قال الملك للفيلسوف، قد فهمت كلامك عن الواشي، الماهر بالخلابة، المحتال، كيف يفسد، بتشبيهه، وتلبيسه، وبالنميمة، الودَّ الثابتَ بين المتحابين. فأخبرني، إلامَ آل أمر دمنة بعد قتل شربة، وما كان من معاذيره عند الأسد وأصحابه، حين راجع الأسد رأيه في الثور؟
قال الفيلسوف: بلغنا، أن الأسد لما قتل شربة، ومرَّ عليه أيام، ندم على معاجلته إياه بالقتل، وذكر قديم صحبته، وجسيم خدمته، وأنه كان أكرم أصحابه عليه، وأنه كان يواصل له المشورة، فكان الاسد يطيل مسامرة أصحبه.
وكان من أخص أصحاب الاسد بعد الثور، النمر. فلما كان ذلت ليلة، خرج النمر من عند الأسد، وأمست، فخرج النمر يطلب قبسًا، من منزل كليلة ودمنة.
فلما انتهى إلى الباب، إذا هو بكليلة، يعاتب دمنة على ما كان منه، ويعذله (يلومه) على سوء رأيه، وعلى النميمة، واستعمالها مع الكذب، والبهتان، في حق الخاصة، وما ارتكب من شربة في غير ذنب أتاه إليه، فكان فيما قال كليلة لدمنة: لقد ارتكبت مركباً صعباً، ودخلت مدخلاً ضيقاً، وجنيت على نفسك جنايةً موبقةً، عاقبتها وخيمةٌ. سوف يكون مصرعك شديداً، إذا انكشف للأسد أمرك، واطلع عليه، وعرف غدرك ومحالك، وبقيت لا ناصر لك، فيجتمع عليك الهوان والقتل، مخافة شرك، وحذراً من غوائلك.
أنا جدير بمباعدتك، والتماس الخلاص لي، مما وقع في نفس الأسد من هذا الأمر، ولقد بان عندي من كلامك وفعالك. إن سعيك ليس بشيء، ولست لي برفيق، فأنت لست حافظ للعهود والمواثيق، وسعيك سعي مكر وخداع. لست بمتخذك بعد اليوم خليلاً، ولا مفشٍ إليك سراً، ولا مُقارِبِك في شيء. إن العلماء قد قالوا: تباعد عمن لا رغبة له في الخير، والبر، والصلاح، وانما عمله، النميمة، والافساد. وكذلك، حملتَ الملك، على خليله البريء، الرَّفيق، العالِم، ولم تزل به، حتى اتهمه، فقتله.
لما سمع النمر هذا من كلام كليلة، رجع، ودخل على أم الأسد، وأخذ عليها العهود والمواثيق، أن لا تفشي ما يسر إليها. فعاهدته على ذلك، فأخبرها بما سمع من كلام كليلة ودمنة.
فلما أصبحت، قامت ودخلت على الأسد، فرأته كئيباً، حزيناً، مهموماً، فلمَّا عاينت ذلك منه، عرفتْ أنَّه ليس إلَّا على الثور، فقالت: ما شأنك وما بال الحزن قد أخذ منك مأخذا مفرطا، ما هذا الهم الذي قد غلب عليك؟
قال: يحزنني قتل الثور، إذ تذكرت صحبته ومواظبته على خدمتي، وما كنت أسمع من مناصحته.
قالت: إنَّ الأسف والهمّ، لا يردَّان شيئًا، وهما يُنحِلان الجسم، ويُذهِبان العقل، ويُضعِفان القوَّة. إن كنت ترى أن في حزنك هذا، ومواظبته، فرجا، فأعلمنا، لنحزن جميعا، وإن كان لقتلك شربة، فاسمع مني، واقبل مناصحتي. لعمري، إنك ارتكبت في هدر دمه خطأ عظيما، وإنك ركبتَ ذلك منه ظُلمًا، على غير جُرم، وقد قالت العلماء، الضمير قاض عادل.
قال الأسد: ما زلتُ للثور سليمَ الصدر، وقد دخل عليَّ لقتله همٌّ شديد. إني لنادِمٌ على ما كان منِّي، ومتوجَع، وما أشكل عليَّ الرأيُ أنه كان بريئا مما لُطِخ به، صحيح الاديم غيرُ متَّهم، ولكنه حملني على ما صنعت، تحميل الأشرار، وتمتمتهم، وبَغيهم، وزخرفتهم الكلام الكاذب، الذي لم يكن الثور له خليقا.
قالت أم الأسد: إن أشد ما شهد، امرؤٌ، بلا علم ولا يقين؟
قال الأسد: قد فهمنا ذلك، ولكن، أعلِميني، هل سمعتِ شيئًا، أو حدَّثكِ به أحد؟ فإن للألفاظ شبهات كثيرة؟
قالت أم الأسد: لولا ما قالت العلماء في إذاعة الأسرار، وما فيها من الإثم والشنار (عار)، لذكرت لك، ولأخبرتك بما علمت.
قال الأسد: إن أقوال العلماء، لها وجوهٌ كثيرةٌ، ومعانٍ مختلفةٌ. إني لأعلم صواب ما تقولين، إن كان عندك رأي، فلا تطويه عني، وإن كان قد أسر إليك أحدٌ سراً، فأخبريني به، وأطلعيني عليه، وعلى جملة الأمر.
قالت أم الأسد: إني لم أجهل قول العلماء، في تعظيم العقوبة وتشديدها، وما يدخل على الرجل من العار، في إذاعة الأسرار، ولكني أحببت أن أخبرك بما فيه المصلحة لك. حدَّثني الصادق الأمين، أنَّ دمنة لم يركب من الثور، ما ركب من تحميله إياك عليه، إلا لحَسَده إياه على منزلته منك، ومكانه عندك.
قال الأسد: ومن خبَّرك بذلك؟
قالت أم الأسد: قد استحفظني (ائتمني)، والمستكتَم مُؤتمن، ومن أفشى سرًّا استودعه، فقد خان أمانته، ومن فعل ذلك، كان بشرِّ المنازل في المعاد (الآخرة).
قال الأسد: لعمري لقد صدقتِ، وإن ذلك لعلى ما وصفت، ولكن، ليس هذا مما ينبغي أن يُكتَم، بل يحقُّ على صاحبه أن يُعلِنه، ويُظهِرَ شهادته عليه، ويستكملَ الأجر فيه، ولا يبطلَ حقًّا عليه، ثم لا سِيَّما في دم المظلوم، فإن الكاتم لجُرم المجرم، في ريع (عائِد) منه، مع شركه إياه فيه.
وإنَّ السلطان، لا ينبغي له أن يُعاقب على الظنِّ والشبهة، حتى يستضيئ. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا، الآية، فيتبينوا له الامر.
إنَّ الدم عظيم شأنه، وأنا وإن كنتُ أُوطئتُ عشوة (ركوب الأمر على غير تبصر وهدى) في الثور، فأنا أكره أنْ أركب من دمنة مثلها، من غير بيِّنة ولا يقين، وقد برى إليكِ من أخبرك بما ذكرتِ، وقذفه في عنقك.
قالت أمُّ الأسد: صدقتَ، ولكني كنتُ أظنُّ أنك تستكفي بما حدَّثتك، وتصدِّقني به، ولا تتهمني عليه.
قال الأسد: ما أنتِ عندي بمردودة القول، ولا أنتِ في نفسي بمتَّهمَة، ولا أنا في نصحك بمرتاب، ولكن، أُحبُّ أن تُعلِميني من هو، فيكون أسعى لصدري، وما عليكِ ألا تُخبريني من ذكر ذلك لك؟ فإنه لا مضرةَ فيه عليك؟
قالت أم الأسد: منقصة ذلك، سقوطي عند من استودعني سره، وانقطاع، ما بيني وبينه من المودة، لإباحتي بسرِّه، الثانية خيانتي ما استُحفِظت من الأمانة، الثالثة وَجل من كان يسترسل إليَّ قبل اليوم، وقطعُهم أسرارهم عني، ومتى أفعلْ ذلك لا يثِق بي أحد، ولا يطمئن إليَّ أحد.
فلمَّا سَمِعَ الأسدُ ذلك منها قال: الأمر على ما قلت.
قالت: لستُ أجهل قول العلماء، في تعظيم فضل العفو عن أهل الجرائم، وكان فيما يُقال: لا ينبغي للولاة، استبقاء الخونة الفُجَّار، أهلِ الغدر والنميمة، والتحيُّل والإفساد بين الناس.
وإن إفساد جُلّ الأشياء، من قِبَلِ خلَّتين: إذاعة السر، وائتمان أهل الفجور.
وإنَّ الذي أنشب العداوة بينك وبين الثور، أنصحِ الوزراء، وخيرِ الأعوان، حتى قتلته غدرًا، دمنةُ، بحيلته، وخِلابه، ومكره وخيانته.
فالراحة لك ولجندك قتلُه، عقوبةً لجريمته، وإبقاءً على جندك من شرِّه، فإنه ليس على مثلها بمأمون.
ولعلك أيُّها الملك، أن تركن إلى ما آثرتَهُ من العفو، عن أهل الجرائم، فإن روَّأت في ذلك، فاعلم، أنه ليس منهم، من يبلغ جُرمه، جرمَ دمنة.
فلما قضت أم الأسد هذا الكلام، نادى في جموعه، فاجتمعوا فأدخلوا عليه، ثم أمر أن يؤتى بدمنة.
ونكَّس الأسد رأسه مستحييًا، لما فعله ظلما من قتل الثور، فلما رأى دمنة ذلك منه، قال لبعض من وقف بين يدي الأسد، متجاهلًا: ما لي أرى الملك مكتئبًا مهمومًا؟ ما الذي حدث؟ وما الذي أحزن الملك؟ هل حدث أمر جمعكم له؟
فالتفتت أم الأسد إليه وقالت: إنما ترى ذلك من حال الأسد، لتركه إياك الى اليوم حيا، بعد صنعك به ما صنعت، من نميمتك، وخداعك، ومكرك، وحملك إياه بتمتمتك وفجورك، على قتل الثور. لقد أحزن الملك بقاؤك، ولو طرفة عين، ولن يدعك بعد اليوم حياً!
قال دمنة: وما الذي جنيت، مما يُستحلُّ به قتلي، ويكرُب الملك بقائي؟
قالت أم الأسد: أعظمُ الحدث حدثك، وأشدُّ الخيانة خيانتك، واستجهالك الملك، وقتلُك البريء من وزرائه.
قال دمنة: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وما اسمع الذي يقال إلا حقا، إن الذي يجهد نفسه في طلب الخير، الشر أسرع إليه. لا يكونن الملك وخاصته وجنوده المثل السوء، وقد قيل: من صحب الأشرار، وهو يعلم حالهم، كان أذاه من نفسه. لذلك، انقطعت النساك بأنفسها عن الخلق، واختارت الوحدة على المخالطة، وحب العمل لله، على حب الدنيا وأهلها. ومن يجزي بالخير خيراً، وبالإحسان إحساناً، إلا الله؟ وإن من طلب الجزاء على الخير من الناس، كان حقيقا أن يحظى بالحرمان، إذ يخطئ الصواب في خلوص العمل لغير الله تعالى، وطلب الجزاء من الناس.
إن أحق ما رغبت فيه رعية الملك، هو محاسن الأخلاق، ومواقع الصواب، وجميل السير، وما أحدٌ أحقُّ بالصفات الجميلة، من الملك الموفَّق، الذي لا يُصانع أحدًا، لحاجة به إليه، ولا لعاقبةٍ يتخوَّفُها منه، فإنَّ أحقَّ ما عظمت فيه رغبة الملوك من محاسن الصواب، المكافأة لأهل البلاء الحسن عندهم، ومن يرقى إليهم نصيحته، وهذا أقرب من أمري.
فإنه حملني النصح للملك، والإيثار له علي، أن أطلعته سرِّ الخائن الكفور، وما كان ربَض في نفسه، وارتفعت إليه همته، من الغدر بالملك، والوثوب عليه، وأعلمته ما رأى من العلامات والشامات، فاستبان ذلك له، ولم يأته إلا عن بصيرة، وإن هو أيضًا تحرَّى الأمر، وسأل عنه، ونظر فيه، عرف مصداق ما كنتُ قلتُ له، وإنَّ جُرم المرء، إذا فُحِص عنه وتبين، ازداد استنارة واستبانة.
ولقد علم الملك، ومَن حضر، أنَّه لم يكن بيني وبين الثور، أمرٌ أضطغنه عليه، ولا أبغيه به غائلة (شرٌّ)، وما كان يملك من ضرٍّ ولا نفعٍ لي، وإني لأعرف، أنه يتخوف مثلها منِّي غيرُ واحدٍ من أهل الغشِّ، والعُدوان، والعداوة للملك، فنصبوا لمصيبتي واجتمعوا على هلاكي.
أيها الملك، لستَ بحقيق بمعاجلة أحد بالعقوبة، عن قول الأشرار، دون الفحص والتثبُّت، وإني لواثقٌ عن فحصك، ببراءتي وتصديق مقالتي، ولو كنتُ مُجرمًا سرَّني تركُك التفتيش عنِّي، ولو كنتُ مذنبًا، لهربتُ في الأرض، وكان لي فيها مذهب، ونجوت، ولَمَا كُنت مُرابِطًا بباب الملك. ولكني، لثقتي، وبراءتي، ونصيحتي، لم أبرحه ولم أفارقه، وأنا أرغب إليه، إن كان في شك من ذلك، أن لا يأخذ في الحق لومة لائم، ولا يكون عنده محاباة لأحدٍ، ويرفعُ إليه عذري، وما يسمع من غيري، فينظرُ فيه، ولا يأخذ بأقاويل البُغاة الحَسَدة. فإن أخذ بالأقاويل، فلا ملجأ لي إلا الله، الذي يعلم السر، وخفى الضمير، وقالت العلماء، إنَّ الذي يعمل بالشبهة، ولا يتثبت فيها، صدق ما ينبغي أن يكذب، وكذب ما ينبغي أن يصدق. فينبغي ألا يعجل الملك في أمري بشبهة.
ولست أقول ما تسمع، شفقا من الموت، فإنه، وإن كان كريهاً، لا منجى منه، ولا محيص عنه، وكل حيٌ هالكٌ. ولو كانت لي مائة نفس، وأعلم أن هوى الملك في إتلافهن، لطبت له بذلك نفساً.
قال بعض جند الملك: إنك لم تنطق بهذا لحبِّ الملك، ولا لكرامته، ولكن نطقت به لخاصه بنفسك، والتماس العذر مما وقعت فيه.
قال دمنة: ويلك! وهل علي في التماس العذر لنفسي عيب؟ وهل أحدٌ أقرب إلى الإنسان من نفسه؟ فإذا لم يلتمس لها العذر، فلمن يلتمسه؟ قد ظهر منك ما لم تكن تملك كتمانه من الحسد والبغضاء، ولقد عرف من سمع قولك أنك لا تود لأحدٍ خيراً، وأنك عدو نفسك، فمن دونها، ومثلك لا يصلح أن يكون مع البهائم، فضلاً عن أن يكون مع الملك، وأن يكون ببابه.
فلما أجابه دمنة بذلك، خرج مستخفيا، مستحييا، منكسرا.
قالت أم الأسد لدمنة: إن أعجب العجب، إطلاق لسانك بالجواب، وقلة حيائك، وكثرة وقاحتك، وقد كان الذي كان منك.
قال دمنة: لأنك تنظرين إلي بعينٍ واحدة، وتسمعين مني بأذن واحدة، وكذلك سعى، لقد سعوا إلى الملك بالنميمة علي، فليس أحدٌ يتكلم إلا بالهوى، وقد صار من بباب الملك، لما بلوا من حلمه، ولين عركته، وصحفه وتجاوزه، لا يتقون فيما وافق الحقّ، لاستخفافهم به، وطول كرامته إياهم، ولا يدرون في أي وقت ينبغي لهم الكلام، ولا متى يجب عليهم السكوت.
قالت أمُّ الأسد: ألا تنظرون إلى هذا الغادر الفاجر، الذي ركب من الأمر العظيم ما ركب، وهو يريد أن يأخذ بأعين الناس، ليُبطله، ويبرئ نفسه منه!
قال دمنة: إنما صاحب ذاك، الذين يعملون غير أعمالهم، وليسوا على شيء، كالضيف الذي يقول أنا رب البيت، وكالذي ينطق بين الجماعة، بما لا يسأل عنه. وإنما الشقي، من لا يعرف الأمور، ولا أحوال الناس، ولا يقدر على دفع الشر عن نفسه، ولا يستطيع ذلك.
قالت أُمُّ الأسد: لو تعرف سوء عملك، فتقتصر عما أسمع من قولك؟
قال دمنة: إنَّ الذي يعمل على الشر، لا يحب للناس الخير، ولا دفع الشر عنهم.
قالت أم الأسد: أيها الفاجر، إنك لتجترئ على مثل هذا القول عند الملك! العجب كيف تترك حيًّا!
قال دمنة: إنَّ صاحب ما وصفتِ، الذي يؤتى بالنصيحة، ويمكَّن من عدوه، فإذا استمكن منه قتله، ثم لا يشكر ذلك، ولا يعرفه لمن فعله، ويُريد قتله بغير ذنب اجترمه.
قالت أم الأسد: الكاذب الذي يقول ما لم يكن، ولم يفعل، أيها الغادر الكذوب، أتظن أنك ناجٍ من عاقبة كذبك؟ وأن محالك هذا ينفعك مع عظم جرمك؟
قال دمنة: أنا فعلت الذي كان، وصدقت قولي بفعلي، وجئت عليه بالثَّبَت والحُجَّة، الملك يعلم أني لو كنت كاذبًا، لم أقُلْ هذه المقالة عنده، وإني أرجو أن يستبين له صدقي، وبراءتي، وصحة ما قلت.
فلمَّا رأت أم الأسد، أن الأسد لا ينطق بشيء، قالت: لعله مكذوب عليه.
فأمر الأسد عند ذلك، بالنظر بأمر دمنة، وأمر بحبسه، فألقي في عنقه حبلٌ، وانطلق به إلى السجن.
فقال الأسد: إني ناظر في أمره، وفاحص عنه، فإنه لبيب، داهية، عالم، فطن، وأنا متثبت فيه، غير عاجل عليه، ولا أشتري ضر نفسي بإتباع هوى غيري، مما لا أدري صدقه من كذبه.
فلمَّا ذهبت هدأةٌ (جزء) من الليل، بلغ كليلةَ أنَّ دمنة قد حُبِس، فانطلق إليه يهمس همسًا، فلمَّا رآه موثقًا، بكى بكاءً شديدا، وقال: لا أغلظ لك في القول، ولا أستقبلك بما تكره منه، وهل تذكر الذي كنت أشير به عليك، فلم تلتفت إليه، ولم تأخذ به، غير أن العجب دخل منك مدخلاً قهر رأيك، وغلب على عقلك، وذهب بقوتك وحلمك وفطنتك.
ما وصلت إلى ما وصلت إليه، إلا لاستعمالك الخديعة والمكر، وإضرابك عن العظة، ولقد كنتُ رأيتُ ذلك وأبلغتُ في الموعظة، وكنت أضرب لك الأمثال كثيراً، وأذكرك قول العلماء، وقد قالت: لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل موضعٍ مجالٌ، ولو كنت قصرت في عظتك حين كنت في عافية، لكنت اليوم شريكك في ذنبك.
فقال دمنة: إنك لم تَزَلْ تتكلم بالحقّ، وتأمر به، ولكن، لم أقبل منك، وغلبني ما كان فيَّ من الشَّرَهِ والشهوة، لما كنت عليه من البلاء والشقاوة، ولولا ذلك، كان فيما وعظتني به خلوص، وحمدت عاقبته، وقد قالت العلماء: إنَّ الذي لا يسمع من نُصَحائه يصير أمره إلى النَّدامة، وقد حلَّ ذلك بي، ودخل علي، ولكن ما عسيتُ أن أصنع؟ فإنَّ الحرص وطموح النفس، يغلبان رأي الحكيم، ونظر العالِم، كالمريض، الذي قد عرف أنَّ شهوته من الطعام، مُضِرَّة به، مُشدِّدة للوجع عليه، فلا يدع تناولَها والإصابةَ منها، فيزداد مرضا، فلعلَّه يموت منه.
ولستُ أحزَن اليوم على نفسي، ولكن أحزن عليك، لأني أخافُ أن تؤخذ فيَّ، بسبب الذي بيني وبينك من القرابة، فتعذَّب، فلا تجد بدًّا من إطلاعهم على أمري، فأُقتَل لتصديقهم إياك، ولا تنجو بعدي.
فقال كليلة: قد فكَّرتُ في ذلك كله، وقد يُضطرّ، الرجل إذا نزل به البلاء، إلى أن يقذف نفسه بما لم يفعل، ولم يعلم، رجاءَ الحياة والتخفيف عنه. وقد طال مقامي عندك، وأنا منطلق خيفة أن يدخل أحد فيراني عندك، أو يسمع تحاورنا مستمع، وأنا أُشير عليك أن تعترف بذنبك وتقر بجرمك، فإنك ميِّتٌ لا محالة، وإنك إن تُقتل في الدنيا بما كان منك، خيرٌ لك من العذاب الدائم، في الآخرة.
قال دمنة: قد عرفت صدق مقالتك، والعمل به شاقٌّ، ولكني، ناظر في الذي يصير إليه آخر أمري.
ثم إنَّ كليلة انصرف إلى منزله، فوقع في همٍّ وحزن، مخافةَ أن يؤخذ بذنب دمنة، فاسْتَطْلَقَ (استعجل) الأَمْر، فمات.
وكان بقربهما في السجن فهدٌ معتقلٌ، يسمع كلامهما، ولا يريانه، فعرف معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله، وما كان منه، وأن دمنة مقرٌ بسوء عمله، وعظيم ذنبه، فحفظ ذلك وكتمه.
ودخلت أم الأسد، حين أصبحت، على الأسد، فقالت له: يا سيد الوحوش، حوشيت أن تنسى ما قلت بالأمس، وأرضيت به رب العباد، فإنك أمرت به لوقته، وإنه لينبغي للمرء أن لا يتوانى في الجد للتقوى، وإني لا أعرف أمرًا أعظم أجرًا، من أن يدافع بذنب الأثيم، و إنَّ المُعين لذي الآثام شريك.
فلما سمع الأسد كلام أمه، أمَرَ النّمر، والقاضي، أن ناديا في الجند، صغيرهم وكبيرهم، أن يحضروا، وينظروا في حال دمنة، ويبحثوا في شأنه، ويفحصوا عن ذنبه، ويثبتوا قوله وعذره في كتب القضاء، ولا يَدَعا من ذلك شيئًا، إلَّا يرفع إليه.
فخرجا لذلك، وجمعا الجند، وبعثوا إلى دمنة، فلمَّا مضى من اليوم الذي جلسوا فيه ثلاث ساعات، أُتيَ به، وتوسَّط مَحفِلهم، فانتصب النمر، وجهر بصوته وقال: أيها الجمع، إن الملك، لم يزل منذ قتل الثور، مهموما كئيبا وجِلًا، أن يكون قد قتل الثور على غير ذنب، وأن يكون دمنة شَبَّه عليه في أمره، بكذبه ونميمته وبغيه، وأن يكون أرهقه فيه، وأَحَبَّ أن يستيقن ذلك، فأنتم أحقُّ ألَّا تكتموه سرًّا ولا تدَّخِروا عنه نُصحًا، ولا تُخفوا عليه حرفًا، فمن علم منكم شيئاً في أمر دمنة من خيرٍ أو شرٍ، فليقل ذلك، وليتكلم به على رؤوس الجمع والأشهاد، ليكون القضاء في أمره تحسب ذلك، فإنه لا يقتل، إلا بعد الفحص والتثبت واليقين، لا اللهو، ولا المجانة، والعجلة من الهوى، ومتابعة الأصحاب على الباطل ذل.
فقال القاضي: أيها الجمع، انظروا ما يتكلم به الأمين الصدوق، فاتَّبعوه، وقد سمعتم الذي قيل لكم، فلا يكتُمَنَّ أحدٌ منكم شيئًا عَلِمه، لثلاث: الصدق فيما استُشهِدتم به، ومن علم من أمر، فلا يصغر منه شيئا، فإن يسير الحق عظيم، والثانية، عقوبة المذنب بذنبه، وأنه إذا قتل الأشرار، ذوي الفجور، ونُفُوا من الأرض، في ذلك صلاح الملك، والرعية، والثالثة، ترك مراعاة أهل الذم والفجور، وقطع أسباب مواصلاتهم ومودتهم. فليقُلْ كل امرئ منكم ما يعلم، ولا يكتم حقا، ولا يثبت باطلا، كي يكونَ القضاء في ذلك على الحق، لا على الهوى والبغي.
فلما سمع ذلك الجند، نظر بعضهم إلى بعض، وأمسكوا عن القول، فإنهم لم يعلموا من أمره عِلمًا واضحًا يتكلمون به، وكرهوا القول بالظنون، تخوُّفًا أن يفصِل قولهم حُكمًا، ويوجبَ قتلًا.
فقال دمنة: ما لكم سكوت؟ تكلموا بما علمتم، واعلموا، أن لكل قول ثوابا، وقد قالت العلماء: من زعم أنه قد رأى ما لا يرى، وعلم ما لم يكن يعلم، أصابه ما أصاب الطبيب الجاهل المتكلف، الذي قال لما لا يعلمه: إني أعلمه.
قالت الجماعة: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا، أنه كان في بعض المدن، طبيب، عالمٌ، له رفق ودواء، فكبر ذلك الطبيب وضعف بصره.
وكان لملك تلك المدينة، ابنة كريمة عليه، قد زوجها لابن أخ له، فعرض لها ما يعرض للحوامل من الأوجاع.
فجيء بهذا الطبيب، فلما حضر، سألها عن وجعها وما تجد، فأخبرته، فعرف دائها ودواءها، وقال: لو كنت بصير، لجمعت الأخلاط على معرفتي بأجناسها، ولا أثق في ذلك بأحد غيري.
وكان في المدينة رجل جاهل سفيه، فبلغه الخبر، فأتاهم، وادعى علم الطب، وأعلمهم انه خبير بمعرفة أخلاط الأدوية والعقاقير، عارف بطبائع الأدوية المركبة والمفردة، فأمره الملك، أن يدخل خزانة الأدوية، ويأخذ من أخلاط الدواء حاجته.
فلما دخل السفيه الخزانة، وعرضت عليه الأدوية، ولا يدري ما هي، ولا له بها معرفة، أخذ في جملة ما أخذ منها، صرة، فيها سمّ قاتل لوقته، وخلطه في الأدوية، ولا علم له به، ولا معرفة عنده بجنسه.
فما إن تمت أخلاط الأدوية، سقى الأميرة منه، فتقطَّعت أمعاؤها، فماتت لوقتها. فلما عرف الملك بذلك، دعا بالسفيه، فسقاه من ذلك الدواء، فمات من ساعته.
وإنما ضربتُ لكم هذا المثل، كي لا تتكلموا بما لم تعلموا، تلتمسون به رضا غيركم، فيصيبَكم ما أصاب ذلك الطبيبَ الجاهل، فإنَّ العلماء قد قالوا: إنما جزاء كل أحدٍ بقوله وفعله، وأنا بريءٌ مما لُطِخت به، قائمٌ بين أيديكم، فاتقوا الله ما استطعتم.
فتكلم رئيس الجبارين، إدلالًا بمنزلته من الأسد وأمِّه، فقال: يا أيها الجند، اسمعوا مقالتي، وعوا بأحلامكم كلامي، إن العالم، لم يدع شيئا من آيات الأشياء والأخبار، وأنتم معشر ذوي الاقتدار، بحسن صنع الله لكم، وتمام نعمته لديكم، تعرفون الصالحين بسيماهم، وصورهم، وتخبرون بالشيء الصغير الشيء الكبير، وإنَّ علاماتِ الفجور في هذا الشقيِّ ظاهرةٌ، فاطلبوها على ظاهر جسمه وباطنه، وقد ظهر له مع ذلك، بنا سُوء.
قال عظيم الجند: قد علمت، وعلم الجماعة الحاضرون، أنك عارف بما في الصور، من علامات السوء، ففسر لنا ما تقول، وأطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي.
فقال رئيس الجبارين: إنا نجد، في كتب العلماء، أنَّ من كانت عينُه اليسرى صغيرة، كثيرة الاختلاج، وأنفه مائل إلى شقِه الأيمن، وما بين حاجبيه من الشعر متباعدًا، ومنابت شعره ثلاث شعرات ثلاث شعرات، وإذا مشى نكَّس رأسه ولا يزال مُلتفتًا ورائه، فإنه شقي خبيث جامع للخب (الخبث والخداع والغش) والفجور، وهذه العلامات كلُّها، في هذا الشقي ظاهرة.
قال دمنة: نحن كلنا تحت السماء، وأنتم ذوو حلم، وتقيسون الكلام بالعلم، وقد فهمتم ما قال هذا، فاستمعوا منِّي، فإنه لا يظن أنه أحد أعرفُ بالأمور منه، وأنه لا عِلم إلَّا عِلمُه، فإن كان ما ذكر من العلامات حقًّا، فلا يستطع أحد أن يعمل خيرًا ولا شرًّا إلَّا بها، وإنَّما تجازُون بذلك وتعاقِبون عليها، وليس لأمرئ من رأيه شيء، فليس بمُجتهد وإن حرَص على الخير، ولا مسيء وإن أذنب.
وقد شقيتُ أنا بالعلامات التي وجدت في جسدي، وليس إلا إن كانت، وأعوذ بالله أن تكون، ولو كان إلى الناس من ذلك شيئا، جعلوا فيهم أفضل ما يقدرون عليه من الآيات والشامات، ولم يكن مني غير العافية، ولم أركب غير الحقِّ، وقد استبان لمن حضر قلةُ عقلك، وقلةُ علمك بالأمور وبصرك بها، وقد قال رجل لامرأته: احفظي نفسك، ودعي الناس، وأصلحي عيوبك التي أنتِ بها أعرف، وذلك مَثَلُك.
فقال رئيس الجبارين: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: انطلق رجل، وامرأتان ذات يوم يحتطبون، فوجدت إحداهما خِرقة بالية، فقالت الأخرى: ألا تنظر إلى هذه؟ فقال لها: ويحك، ألا تنظرين أنت إلى نفسك؟ أو تعيبين؟
وأنت أيضًا، وشأنك من أعجب العجب، وما في جسدك من القروح، والنتن، وأنت تقوم بين يدي الملك، وتلي طعامه، وقد علم عيوبك غيري من الجند، ولم يكن يمنعني من الكلام إلا لكرامتي إياك، وكنتُ لك أخًا، وكنتُ أحفظك لذلك، فأمَّا إذ باديتني بالعداوة، ونطقت بالبهتان، فأنت لا ينبغي لك أن تكون للملك، إلا دباغا وحجاما، وما ينبغي لك أن تكون بالمنزلة التي أنت بها.
قال رئيس الجبارين: ما تقول؟ ألي تقول هذه المقالة، وتلقاني بهذا الملقى؟
قال دمنة: أقول ما تسمع، وحقاً قلت فيك، وإياك أعني، أيها الأعرج، المنفوخ البطن، السيءِ المنظر والمخبر.
فلما قال ذلك دمنة، تغير وجه رئيس الجبارين، وتلجلج (تَرَدَّدَ في كَلامِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ) لسانه، وخنقته العَبرة (الدمعة قبل أن تفيض)، فبكى لجُرأته عليه، وإغلاظه له، فقال دمنة: إنه ينبغي لك أن تبكي وتُرسل دموعك، فإنَّ الملك، لو قد اطَّلع عليك، وعلى أمرك، وعلم الذي أنت عليه، أقصاك وأبعدك.
فلمَّا سمع ذلك أمين الأسد، الذي كان أمره بحفظ ما يقولون، رفعه إلى الاسد، فعزل الاسد رئيس الجبارين عن عمله، وأمر بإخراجه وأقصي عنه. وكتب النمر والقاضي ما قال دمنة، وما قيل له، وختما عليه، وبعثا به إلى السجن.
ثم إن شغبر (ابن آوى)، كان بينه وبين كليلة إخاء ومودة، انطلق إلى دمنة فأخبره بموت كليلة، فبكى بكاءً شديدًا، وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة أخي وصَفِيِّي؟
لقد صدق القائلُ: إنَّ الإنسان إذا ما ابُتلي، أتاه الشرُّ من كل جانب، واكتنفه الهمِّ والحزن، وقد رأيت ما دخل عليَّ من موت مؤدِّبي، وشاهدي بما فيه رشدي، وقد أخلف الله لي منك أخًا، ليس بدونه، بل أرجو أن تكون أفضل عطفًا عليَّ، ونظرًا لي، وأن تهتَمَّ في أمري بما يعتني به أخو الحفظ، فإن رأيت أن تنطلق إلى منزل كليلة، فتأتيني بما كان لي وله فيه فافعل، فلما جاء به، أعطاه نصيب كليلة كله، وقال: أنت أحقُّ به من غيرك، وطلب إليه أن يَحضُره عند الأسد بخير، وأن يأتي فيُعلِمه، ما تذكرُ منه أمُّ الأسد منه ، فوعده ذلك، وقبل منه ما أعطاه.
ثم إن الأسد بكّر من الغد، فجلس حتى إذا مضى من النهار ساعتان، فاستأذن عليه أصحابه فأذن لهم، فدخلوا عليه، ووافق ذلك دخول الشغبر. فوضعوا الكتاب بين يديه، فنظر فيها، وأمر كاتبه بنَسخِها، ودفعها إلى النمر، وقال له وللقاضي: انطلِقا بدمنة، ثم ارفعا إليَّ ما يكون منه، وعُذرَه في ذلك.
فلمَّا خرجوا من عند الأسد، دعا أمه، فقرأ عليها تلك الكتب، فقالت: إن أنا أغلظت في القول، فلا تَلمني، فإني لا أراك تعرف ضرك من نفعك. إنك لمغرور بقول هذا الفاجر المحتال، فاسترح منه، فإنك إن استبقيته، أفسد عليك جُندك، وفرَّق جمعهم، وانصرفَتْ من عنده وهي غَضْبا.
ثم إنَّ الشغبر أتى دمنة، فأخبره بذلك، فبينما هم في حديثهم، إذ أتاهم رسولُ القاضي، فانطلق به إليه.
فلما مثل بين يدي القاضي، قال عظيم الجند: يا دمنة، قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق، وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا، لأن العلماء قالوا: إنَّ الله جعل لكل شيءٍ، من أمر الآخرة، علما، ومصداقًا في الدنيا، دلَّت عليه أنبياؤه ورسله، ولولا ما أمرنا به الملك، لرأفته ورحمته بالرعية، لكان القضاء بيِّنًا عليك.
قال دمنة: إنَّ منطقك ليس بذي وجه، ولا رأفة، ولا نظر في أمر مظلوم، ولا طلب للحق والعدل، ولكني أراك راكبًا لهواك، تريد قتلي، ولم يستضئ لك شيءٌ من أمري وما قُذِفتُ به، ولم أبلغ ثلاثة أيام بَعد، ولستَ بملومٍ بذلك عندي، لأنَّ الفاجر لا يُحِبُّ الصلاح وأهله، ولا من يعمل أعمال أهل التقوى.
قال القاضي: إن نجد في كتب الأولين، أن حقًّا على القاضي العادل، أن يُجازِي المرء بصلاحه، ويَعرِفه له ويكرمه عليه، لأنَّه أهل كل خير، وأن يُنكِّل بالمجرم عن إساءته، ويعذِّبه، ويُعاقبه عليها، ليزداد أهلُ الخير في الصلاح رغبة، وأهل الجرائم عن الإساءة نُزوعًا، ولَعَمْرِي، لَأَنْ تُعاقب في الدنيا، خيرٌ لك من أن تُعذَّب في الآخرة غدًا، فأقِرّ بذنبك، وبُؤْ بإساءتك، واعترِف بصنيعك، فإنه أفضل لك في عواقب الأمور، إن أنت هُدِيت إلى ذلك، ووُفِّقت له.
فقال دمنة: أيها القاضي الصالح، نطقت بالعدل، وقلت مقالة الحكماء، ولعمري، إنَّ من خسران المرء، بيع آخرته بدنيا منقطعة، وأن يشتري رَوْحًا يسيرًا، بعذابٍ طويل، وأنا بريء مما لطخت به، وأنا مظلوم، لم أنطق بكذب، ولم ألتبس به، ولا يعرف ذلك مني.
فمعاذ الله، أن أبوء بما لم أجتني، فأكون معينا على نفسي وشريكا لمن أراد قتلي، فإنك قد تعرف عقاب من فعل ذلك في الآخرة. كيف آمُر بقتل نفسي، وأُعِينُ عليها، وأنا مظلوم؟ بل أنطق بكذب لم أتفوه به، ولم يُعرف مني!
فإن أردتم قتلي، مظلومًا فكفى بالله ناصرًا، ولعل ذلك إن فعلتموه، ألَّا يكون شرّ أمر لي، عاجلًا وآجلًا، وأنا أقول اليوم مقالتي بالأمس: اذكروا حساب الآخرة وعقابها، لا غدا حين لا تنفع الندامة.
وإنَّ القضاة لا تقضي بظنونها، وأنا أعلم بنفسي منكم، وعلمي بنفسي يقين لا شك فيه، وعلمكم بي كل الشك، وإنما قبح أمري عندكم، أني سعيت بغيري، فما عذري عندكم إذا سعيت بنفسي، كاذبا عليها، فأسلمتها للقتل والعطب، على معرفة مني ببراءتي، وسلامي مما قرفت به؟ وإياكم، أن يُصيبكم ما أصابَ القائلَ بما لا يعلم، وما لم يُحِطْ به خبْرًا.
قال عظيم الجند: وكيف كان ذلك؟
٢ - مثل: الفارس، والمرأة، والعبد
قال دمنة: زعموا أنه كان فارس، وكانت له امرأة حسناء لبيبة، وكان له عبدٌ، قد هَوِيَها، وعَرَّض لها مِرارًا، وكل ذلك لا تلتفت إليه، فأضمر في نفسه فضيحتها.
فخرج ذات يوم إلى الصيد، فصاد فرْخَيْ ببَّغَاء، فهيَّأ لهما وكرا، وجعل يعلِّم أحدهما أن يقول: رأيتُ البوَّابَ مضاجعًا مولاتي، وعلَّم الآخر أن يقول: أمَّا أنا، فلستُ بقائلٍ شيئًا، فحفظ الطيران ذلك، بلسان، لم يكن أهلُ تلك البلاد يعرفونها. فخرج ذات يوم إلى الصيد، فصاد فرْخَيْ ببَّغَاء، فهيَّأ لهما وكرا، وجعل يعلِّم أحدهما أن يقول: رأيتُ البوَّابَ مضاجعًا مولاتي، وعلَّم الآخر أن يقول: أمَّا أنا، فلستُ بقائلٍ شيئًا، فحفظ الطيران ذلك، بلسان، لم يكن أهلُ تلك البلاد يعرفونها.
فلمَّا كان ذات يوم، إذ آتا مولاه بهما، فصاحا عنده، فأعجب الفارس، ولم يدر ماذا يقولان، وأمر امرأته بالاحتفاظ بهما، والإحسان إليهما، وألطف العبد وأحسن إليه.
ومكثا عنده زمانًا، ثم إنه قدم عليه أناسٌ، فصنع لهم طعامًا وشرابًا، فأصابوا من ذلك، ثم دعا بالطيرين، فصاحا بتلك الكلمتين، فلمَّا سمعوا صياحهما، نظر بعضهم إلى بعضٍ، ونكَّسوا رءوسهم حياءً منه، ثم قالوا له: هل تعلم ما يقولان؟
فقال: لا.
فقال بعضهم: لا تَحرد إن نحن أخبرناك بما يقولان، فإنَّ أحدهما يزعم، أنَّ البواب يَفجُر بامرأتك، وأمَّا الآخر فيقول: أمَّا أنا فلست بقائل شيئًا، وإن من سنتنا، ألَّا نُصيب في بيت امرأة فاجرة، طعامًا.
فنادى العبد من خارج: أنا أشهد على مقالتهما أنها حق، وأنِّي قد رأيتُ ذلك غير مرة.
فأمر الفارس بقتل امرأته، فأرسَلَت إليه، افحص عمَّا ذُكِر لك، فسيبدو لك مَنِ الفاجر الكذَّاب؟ ومُرْ هؤلاء، فليسألوهما، ولينظروا، هل يعلمان غير هاتين الكلمتين؟ فإن هذا من عمل العبد، لأنَّه راودني عن نفسي، فامتنعت منه، ففعل ذلك.
فكلَّمُوهُما، فإذا هما لا يُحسِنان غيرهما، فعرفوا أنَّ ذلك من تعليم العبد، فأرسل إليه، فأتاه وعلى يده بازٍ، فقالت له المرأة: ويلك! أنت رأيتني على ما قذفتني به؟
قال: نعم!
فقالت: اللهم إن كان كذب علي، فعجل عقوبته. فوثب البازي عليه، فنزع عينيه بمخالبه. فقالت المرأة: لقد عجَّل الله لك النكال بكذبك، فإنك زعمت أنك عاينت ما لم ترى، وشهدتَ عليَّ بزورٍ وباطلٍ.
وإنما ضربتُ لك هذا المثل، لتعلم، أنَّ من عمل بمثلِ ما عمل به العبد، من الافتراء والبهتان، كان جزاؤه العقوبةَ، في العاجل، والآجل.
فلما سمع القاضي ذلك من لفظ دمنة، نهض، فرفعه إلى الأسد على وجهه، فنظر فيه الأسد، ثم دعا بأمه، فعرضه عليها.
فقالت حين تدبرت كلام دمنة: لقد صار اهتمامي، بما أتخوف من احتيال دمنة بمكره ودهائه، حتى يقتلك، أو يفسد عليك أمرك، أعظم من اهتمامي، بما سلف من ذنبه إليك في الغش، والسعاية، حتى قتلت صديقك بغير ذنب.
فقال لها: أخبريني عن الذي أخبرك عن دمنة، بما أخبرك، فيكون لي حجة، في قتل دمنة.
فقالت: إني لأكره أن أفشي سر استكتمنيه، ولكني أطالب الذي استودعنيه، أن يجعلني في حل من ذكره لك، ويقوم هو بعلمه، وما سمع منه.
ثم انصرفت، وأرسلت إلى النمر، وذكرت له ما يحق عليه من حسن معاونته الأسد، على الحق، وإخراج نفسه من الشهادة، التي لا يكتمها مثله، مع ما يحق عليه من نصر المظلومين، وتثبيت حجة الحق، في الحياة والممات: فإنه قد قالت العلماء: من كتم حجة ميت، أخطأ حجته يوم القيامة. فلم تزل به حتى قام فدخل على الأسد، فشهد عنده بما سمع من إقرار دمنة.
فلما شهد النمر بذلك، أرسل الفهد المحبوس، الذي سمع إقرار دمنة، وحفظه، إلى الأسد، فقال: إن عندي شهادة. فأخرجوه، فشهد على دمنة بما سمع من إقراره. فقال لهما الأسد: ما منعكما أن تقوما بشهادتكما، وقد علمتما أمرنا، واهتمامنا بالفحص عن أمر دمنة؟
فقال كل واحد منهما: قد علمنا أن شهادة الواحد، لا توجب حكماً، فكرهنا التعرض لغير ما يمضي به الحكم، حتى إذا شهد أحدنا، قام الآخر بشهادته.
فقبل الأسد قولهما، وأمر بدمنة أن يقتل في حبسه، فقتل أشنع قتلة.
ثم قال الفيلسوف للملك: فلينظر أهل التفكر في هذا، وأشباهه، وليعلموا، أنه مَن التمس منفعة نفسه، بشيء، يريد له هلاك غيره ظلما، فإنه غيرُ ناجٍ من وَبالِ ذلك عليه، وعاقبته ومغبَّته، وأنه مُكافأٌ به، ومَجزِيٌّ بما عمل، عاجلًا وآجلًا، وصائرٌ إلى البوار على كل حال.