قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، فاضرب لي مثل الرجل، إذا كثر أعداؤه، وأحدقوا به من كل جانب، فأشرف على الهَلَكة، فالتمس المخرج بموالاة بعض العدوّ، ومصالحته، فسلِم ممِّا يتخوَّف، ووفى لمن صالح منهم، وأخبرني عن موضع الصلح، كيف يكون.
قال الفيلسوف: إن المودة، والعداوة، والبغضاء، لا تثبت على حالة واحدة، وليس كلها تدوم، وكثير من المودة تتحول بغضا، وكثير من البغض يتحول مودة، عن حوادث العلل والأمور، وذُو الرأي والعقل، يُهيئ لكل ما حدث من ذلك رأيا، من الطمع فيما يحدث من ذلك، قِبَل العدوّ، واليأس مما عند الصديق.
ولا تمنع ذا العقل، عداوة كانت في نفسه لعدوه، من مقاربته، والاستنجاد به على دفع مخوف أو جر مرغوب، فذو الرأي، يتحرك لكل ما يطرأ عليه من ذلك عملا، ومن أبصر الرأي في ذلك ظفِر بحاجته، ومن أمثال ذلك، مثل الجرذ والسنور، اللذين اصطلحا حين كان ذلك الرأي لهما صوابا، وكان في صلحهما صلاحهما ونجاتهما من الورطة الشديدة.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض شجرة عظيمة، كان في أصلها جحر لسنّور، وكان قريباً منه جحر لجرذ.
وكان الصيادون يتداولون ذلك المكان، يصيدون فيه الوحش والطير، فمرّ ذات يوم صياد، فنصب حباله قريباً من موضع السنور، فلم يلبث أن وقع السنور فيها.
وخرج الجرذ يبتغي ما يأكل، وهو مع ذلك حَذِر، يلتفت وينظر، فلمَّا بصر بالسنَّوْر في الشرك، سرّ واستبشر، ثم التفت خلفه، فإذا هو بابن عرس قد تبعه، فكمن له، فنظر فوقه، فإذا هو ببومه على شجرةٍ ترصُده، فتحيّر في أمره، وخاف إن انصرف راجعا، أن يثب عليه ابن عرس، وإن ذهب يميناً أو شمالاً اختطفه البوم، وإن هو تقدم، افترسه السنور.
فقال الجرذ في نفسه: هذا بلاء قد اكتنفني، فلا يكونن من شأني الدهش (تحيَّر وذهب عقلُه، من وَلَهٍ، أو فَزَع، أو حياءٍ)، ولا مَفْزع لي، إلَّا إلى عقلي وحيلتي، فإنَّ العاقل لا يتفرَّق عليه رأيه، ولا يعزُب عنه عقله على حال، وإنما عقول ذوي الرأي، كالبحر الذي لا يُدرَك غَورُه، ولا يبلغ البلاء من ذي الرأي مجهود عقله فيُهلِكه، ولا الرخاء ينبغي له أن يبلغ منه مبلغا، يُبطره، ويُسكِره، ويُعمي عليه أمره.
فلا يذهب قلبي شعاعاً (طَارَتْ نَفْسُهُ خَوْفاً وَفَزَعاً، وخَفَّتْ هِمَّتُهُ)، ولا أرى حيلةً أمثَلَ من التماس صلح السنَّوْر، فإنَّ السنَّوْر قد نزل به بلاء، مثل ما قد نزل بي أو بعضه، ولعل إن سمع كلامي الذي أكلّمه به، ووعى عنّي فَصِيحَ خطابي، ومحض صدقي الذي لا خلاف فيه، ولا خداع معه ، أن يفهم عنِّي، ويطمع في معرفتي، ويسلَس بذلك لصلحي، ولعلَّه يكون له ولي في ذلك نجاة.
ثم إن الجرذ دنا من السنّور، فقال له: كيف حالك؟
قال السنور: كالذي تهوى، في الضنك والضيق.
قال الجرذ: لا تكذيب لك، لعمري قد كان يسرُّني ما ساءك، وأرى ما ضيق عليك لي سعة، ولكن أنا اليوم شريكك في البلاء، ولا يسرني ضيق مكانك ولا موتك، فلا أرجو لنفسي خلاصا إلَّا بالأمر الذي أرجو لك به الخلاص، فذلك الذي عطفني عليك.
وكلامي هذا، ليس فيه كذب ولا خديعة، فإنه قد ترى مكان ابن عرس كامنا لي، والبومة تُريد اختطافي، وكلاهما لي ولك عدوّ، وهما يخافانك ويهابانك، وانا ضعيف لا أطيق دفعهما.
فإن أنت جعلت لي أن تُؤمِّنني، إن أنا دنوت منك، فأنجو بذلك منهما، فإني مُخلِّصك مما أنت فيه، فاطمئِنّ إلى ما ذكرت، وثق به منِّي، فإني كما أحببت بحياتي حياتك، فكذلك أنت حقيق، أن تحب بحياتك حياتي، وخلاص نفسي.
وإنه ليس أحدٌ أبعد من الخير، من اثنين، منزلتُهما واحدة، وصفتُهما مختلفة، أحدهما من لا يثق بأحد، والآخر من لا يثق به أحد، ولك عندي الوفاء بما جعلتُ لك من نفسي، فاقبَل منِّي واسترسِل إليّ، وعجِّل ذلك ولا تؤخِّر، فإنَّ العاقل لا يؤخِّر عمله، وكما ان نجاة الناس من البحر بالسفن، وبهم تنجوا السفن، فكذلك نصير بالتعاون، الى الخلاص جميعا من هذه البلية.
فلمَّا سمع السنَّوْر مقالة الجرذ، سُرَّ بها، وعلم أنه صادق، فقال: إن قولك هذا، لشبيه بالحق والصدق، فأنا راغبٌ في هذا الصلح، الذي أرجو لنفسي، ولك فيه الخلاص، ثم أشكر لك ذلك ما بقيت، وأحرص على جزائك ومكافئتك.
قال الجرذ: دعني أدنو منك، فإذا دنوت، فليَرَ ابن عِرس والبومة، ما يعرفان به صلحنا، فينصرفان آيسينِ (يائس منقطع الرجاء)، فإذا امنت منهما قطعت وثاقك.
ففعل ذلك به السنور، وأخذه فالتزمه، فلمَّا رأت البومة وابن عِرس ذلك انصرفا خائبين، واخذ الجرذ في قطع الشرك، فجعل يقطعه سلكا سلكا.
واستبطأه السنَّوْر فقال: ما منعك أن تجتهد في قطع الشرك، والفراغ له، لعل الذي يمنعك من ذلك، أنك قد صرت إلى حاجتك من الامن، فإن قد كنت ظفرت بحاجتك، فتبدَّلت عما كنت عليه، وتوانيت في حاجتي، فما ذلك من فعل الصالحين.
وإن كريم الخلق، لا يتوانى في حاجة صاحبه، إذا استمكن من حاجة نفسه، وقد كان لك في مودَّتي، من عاجل المنفعة والاستنقاذ من الهلكة ما قد رأيت، وأنت حقيق أن تكافئني بذلك، ولا تذكر العداوة التي بيني وبينك.
فالذي حدث بيني وبينك من الصلح، حقيق أن ينسيك ذلك، مع ما في الوفاء من الفضل، والأجر، وما في الغدر من سوء العاقبة، فإن الكريم لا يكون إلا شكوراً غير حقود، تنسيه الخلة الوحدة من الإحسان الخلال الكثيرة من الإساءة، وقد يقال: إن أعجل العقوبة عقوبة الغدر واليمين الكاذبة، ومَن إذا تُضُرِّع إليه، وسُئل العفو، لم يعفُ ولم يصفَح.
قال الجرذ: الأصدقاء صديقان، صفي ومضطرّ، كلاهما يلتمسان المنفعة، ويحترسان من المضرة.
فأمَّا الصفيّ منهما، فيُستَرسل إليه، ويوثَق به على كل حال، وأمَّا المضطر، فإنَّ له حالات يُستِرسل إليه فيها، وحالات يُتَّقى فيها، فلا يزال العاقل يَرتهن منه بعض حاجته، ببعض ما يتقَى وما يخاف.
وليس عامَّة التواصل والتحاب بين الناس, إلَّا التماس عاجلِ النفع، وأنا واف لك بما جعلت على نفسي، ومحترس من أن يصيبني منك مثل الذي ألجأني إلى صلحك، فإنَّ لكل عملٍ حينا، وإن لم يكن في حينه فلا عاقبةَ له.
وأنا قاطعٌ حبائلك لوقتها، غيرَ أنِّي تارك عُقدةً واحدةً أرتهنك بها، فلا أقطعها إلَّا في الساعة التي أعرف أنك عنِّي فيها في شغل، وذلك عند معاينتي الصياد.
ففعل ذلك، وباتا يتحادثان، حتى إذا أصبحا، إذا هما بالصيَّاد قد أقبل من بعيد.
قال الجرذ: الآن جاء موضع الجدّ، في قطع بقية حبالك.
فأجهد الجرذ نفسه في القرض، ولم يدنُ منهما الصياد حتى فرغ الجرذ، على سُوءِ ظنٍّ من السنَّوْر ودَهَش، حتى إذا فرغ، وثب السنور إلى الشجرة، ودخل الجرذ بعض الأحجار، فأخذ الصيَّاد حبائله مقطَّعة، وانصرف خائبًا.
وخرج الجرذ بعد ذلك من جُحره، فرأى السنَّوْر من بعيد، فكره أن يدنو منه، فناداه السنَّوْر: أيها الصديق الناصح، ذو البلاء الحسن، ما منعك من الدنوِّ منِّي، لأجزيك بأحسن ما أبليتني؟
هلمَّ إليَّ ولا تقطع إخائي، فإنه من اتخذ صديقاً، ثم أضاع ودَّ إخائه حُرِم ثمرة الإخاء، وأضاع صداقته، وأيس من منفعة الإخوان.
وإنَّ يدك عندي اليد التي لا تُنسى، وأنت حقيقٌ أن تلتمس مكافأة ذلك مني، ومن إخواني وأصدقائي، فلا تخافنّ مني شيئاً، واعلم أن ما قِبلي لك مبذولٌ.
ثم حلف السنَّوْر، واجتهد على صدقه فيما قال.
قال الجرذ: رُبَّ عداوةٍ باطنة، ظاهرُها صداقة، هي أشدُّ ضرًّا من عداوة ظاهرة، ومَن لم يحترس منها، وقع موقع مَن يركب ناب الفيل المغتلِم، ثم يغلبه النعاس، فيستيقظ تحت فراسن الفيل، فيدوسه، فيقتله.
وإنما سمي الصديق صديقاً، لما يرجى من نفعه، وسمي العدو عدواً، لما يخاف من ضرره. والعاقل، إذا رجا نفع العدو، أظهر له الصداقة، وإذا خاف ضرّ الصديق، أظهر له العداوة.
أوَلَا ترى أولاد البهائم، تتّبع أمهاتها رجاء ألبانها، فإذا انقطع ذلك، واستغنت عن الرضاعة، انصرفت عنها. وكما أنَّ السحاب يلتئم ساعة، ويتقطَّع أخرى، ويَهمي ساعة ويُمسِك أخرى، كذلك العاقل يتلوَّن مع متلوِّنات الأمور، عن اختلاف أحوال الأصحاب، فينبسط مرة وينقبض أخرى، ويسترسل مرة ويحترس أخرى.
وربما قطع الصديق عن صديقه، بعض ما كان يصله بفضله، فلم يخف شرّه، لأن أصل أمره لم يكن عداوة، فأما من كان أصل أمره عداوة، وتحدث صداقته لحاجةٍ حملته على ذلك، فإنه إذا ذهب الأمر الذي أحدث ذلك، صار إلى أصل أمره، كالماء الذي يسخن بالنار، فإذا رُفِع عنها عاد باردا، فلا عدوَّ أضرُّ لي منك.
وقد كان اضطرني وإياك، أمرٌ أخرجنا إلى ما صرنا إليه من المصالحة، وقد ذهب الأمر الذي احتجتَ إليَّ واحتجتُ إليك فيه، وأخافُ أن يكون مع ذهابه، عَود العداوة بيني وبينك، ولا خير للضعيف في قرب العدو القوي، ولا للذليل في قرب العدو العزيز.
ولا أعلم لك فيَّ حاجة، إلَّا أن تريد أكلي، ولا أرى الثقة بك، فإنِّي قد علمت أنَّ الضعيف، هو أقرب إلى أن يَسلم من العدوِّ القويّ، إذا هو احترس منه، ولم يغترر به، من القويّ إذا اغتر بالضعيف، واسترسل إليه.
والعاقل يصانع عدوَّه، إذا اضطُرَّ إليه، فيظهرُ له ودَّه، ويريه من نفسه الاسترسال إليه، إذا لم يجد من ذلك بدّا، ويعجِّل الانصراف عنه، إذا وجد إلى ذلك سبيلا.
والعاقل يفي لمن صالحه من أعدائه، بما جعل له من نفسه، ولا يثق به كل الثقة، ولا يأمنه على نفسه مع القرب منه، وينبغي أن يبعد عنه ما استطاع.
وأنا أودك من بعيد، وأحب لك من البقاء والسلامة، ما لم أكن أحبه لك من قبل، ولا عليك أن تجازيني على صنيعي إلا بمثل ذلك، إذ لا سبيل إلى اجتماعنا، والسلام.