قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، فاضرب لي مثل أهل الثارات والاحقاد، الذين لا بد لبعضهم من اتقاء بعض.
قال الفيلسوف: زعموا أنَّه كان ملك من الملوك، وكان له طائر كان ناطقا كيِّسا، ومعه فرخ له، وأنه أمر بهما، فجعلا عند امرأته، وكانت سيدة نسائه، وأمرها بالاستيصاء، والمحافظة عليهما.
واتفق أن امرأة الملك ولدت غلاماً، فقالت هذا يربى مع ابني، وكلاهما طفلان يلعبان. فألف الفرخ الغلام، وكان الطائر يذهب إلى الجبل كل يوم، فيأتي بثمرتين من فاكهة لا تُعرف، فيُطعِم إحداهما فرخَه، والأُخرى ابنَ الملك، فأسرع ذلك في نشأتهما وقوَّتهما، حتى استبان ذلك للملك، فزاد الطائر عنده كرامة.
حتى إذا كان يوم من الأيام، والطائر غائب في ابتغاء الثمرتين، إذ وثب فرخه في حجر الغلام، فغضب الغلام من ذلك، وضرب بالفرخ الأرض فقتله.
ثم إن الطائر أقبل فوجد فرخه مقتولاً، فصاح وحزن وقال: قبحاً للملوك، الذين لا عهد لهم ولا وفاء! ويل لمن ابتلي بصحبتهم!
إنهم لا حميمَ لهم ولا حريمَ (ما حُرِّم فلا ينتهك)، ولا يحبُّون أحدا، ولا يكرُم عليهم، إلَّا أن يطمعوا فيما عنده من غناه، أو احتاجوا إلى ما عنده من علم، فيقرِّبوه عند ذلك ويكرموه، فإذا قضوا منه حاجتهم، فلا وُدَّ ولا حِفاظَ، ولا الإحسان يجزون به، ولا الذنب يَعفون عنه، الذين إنما أمرهم الفخرُ والرياء والسمعة، والذين يركبون كلُّ عظيمٍ من الذنوب، وهو عندهم صغير حقير هيِّن.
ثم قال الطائر: لأنتقِمَنَّ اليوم من الكَفور، الذي لا رحمةَ له، الغادر بإلفه وتِرْبه، وصاحب ملاعبته ومواكلته، ثم وثب في شدة حنقه على وجه الغلام، ففقأ عينه برجليه، ثم طار فوقع على مكانٍ مُشرِف.
فلما بلغ الملك ذلك، جزع أشد الجزع، وطمع أن يحتال للطائر بحيلة فيظفر به، فركب إليه، فوقف عليه، فناداه باسمه، فقال: أنت آمِن فأقبِل إلينا.
فأبى الطائر ذلك وقال: إن الغادر لا يُجاز له بغدره، وإنه إن أخطأه عاجل العقوبة، لم يخطئه الآجل، حتى إنه يدرك الأعقاب، وأعقاب الأعقاب، وإن ابنك غدر بابني، فعجلت له العقوبة.
قال الملك: لعمري قد غدرنا بابنك، فانتقمت منا، فليس لنا قِبَلك، ولا لك قِبَلنا، ثأر مطلوب، فارجع إلينا آمنا.
قال الطائر: لست راجعا إليك أبداً، فإن ذوي الرأي قد نهوا عن قرب الموتور، وقالوا: لا يزيدَنك لطفُ الحقود، ولينُه وتكرِمتُه إلَّا وحشة منه، وسوء ظن به، فإنك لا تجد للموتور الحقود أماناً، هو أوثق لك من الذعر، والبعد عنه والاحتراس. وقد كان يقال: إنَّ العاقل إنما يَعُدُّ أبويه من الأصدقاء، ويعدُّ الإخوة من الرفقاء، والأزواج إلفا، والبنين ذِكرا، والبنات خصيمات، والأقارب غرماء، ويعدُّ نفسه فردا وحيدا، وأنا اليوم الفرد الوحيد، وقد تزوَّدت من عندكم من الحزن غما طويلا، وعِبئا ثقيلا، لا يحمله معي أحد، وأنا ذاهب فعليك السلام.
قال الملك: إنك لو لم تكن اجتزيت منا فيما صنعناه بك، بل كان صنيعك بنا، من غير ابتداء منا بالغدر، كان الأمر كما ذكرت. وأما إذا كنا نحن بدأناك، فما ذنبك، وما الذي يمنعك من الثقة بنا؟ هلم فارجع، فإنك آمن.
قال الطائر: اعلم أن الأحقاد لها في القلوب، مواقع ممكنة، موجعة، خفيَّة. فالألسن لا تصدق في خبرها عن القلوب، والقلب أعدل شهادة من اللسان على القلب. وقد علمت أن قلبي لا يشهد للسانك، ولا قلبك للساني.
قال الملك: ألم تعلم أن الضغائن ولأحقاد، تكون بين كثير من الناس، فمن كان له عقل، كان على إماتة الحقد، أحرصَ منه على تربيته؟
قال الطائر: إن ذلك لكما ذكرت، وليس ذو الرأي مع ذلك بحقيق، أن يظنَّ بالموتور أنَّه ناس ما وتره به، ومنصرفٌ عنه، وذو الرأي يتخوف المكر، والخديعة، والحيل، ويعلم أنَّ كثيرا من الأعداء لا يُستطاع بالشدَّة والمُكَابرة، حتى يُصاد بالرفق والمُلاينة، كما يُصاد الفيل الوحشيّ، بالفيل الداجن.
قال الملك: إن الكريم لا يترك إلفه، ولا يقطع إخوانه، ولا يضيع الحفاظ وإن هو خاف على نفسه، حتى إن هذا الخلق يكون في أوضع الدواب منزلة، وقد عرفنا أنَّ ناسًا يذبحون الكلاب ويأكلونها، فيرى ذلك الكلب الذي قد ألفهم، فيمنعه إلفه إياهم، من أن يُفارقهم.
قال الطائر: إن الأحقاد مخوفة حيثما كانت، وأخوفها وأشدها ما كان في أنفس الملوك، فإن الملوك يدينون بالانتقام، ويرون الدرك، والطلب بالوتر، مكرمة وفخراً.
ولا ينبغي للعاقل أن يغترّ بسكون الحقود، فإِنما مَثَل الحقد في القلب، ما لم يجد مُتحرَّكا، مثَل الجمر المكنون، ما لم يجد حطبا، فلا يزال الحقد يتطلَّع إلى العِلل، كما تبتغي النار الحطب، فإذا وجد عِلَّة استَعَرَ استعار النار، فلا يُطفئه ماءٌ، ولا كلام، ولا لين، ولا رفق، ولا خضوع، ولا تضرُّع، ولا شيء دون تلف الأنفس، مع أنه رُبَّ واترٍ يطمع في مراجعة الموتور، لما يرجو أن يقدر عليه من النفع له والدفع عنه، ولكني أضعف من أن أقدر لك على ما يُذهب ما في نفسك، ولو كانت نفسك لي على ما تقول، كان ذلك عنِّي مغيَّبا، فأنا لا أزال في خوفٍ وسوءِ ظنّ، ما اصطحبنا، وليس الرأي إلَّا الفراق، وأنا أقرأ عليك السلام.
قال الملك: قد علمت أنه لا يستطيع أحدٌ لأحدٍ، ضرّا ولا نفعا، وأنه لا شيءَ من الأشياء، صغيرا ولا كبيرا، يصيب أحدا إلَّا بقضاء معلوم، وقدر مقدور، وكما أنَّ خَلْقَ ما يُخلق، وولادةَ ما يُولد، وبقاء ما يبقى، ليس إلى الخلائق منه شيء، كذلك فناء ما يفنى، وهلاك ما يهلك، فليس لك عندي فيما صنعت بابني ذنب.
قال الطائر: إن القدر لكما ذكرت، ولكن ليس ذلك حقيقًا أن يمنع من توقى المخاوف، والاحتراس من المكاره، ولكنه يجمع تصديقاً بالقدر، وأخذاً بالحزم والقوة.
وأنا أعلم أنك تحدِّثُني بغير ما في نفسك، والأمر بيني وبينك غير صغير، لأن ابنك قتل ابني، وأنا فقأت عين ابنك، وأنت تريد أن تخاتلني (تخادع) عن نفسي، وتشتفي بقتلي، والنفس تأبى الموت.
وقد كان يقال: الفاقة بلاء، والحزن بلاء، وقرب العدو بلاء، وفراق الأحبة بلاء، والسقم بلاء، والهرم بلاء، ورأس البلايا كلها القتل.
وليس أحد بأعلم بما في نفس الموجع الحزين، ممن ذاق مثل ما به، وأنا بما في نفسك منِّي عالم، للمثال الذي عندي من ذلك، ولا خير لي في صحبتك، فإنك لن تتذكر صنيعي بابنك، ولن أتذكر صنيع ابنك بابني، إلا أحدث ذلك لقلوبنا تغييراً.
قال الملك: لا خير فيمن لا يستطيع الإعراض عما في نفسه، وينساه ويهمله، حتى لا يذكر منه شيئاً، ولا يكون له في نفسه موقع.
قال الطائر: إن الرجل الذي في باطن قدمه قرحة، وإن هو حرص على خفَّة المشي، فلا بدَّ أن ينكأها، والرجل الرمِد، إذا استقبل الريح، فقد تعرَّض لإنكاء عينيه، وكذلك الموتور، إذا دنا من عدوِّه، فقد عرَّض نفسه للهَلَكة.
ولا يستطيع صاحب الدنيا، إلَّا توقِّيَ المتالف، وتقديرَ الأمور، وقلَّةَ الاتكال، وقلَّة الاغترار بمن لا يأمن، فإنه من اتكل على قوَّته، حمله ذلك على أن يسلك الطريق المخوف، ومن سلك الطريق المخوف، فقد سعى في حتف نفسه، ومن لا يقدِّر طعامه وشرابه، فحمل على نفسه وأعضائه ما لا يطيق، فرُبَّما قتل نفسه، ومن لم يُقدِّر لقمته، فأعظَمَها فوق ما يسع فوه، غصَّ بها فمات، ومن اغترَّ بكلامِ عدوِّه، وضيَّع الحذر، فهو أعدى لنفسه من عدوِّه.
والعاقل عليه العمل بالحزم، والأخذ بالقوة في أمره، ومحاسبة نفسه في ذلك، ولا يثق بأحد ما استطاع، ولا يقيم على خوف وهو يجد عنه مذهباً.
وأرجو ألا أذهب وجهاً، إلا أصبت فيه ما يغنيني، فإنَّ خلالا خمسا، مَن تَزودهنَّ، بلَّغْنَه في كل وجه وطريق، وقرَّبن له البعيد، وآنسْنَ له الغربة، وأكسَبْنَه المعيشة والإخوان: كفُّ الأذى، حُسنُ الأدب، مجانبةُ الريبة، كرمُ الخلُق، والنبلُ في العملِ.
وإذا خاف الإنسان على نفسه شيئاً، طابت نفسه عن المال والأهل، والولد والوطن، فإنه يرجو الخلف من ذلك كله، ولا يرجو عن النفس خلفاً.
وشرُّ المال ما لا يُنفَق منه، وشرُّ الأزواج التي لا تواتي (طاوَعْتُه) بعلها، وشرُّ الولد العاصي العاق لوالديه، وشرُّ الإخوان الخاذل لإخوانه عند النكبات والشدائد، وشر الملوك الذي يخافه البريء ولا يواظب على حفظ أهل مملكته، وشرُّ البلاد بلادٌ ليس فيها أمن ولا خصب، وإنه لا أمن بي أيها الملك معك، ولا طمأنينةَ لنفسي في جوارِك.
ثم ودَّع الطائر الملك وطار.
قال الفيلسوف للملك: فهذا مثل أهل الثارات والاحقاد، الذين لا ينبغي لبعضهم أن يثق ببعض، فكان هذا الحذر من الطائر حتى يسلم وينجو، والانسان العاقل السميع البصير، أحق بذلك، وأولى أن يعمل به بقدر معرفته بالأمور، وفضل ما أعطي في ذلك، والله ولي التوفيق.