قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، فأخبرني عن من يدع ضرَّ غيره، بضر يُصيبه، ويكون له فيما نزل به، واعظ زاجر، عن ارتكاب الظلم والعدوان.
قال الفيلسوف: إنه لا يُقدِم على طلب ما يضرُّ الناس، ويسوئهم، إلَّا أهلُ الجهالة والسفه، وسوء النظر في عواقب الأمور في الدنيا والآخرة، وقلة العلم بما يدخل عليهم في ذلك من حلول النقمة، ويلزمهم من تبعة ما اكتسبوا، ورُبَّما اتعظ الجاهل واعتبر، بما يُصيبه من المكروه من غيره، فارتدع عن أن يبتلي أحدًا بمثل ذلك من الظلم والعدوان، ورجا نفع ما كفَّ عنه في الآخرة، ونظير ذلك، حديث الفارس واللبوة وابن آوى.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
١ - مثل: الفارس، واللبوة، وابن آوى
قال الفيلسوف: زعموا أن لَبُؤة كانت في غيضة، ولها شبلان، وأنها خرجت ذات يومٍ في طلب الصيد، وخلفتهما في كهفها، فمرّ بهما فارس، فحمل عليهما، ورماهما فقتلهما، وسلخ جلودهما، وانصرف إلى منزله.
ثمَّ إنَّ اللبؤة رجعت، فلما رأت ما حلّ بشِبليْها من الأمر الفظيع، اضطربت وضجّت وصرخت.
وكان إلى جانبها ابن آوى، جارٌ لها، فلما سمع بكاءها، وصُراخها، وجزعها، خرج إليها فقال: ما هذا الذي أراه بك؟ وما جرى عليك؟ أخبريني به لأشاركك فيه.
قالت اللبؤة: شبلاي! مرّ بهما فارس فقتلهما، وسلخ جلودهما، ونبذهما بالعراء.
قال ابن آوى: لا تحزني ولا تصرخي، وأنصفي من نفسك، واعلمي أن هذا الفارس لم يأت إليك شيئاً، إلا وقد كنت تفعلين بغيرك مثله، ولم تجدي من الأسف والحزن على شبليك شيئا، إلَّا وقد كان من كنت تفعلين بأحبابه، ما تفعلينَ، يجد مثلَه أو أفضل منه، فاصبري على فعل غيرك كما صبر غيرك على فعلك، فإنه قد قيل: كما تدين تدان، ولكل عمل ثمرة من الثواب والعقاب، وهما على قدره في الكثرة والقلة، كالزَّارع، إذا حصد الحصاد، أُعطِيَ على قدر بذره.
قالت اللبؤة: بين لي ما تقول، وأوضحه.
قال ابن آوى: كم أتى لك من العمر؟
قالت اللبؤة: مائة سنة.
قال ابن آوى: ما الذي كان يقوتك ويُعيشك؟
قالت اللبؤة: لحوم الوحوش.
قال ابن آوى: من كان يطعمك إياها؟
قالت اللبؤة: نفسي، كنت أصيد الوحش وآكله.
قال ابن آوى: أرأيت الوحش التي كنت تأكلين، أما كان لها آباء وأمهات؟
قالت اللبؤة: بلى.
قال ابن آوى: فما بالي لا أرى ولا أسمع لتلك الآباء والأمهات، من الجزع والضجيج، ما أرى وأسمع منك؟ أما إنه لم يصبك ذلك، إلَّا لسوء نظرك في العواقب، وقلَّة تفكُّرك فيها، وجهالتك بما يرجع عليك من ضُرِّها!
فلما سمعت اللبؤة ذلك من كلام ابن آوى، عرفت أن ذلك مما جنت على نفسها، وأن عملها كان جوراً وظلماً، وأنه مَن عمل بغير الحقِّ والعدل، انتُقِم منه، وأُديل عليه، فتركت الصيد، وانصرفت عن أكل اللحم إلى الثمار، وأخذت في الزهد والنسك والعبادة.
ثم إنَّ طائرا كان عيشه على الثمار، فرأى كثرة أكل اللبؤة إياها، فقال: لقد ظننتُ لقلَّة الثمار، أنَّ الشجر لم يحمل إلا نزْرا (قليلا) العام، ولمَّا رأيت أكلك لها وأنت آكلة اللحم، ورفضَك رزقَك وما قسم الله لك، وتحوُّلك إلى رزق غيرك، فانتقصته، ودخلت عليه فيه، علمتُ أنَّ الشجر قد أثمر كما كان يُثمر فيما خلا، وإنما أتت قلة الثمر من قِبَلك، فويل للشجر، وويل للثمار، وويل لمن كان عيشه منها! فما أسرع هلاكهم ودمارهم، إذ قد نازعهم في ذلك مَن لا حقَّ له فيه، ولا نصيب!
فلما سمعت اللبؤة ذلك من كلام الطائر، تركت أكل الثمار، وأقبلت على أكل العشب والعبادة.
وإنما ضربت لك هذا المثل، لتعلم أن الجاهل، رُبما انصرف لمكروهٍ يحلُّ به، عن ضرِّ الناس، كاللبؤة التي تركت بما لقيت من شبليها، أكلَ لحوم الوحش، ولقول الطائر، أكل الثمار، وأقبلت على النسك والعبادة.
ثم قال الفيلسوف: فالناسُ أحقُّ بحسن النظر، في الأمر الذي لهم الحظُّ فيه، فإنه قد قيل: ما لا ترضاه، لنفسك لا ترضه لغيرِك، وما لا تحبُّ أن يُصنع بك، فلا تصنعه بغيرك، فإنَّ في ذلك العدل، وفي العدل رضا الله تعالى.