قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، فأخبرني، أطلب الحاجة أيسر، أم الاحتفاظ بها.
قال الفيلسوف: من لم يحسن المحافظة على حاجته، كما حافظ على طلبها، سلبها، ونزعت منه، وأصابه ما أصاب الغيلم، الذي ضيَّع القِرد، بعد أن استمكن منه.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أنَّ ملك القردة، لما هرم، وذهب شأنه، وضعفت قوته، وثب عليه قرد شاب من أهل بيته، فقال للقردة: قد هرم هذا، وليس يقوى على الملك، ولا يصلح له، ومالأه على ذلك الجند، فنَفَوا القِرد الهَرِم، وملَّكوا الشاب.
فانطلق القِرد الهَرِم هارباً، فلحق بساحل البحر، فانتهى إلى شجرةٍ من شجر التين، فارتقى إليها، فجعل يأكل من تينها، فسقطت منه تينة في الماء، فأبصرها غَيلَم، فأخذها، فأكلها، فاستطابها، فسمع لها القِرد صوتاً وإيقاعاً، فجعل يأكل ويرمي في الماء، فأطربه ذلك، فأكثر من طرح التين في الماء، فأخذها الغيلم فأكلها، فنظر كل واحد منهما صاحبه، فأعجب به، فخرج الغيلم إلى القرد، فتصافحا وتصادقا، وألِف كل واحدٍ منهما صاحبه، ولبثا زمانًا لا ينصرف الغيلم إلى أهله.
وطالت غيبة الغيلم (ذكر السلحفاة) عن زوجته، فجزعت عليه، وحزنت، وشكت ذلك إلى صاحبها، فقالت: ما ترين، ألعلَّه عَرَض له عارضٌ من شرّ؟
قالت صديقتها: إن زوجك قد آخى قردا بالساحل، فهو مؤاكله ومشاربه، فذلك الذي حبسه عنك، فلا تذكرينه إن نسيك، ولا تشتاقين إليه وقد اختار غيرك عليك، واحتالي على هلاك الذي حال بينك وبينه، حتى يخلص لك زوجك.
قالت الزوجة: وكيف أصنع؟
قالت صديقتها: إذا وصل إليك فتمارضي، فإذا سألك عن حالك فقولي: إن الحكماء وصفوا لي قلب قرد.
ثم إن الغيلم اشتاق إلى أهله، فانطلق بعد مدة إلى منزله، فوجد زوجته سيئة الحال، شاحبة اللون، فقال لها: يا أخت، مالي أراك هكذا؟
فأعرضت عنه ولم تجبه، وأجابته صديقتها: إن الذي ترى بها، عن وجع أصابها.
قال الغيلم: إني أبتغي لها الأطباء.
قالت صديقتها: أمَّا مَرَضها فشديد، وأمَّا الدواء فأشدّ، فهل لشدَّة الداء، وعدم الدواء، إلَّا الموت؟
قال الزوج: وما هو، لعلِّي أقدر عليه؟
قالت صديقتها: هذا المرض، ليس له دواء، إلَّا قلبُ قرد.
فلما سمع ذلك السلحفاة منها، فكر في صديقه وقال: هذا أمرٌ عسير، من أين أقدر على قلب قرد، إلا أن أخدع صديقي، وأغدر به، وأعظم منه وأفظع، هلاك صاحبتي، أفغادِرٌ بصديقي، أم مُهلِك زوجتي؟ كل ذلك لا عذرَ ليَ فيه.
ثم غدا متوجِّهًا نحو القرد، وهو يقول: إذا لم يستطع الرجل عظيمًا، إلَّا باحتمال صغير، كان حقيقًا ألَّا يلتفت إلى الصغير، وحقُّ الزوجة بعدُ عظيم، والمنافع فيها كثيرة، والمعونة منها على أمر الدنيا والآخرة غيرُ واحدة، وأنا حقيقٌ أن أوثِرها ولا أُضيَّع حقَّها، وإنَّ إهلاكي أخًا وفيّا، وَصولا في سبب امرأة، لمن الأمور التي تُخاف عواقبها، وليست لله رضا.
فلما رَآهُ القرد مقبلا، رحب به، وفرح بمجيئه، وقال له: أين كنت يا أخي، وما أبطئك عني؟
قال الغيلم: ما منعني منك، مع شوقي إليك، الا الحياء، لأني لم أكافئك بشيء من صنيعك وإحسانك إليّ، وأنت خليقتك خليقة الكرام الأحرار، الذين يُنيلون الخير مَن لم يُنِلهم إياه فيما مضى، ولا يرجونه منه فيما بقي، والذين لا ينسون جزاءه، فإني أرى حقًّا عليَّ التماس مكافأتك، وإن كنت قد عرفت أنك لا تلتمس مني جزاءً بمعروفك، وإنه قبيح بي أن لا أجازيك ببعض ما كان.
قال القرد: ما ينبغي لك أن تذكر مثل هذا، فإنه يسير حقير، والمكافأةُ منك بأحسن ما رأيت، وقد سقطتُ إليك من وطني شريدا طريدا، وكنتَ لي سَكَنا وإلفا، أذهبَ الله عنِّي بك، الهمَّ والحزن.
قال الغيلم: إن أفضل ما يلتمس المرء من أخلائه وأصدقائه، أن يغشوا منزله، ويصيبوا من طعامه وشرابه، ويعرفهم ولده وأهله، وأنت لم تطأني رجلا، وذلك منقصة وعار وشين يلزمني.
قال القرد: إنما يود المرء من أخيه، أن يبذل له وده، ويسلم له صدره، ويحبه بقلبه كله، فأما ما وراء ذلك، فقد تعلم أن كثيرًا من الخيل، والبِغال، والحَمير، يجتمعن على الأكل، والسارق يدخل البيت، بغير محبة أهله، ولا صيانة لهم، إلَّا إرادة مالهم ومتاعهم، والذي يلعب على الخشبة، يلتمس النظر، وإنما ينبغي للصديق، أن يلتمس من صديقه ذات نفسه.
قال الغيلم: صدقت، لعمري ما يود المرء من أخيه، إلا وده وحفظه، ولا يُكثرنَّ الرجل على إخوانه حمل المُؤْنات (الشدّة والثقل)، حتى يؤذيهم ويبرمهم، وأريد أن تتم إحسانك إليّ، بزيارتك إياي في منزلي، فإنه في جزيرةٍ كثيرة الشجر، طيبة الفواكه، فاركب ظهري لأسبح بك.
فرغب القرد في ذلك، فنزل وركب ظهر الغيلم، فسبح به، حتى إذا لجَّج به في البحر، عرض في نفسه قبح ما يريد، وفجورُه، وغدرُه، فنكس رأسه، واحتبس مفكِّرًا يقول في نفسه: إن الذي أريد لكفر وغدر، وما أنا بحقيق أن أركبه مع أخي وصفيي، وما الإناث بأهل أن يُوثَق بهنَّ، ويُسترسَل إليهنَّ، لسوء عهدهن وزوال مودتهن، وقد قيل: إنَّ الذَّهب يجرب بالنار، والرجال بالأخذ والعطاء، والدواب بالحمل الثقيل.
فلما رأى القرد احتباس الغيلم، ارتاب وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إلَّا لأمر، فلعله انصرف قلبه عن مودتي، وأراد بي سوءا، فإنه لا شيء، أخف وزنًا، ولا أشد تغيُّرا، ولا أسرع انقلابا، من القلب، وقد قيل: لا يَغفل العاقل عن التماس عِلم ما في نفس الصديق، والعدو، والولد، والزوجة، عند كل أمر، وفي كل كلمة، وعند كل حال، فإنَّ ذلك شاهدٌ على ما في القلوب، وقد قالت العلماء: إذا دخل قلب الصديق، من صديقه ريبة، فليأخذ بالحزم في الحفظ منه، فإن كان ما يظن حقاً ظفر بالسلامة، وإن كان باطلاً لم يضره ذلك.
ثم قال القرد للغيلم: مالي أراك مهموما؟
قال الغيلم: يهمّني أنك تأتي منزلي، فلا توافق فيه كلَّ الذي أحبُّه لك، فإن زوجتي عليلة.
قال القرد: لا تهتم، فإن الهم لا يغني عنك شيئاً، ولا ينتفع به، ولكن التمس ما يصلح زوجتك من الأدوية والأغذية، فإن ذلك أمثل، وإنه يقال: ليبذل ذو المال ماله في ثلاثة مواضع، في الصدقة، وفي الحاجة، وعلى البنين والأزواج.
قال الغيلم: صدقت، وقد قال الأطباء، أنه لا دواء لها، إلا قلب قرد تأكله.
قال القرد في نفسه: قاتل الله الشهوة، والشره، والحرص، والطمع، أهلكت صاحبها، فإنه حملتني قلة قناعتي، بما كانت عليه حالي، على أن وقعت في ورطة لا مجال منها إلا الحيلة، وقد قيل: يعيش القانع الراضي، آمنا، مُطمَئنّا، مستريحا، وذو الحرص والشره والمتسخط، لا يعيش ما عاش، إلَّا في تعبٍ، ونَصَبٍ، وخَوفٍ، وكدر من الأشياء، وإني احتاج الآن إلى عقلي، في التماس المخرج مما وقعت فيه.
ثم قال القرد للغيلم: إنه ليس ينبغي للصاحب، أن يدخر عن صاحبه نصيحة، ولا منفعة، وإن أضرَّ ذلك به في نفسه، ما منعك إذ كان الامر على ما ذكرت، أن أعلمتني، ولو كنت علمت بهذا، كنت قد جئت بقلبي معي.
قال الغيلم: وأين قلبك؟
قال القرد: تركته في منزلي.
قال الغيلم: وما حَمَلك على ذلك؟
قال القرد: سنَّة فينا معشَرَ القرود، إذا خرج أحد لزيارة أخٍ أو صديق، خلّف قلبه عند أهله أوفي موضعه، فإن شئتَ، ارجع بي إلى الشجرة، حتى آتيك به.
فقال الغيلم: لئن فعلت ذلك، فلقد أنعمت علي وأحسنت. وفرح بطيب نفسِ القرد، وانقلب به راجعًا. حتى إذا بلغ الساحل، وثب القرد إلى الشجرة، فصعِدها، وأقام الغيلم ينتظره، فلمَّا أبطأ ناداه الغيلم: يا خليلي، عجِّل، احمل قلبك وانزل، فقد حبستني.
قال القرد: هيهات، أتظن أنّي كالحمار، الذي زعم ابن آوى، أنه لم يكن له قلب ولا أذنان.
قال الغيلم: وكيف كان ذلك؟
٢ - مثل: ابن آوى، والأسد، والحمار
قال القرد: زعموا أنَّ أسدًا كان في أجمة، ومعه ابن آوى، يعيش من فُضولِ صيده، فأصاب الأسد جَرَبٌ شديد، حتى ضعف، فلم يستطع الصيد، فقال له ابن آوى: يا سيِّد السباع، ما شأنك؟ قد تغيَّر حالُك، وقلَّ صيدُك، فأنَّى ذلك؟
قال الأسد: هذا الجرب الذي قد أجهدني، وليس له دواء، إلا أن أُصيب قلب حمار، وأذناه.
قال ابن آوى: قد عرفتُ ههنا، مكانَ حِمار، يجيء به قصَّار (المبيض للثياب)، إلى مرجٍ قريب منَّا، يحمل عليه ثيابه التي يغسلها، فإذا وضع عنه الثياب، خلَّاه في المرج، فأنا أرجو أن آتيك به.
قال الأسد: إن قدرت على ذلك فافعل، ولا تؤخِّرنَّ، فإنّ الشفاء لي فيه.
فانطلق ابن آوى إلى الحمار، وسلم عليه، وقال له: مالي أراك مهزولاً؟
قال الحمار: أنا لهذا القصَّار الخبيث، فهو يُسيءُ علفي، ويُديم إتعابي، ويُثقِل ظهري.
قال ابن آوى: وكيف ترضى المقام معه على هذا؟
قال الحمار: فما أصنع؟ وأين أذهب؟ فلست أتوجه جهة، إلا أخذني إنسان، وكدني وأجاعني، فكيف أفلت من أيدي الناس؟
قال ابن آوى: أنا أدلُّك على مكانٍ منعزل، خصيب المرعى، لم يطأه إنسانٌ قطّ، فيه أتان، لم ينظر الناس إلى مثلها قط، حُسنا وتماما، وهي ذات حاجة إلى الفحل.
فطرب الحمار عند ذكر الأتان، وقال: وما يحبسنا؟ ألا إنطلق بنا، فإني لو لم أرغب في إخائك، لكان ذلك حاملي على الذهاب معك.
فانطلق به ابن آوى، وتقدم ودخل الغابة على الأسد، فأخبره بمكان الحمار، فخرج الأسد إليه، فوثب على الحمار من خَلفِه فلم يضبطه، وتخلص الحمار منه، فأفلت هلعاً على وجهه.
قال ابن آوى: قد هَلكنا، أعجزت يا سيد السباع؟
قال الأسد: ردّ الحمار إليّ، فإن جئتني به، فلن ينجو مني أبداً.
فمضى ابن آوى إلى الحمار، فقال له: ما الذي جرى عليك؟ إن الاتانة لشدة علتها، وثبت عليك.
فلما سمع الحمار بذكر الاتانة، نهق، وأخذ طريقه إلى الأسد، فسبقه إبن آوى إلى الأسد، وأعلمه بمكانه، وقال: استعد له، فلا يدركنَّك الضعف، فإن أفلت، فلن يعود معي أبداً.
فخرج الأسد إلى موضع الحمار، فلما بصر به، عاجله بوثبة افترسه بها.
حتى إذا فرغ منه، قال الأسد: إنه وُصِف لي هذا الدواء، على أن أغتسل، فاحتفظ به حتى أعود، فآكل قلبه وأذنيه، وأترك ما سوى ذلك قوتاً لك.
فلما ذهب الأسد ليغتسل، عَمَدَ ابن آوى إلى أُذُنَي الحمار وقلبه، فأكلها رجاءَ أن يتطيَّر الأسد، فلا يأكل من بقيَّة الحمارِ شيئًا.
فلمَّا رجع الأسد قال: أين قلب الحمار وأذناه؟
قال ابن آوى: أوَ ما شَعَرتَ أنَّ هذا الحمار، لم يكن له قلبٌ، ولا أُذُنان؟
قال الأسد: ما سمعتُ بأعجب من مقالتك!
قال ابن آوى: لو كان له قلب وأذنان، لم يرجع إليك ثانية، بعد أن صنعت به ما صنعت.
وانَّما ضربت لك هذا المثل، لتعلم أني لست كذلك الحمار، الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب وأذنان، ولكنك احتلت عليَ، وخدعتني، فخدعتك بمثل خديعتك، واستدركت تفريطي، وما كنت ضيَّعت من نفسي، وقد قيل: إن الذي يفسده الحلم، لا يصلحه إلا العلم.
قال الغيلم: أنتَ الصادق البارّ، وذو العقل، يُقِلُّ الكلام، ويبالغ في العمل، ويعترف بالزلَّة، ويتثبت في الأمور قبل الإقدام عليها، ويستقيل عثرة عمله بعقله، كالرجل الذي يعثر على الأرض، وعليها ينهض ويستقيم.
قال الفيلسوف للملك: فهذا مثل الذي يطلب أمرا، حتى إذا استمكن منه، أضاعه.