَتها، أكرم نسائه، فجلستا بين يديه، فقال: ضع الكسوة بين يدي الملكة، فلتأخذ أيَّها شاءت.
فأخذت الملكة الإكليل، وأخذت مُسامِيَتها كسوة من أفخر الثياب، وأحسنها.
وكان من عادة الملك، أن يكون ليلة عند الملكة، وليلة عند مُساميتها، فأتى الملكة في ليلتها، وقد صنعت أرزا، فدخلت على الملك وفي يدها صحفة من ذهب، والإكليل على رأسها، فقامت على رأس الملك بالصحفة وهو يطعم منها.
فلمَّا رأت مُساميتها الإكليل على رأس الملكة، غارت، فلبست تلك الثياب ومرَّت بين يديه، وكانت كالشمس حسنًا، فأضاء كل ما حولها، فاشتاف إليها وقال للملكة: إنك جاهلة حين أخذت الإكليل، وتركتِ الثياب التي ليس في خزائننا مثلها.
فلما سمعت الملكة، مدح الملك لمُساميتها، وثناءه عليها، وتجهيلها هي، وذمّ رأيها، أخذها من ذلك الغيرة والغيظ، فضربت بالصحفة رأس الملك، فسال الأرز على وجهه ولحيته.
فقام الملك من مكانه، ودعا بوزيره فقال: أما ترى إلى ما فعلته هذه المرأةُ بي، وكيف استخفَّت بي، وحقَرتني، وعملت ما عملت؟ فما أعلم أنَّ ملكا، قط اجتُرئ عليه، بمثل ما ركبَت هذه الحمقاء منِّي، انطلِق بها، فاضرب عُنقها، ولا ترحمها.
فخرج الوزير من عند الملك وقال: ما أنا بقاتِلِها حتى يسكن عنه الغضب، فالمرأة عاقلة، سديدة الرأي، من الملكات التي ليس لها في النساء عديل في الحلم والعقل، وليس الملك صابرا عنها، وقد خلصته من الموت، وعملت أعمالاً صالحة، ونحن نرجوها بعد اليوم.
ولست آمَن أن يقول الملك: ما استطعتَ أن تؤخِّر قتلها حتى تراجعني؟ فلستُ بقاتلها، حتى أنظر رأي الملك فيها ثانية، فإن رأيته نادماً حزيناً على قتلها، جئت بها حية، وكنت قد أنجيت الملكة من القتل، وحفظت قلب الملك، واتخذت عند عامة الناس بذلك يداً، وإن رأيته فرحاً، مستريحاً، مصوّباً رأيه في الذي فعله، أمضيت أمره فيها.
وانطلق بها الوزير إلى منزله سرّا، ووكل بها خادماً من أمنائه، وأمره بخدمتها وحراستها، حتى ينظر ما يكون من أمرها، وأمر الملك.
ثم خضب سيفه بالدم، ودخل على الملك كئيبا حزينا، فقال: أيها الملك، إني قد أمضيت أمرك في الملكة.
فلم يلبث الملك، أن سكن غضبه، وذكر جمال الملكة وحسنها، واشتد أسفه عليها، وجعل يعزي نفسه عنها ويتجلد، وهو مع ذلك يستحي أن يسأل الوزير، أحقاً أمضى أمره فيها أم لا؟ ورجا لما عرف من عقل الوزير، ألا يكون قد فعل ذلك.
ونظر الوزير إلى الملك، فعلم ما في نفسه بفضل علمه، فقال: لا تحزن أيها الملك ولا تغتم، فإنه ليس في الهم والحزن منفعة، ولكنهما ينحلان الجسم، ويفسدانه، مع ما يدخل على أهل وُدِّ الملك أيضًا من الحزن إذا حزن، وفرح أعدائه وشماتتهم، فإنه إذا سمعوا به، لم يُعَدّ من صاحِبه عقلا ولا حزما، فاصبر أيها الملك، ولا تحزَن على ما لستَ بناظر إليه أبدا، فإنْ أحبَّ الملك، حدَّثته بشبيه أمره هذا.
قال الملك: حدثني.
قال الوزير: زعموا أن حمامتين، ذكراً وأنثى، ملأ عشهما من الحنطة والشعير، فقال الذكر للأنثى: أمّا ما وجدنا في الصحاري ما نعيش به، فلسنا نأكل مما هاهنا شيئا، فإذا جاء الشتاء، ولم يكن في الصحاري شيء، رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه، فرضيت الأنثى بذلك، وقالت: نعم ما رأيت.
وكان ذلك الحب ندياً، حين وضعاه في عشهما، فامتلأ عشهما منه.
وانطلق الذكر في بعض أسفاره، فلما جاء الصيف، يبس الحب، وانضمر، ونقص عمَّا كان.
فلما رجع الذكر، رأى الحب ناقصاً، فقال: أليس كنَّا قد اجتمعنا على ألَّا نأكل من عشّنا شيئا؟ فلِمَ أكلتِ؟
فجعلت الأنثى تحلف، أنها ما أكلت منه شيئا، وجعلت تعتذر إليه، فلم يصدقها، وجعل ينقرها حتى ماتت.
فلما جاءت الأمطار، ودخل الشتاء، تندى الحب، وامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر ذلك ندم، ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال: ما ينفعني الحب والعيش بعدك، إذا طلبتك فلم أجدك، وإذا فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك، ولا أقدر على تدارك ما فات.
ثم استمر على حزنه، فلم يطعم طعاماً ولا شرابا، حتى مات إلى جانبها.
فمن كان عاقلا، علم أنه لا ينبغي أن يَعجَل بالعذاب والعقوبة، ولا سيما من يخاف الندامة، كما ندم الحمام الذكر.
وقد سمعت أنَّ رجلًا كان على ظهره كارةُ عَدَس، فدخل بين شجر كثير، فوضع حمله ورقد، فنزل قرد كان في الشجرة التي نام تحتها، فأخذ مِلءَ كفه من ذلك العدَس، ثم صعد في الشجرة، فسقطت من يده حبة، فطلبها، فلم يجدها، وانتثر العَدَس من يده، فلم يقدر على جمعه، وأنت أيضاً أيها الملك، عندك ستة عشر ألف امرأة، تدعُ أن تلهوَ بهنَّ، وتطلب التي لا تجد!
فلما سمع الملك ذلك، خشي أن تكون الملكة قد هلكت، فقال للوزير: أفي سقطةٍ واحدةٍ كانت منِّي، فعلت ما أمرتك به من ساعتك، وتعلَّقت بكلمة واحدة، ولم تتثبت في الأمر؟
قال الوزير: إن الذي قوله واحد واحد.
قال الملك: ومَن ذلك؟
قال الوزير: اللهُ عز وجل، الذي لا يُبدَّل كلامُه، ولا يختلف قوله.
قال الملك: لقد أفسدت أمري، واشتدَّ حزني لقتل الملكة.
قال الوزير: اثنان ينبغي لهما أن يشتدَّ حزنهما، الذي يعمل الإثم في كل يوم، والذي لم يعمل برّا قط، لأن فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل، وندامتهما إذ يعاينان الجزاء، طويلة، لا يستطاع إحصاؤها.
قال الملك: لئن رأيت الملكة حيةً، لا أحزن أبداً.
قال الوزير: اثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا أبدا، المجتهد في البر كل يوم، والذي لم يأثم قط.
قال الملك: ما أنا بناظرٍ إلى الملكة سوى ما نظرت.
قال الوزير: اثنان لا ينظران أبدا، الأعمى، والذي لا عقل له، فإنه كما أنَّ الأعمى لا يبصر السماء، ولا النجوم ولا الأرض، ولا يبصر القريب ولا البعيد ولا أمامه ولا خلفه، كذلك الذي لا عقل له، لا يبصر منفعته من مضرته، ولا يعرف العاقل من الجاهل، ولا الحسن من القبيح، ولا المحسن من المسيء.
قال الملك: لئن رأيتُ الملكة، ليشتدَّن فرحي.
قال الوزير: اثنان يشتدَّ فرحهما، البصير والعالم، فكمَا أنَّ البصير يُبصر نور العالَم وما فيه، كذلك العالِم يبصر الإثم فيجتنبه، والبرَّ فيعمله، ويعرف عمل الآخرة، ويتبين له نجاته، ويهتدي إلى الصراط المستقيم، ويهدي من اتَّبعه إلى سبيل الخير.
قال الملك: ما شبعتُ من رؤيةِ الملكة قط.
قال الوزير: اثنان لا يشبعان أبدا، الذي لا همَّ له إلَّا جمعُ المال، والذي يأكل ما يجد، ويسأل ما لا يجد.
قال الملك: إنه لينبغي لنا أن نتباعد عنك، ونأخذ الحذر، ونلزم الاتقاء، فإنك بذلك جدير.
قال الوزير: اثنان ينبغي أن يُتباعَد منهما، الذي يقول لا عذاب، ولا حساب، ولا ثواب، ولا شيءَ إلَّا ما هو فيه، والذي لا يقدر أن يَصرِف بصرَه عن شهواته، وعمَّا ليس له، ولا أذنه عن استماع السوء، ولا فرجه عن نساءِ غيره، ولا قلبه عما يهمّ به من ركوب الإثم، فيصيرُ أمرُه إلى الندامة، والهوان، وخزي الأبد الدائم.
قال الملك: صرتُ من الملكة صِفرا.
قال الوزير: ثلاثة هنَّ أصفار، النهر الذي ليس فيه ماء، ومن لا يعرف الخير من الشر، والمرأة التي ليس لها زوج.
قال الملك: ليتني قد رأيت الملكة!
قال الوزير: ثلاثة يتمنُّون ما لا يجدون، الفاجر الذي لا ورع له، ويريد إذا مات منزلةَ الأبرار في الآخرة، والبخيل الذي يريد منزلة السَّمْح الجواد، والفجرة الذين يسفكون الدماء بغير حقّ، ويرجون أن تكون أرواحهم مع الشهداء الأتقياء.
ثم إن الوزير لما رأى الملك أشتد به الأمر، واشتاق إلى رؤية الملكة، قال: أنا خليقٌ بإتيان الملك بهذه التي قد أحبَّها وحرص على رؤيتها أشدَّ الحِرص، وها أنا قائمٌ بين يديك، فإن كانت دخلت هذه في معصية فإنَّ لكم الحجَّة والسلطان على عقوبتي وقتلي.
فلما سمع الملك ذلك اشتد فرحه. وقال: إنما منعني من الغضب ما أعرف من نصيحتك وصدق حديثك. وكنت أرجو لمعرفتي بعلمك ألا تكون قد قتلت الملكة. فإنها وإن كانت أتت عظيماً وأغلظت في القول فلم تأته عداوة ولا طلب مضرة، ولكنها فعلت ذلك للغيرة. وقد كان ينبغي لي أن أعرض عن ذلك وأتحمله، ولكنك أردت أن تختبرني وتتركني في شك من أمرها. وقد أخذت عندي أفضل الأيدي. وأنا لك شاكر.
قال الوزير: إنما أنا عبدكم، وحاجتي إليكم اليوم ألَّا تَعجَلوا بعدها في الأمر العظيم الذي يُندَم عليه ويكون في عاقبته الهم والحزن كما رأيت، ولا سيما في أمر هذه التي لا تجد لها عديلًا في الأرض ولا شبيهًا، وأن تتلبثوا.
قال الملك: بحقٍّ قلت، وقد قبلتُ قولك وكل ما ذكرت، فكيف في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد مرَّ بي؟ ولست عاملًا بعدها صغيرًا ولا كبيرًا إلَّا بعد المؤامرة والنظر والتؤدة.
ثم إنَّ الملك أمر الوزير أن يأتيه بالملكة فخرج الوزير من عند الملك فأتى الملكة وأمرها أن تتزين ففعلت ذلك. وانطلق بها إلى الملك. فلما دخلت قامت بين يديه. وقالت: أحمد الله تعالى ثم أحمد الملك الذي أحسن إلي، قد أذنبت الذنب العظيم الذي لم أكن للبقاء أهلاً بعده، فوسعه حلمه وكرم طبعه ورأفته، ثم أحمد الوزير الذي آخر أمري، وأنجاني من الهلكة، لعلمه برأفة الملك وسعة حلمه وجوده وكرم جوهره ووفاء عهده.
قال الملك للوزير: ما أعظم يدك عندي وعند الملكة وعند العامة، إذ قد أحييتها بعد ما أمرت بقتلها، فأنت الذي وهبتها لي اليوم، فإني لم أزل واثقاً بنصيحتك وتدبيرك، وقد ازددت اليوم عندي كرامة وتعظيماً، وأنت محكّمٌ في ملكي تفعل فيه بما ترى، وتحكم عليه بما تريد، فقد جعلت ذلك إليك ووثقت بك.
قال الوزير: ليست بي حاجة فيما قِبَلك إلَّا التأني عند الغضب، والروِيَّة عند الفكر.
قال الملك: بحق قلت وأنا صائرٌ إلى رأيك، ولست عاملاً بعدها عملاً صغيراً ولا كبيراً، فضلاً عن مثل هذا الأمر العظيم الذي ما سلمت منه، إلا بعد المؤامرة والنظر والتردد إلى ذوي العقول ومشاورة أهل المودة والرأي.
ثم أحسن الملك جائزة الوزير، وأمر بقتل الدراويش الذين أشاروا عليه بقتل أحبائه، فأطلق فيهم السيف، وقرَّت عينُه وعيون أهل مملكته وحمدوا الله.