قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت، فاضرب لي مثلاً، في شأن الذي يضع المعروف في غير موضعه، ويرجو الشكر عليه، وأخبرني عن الملك، إلى من ينبغي أن يصنع المعروف، ومن يحق له أن يثق به؟
قال الفيلسوف: أيها الملك، إن طبائع الخلق مختلفة، ومن الناس البر والفاجر، وقد يكون في بعض البهائم، والسباع، والطير، ما هو أوفى منه ذمة، وأشد محاماة على حرمه، وأشكر للمعروف، وأقوم به.
وإنَّ الملوك وغيرهم، جُدُر أن يأتوا الخير إلى أهله، وأن يُؤَملوا من كان عنده شكر، ولا ينظروا إلى أقاربهم وأهل خاصَّتهم، ولا إلى أشراف الناس، وأغنيائهم، وذوي القوَّة منهم، ولا يمتنعوا أن يصنعوا المعروف، إلى أهلِ الضعف، والجَهد، والفاقة، فإنَّ الرأي في ذلك، أن يجرِّبوا ويختبروا، صغار الناس وعظماءهم، في شكرهم وحفظهم الودّ، وفي غدرهم وقلَّة شكرهم، ثم يكون عملهم في ذلك، على قدرِ الذي يبدو لهم.
وإنَّ الطبيب الرفيق، لا يداوي المرضى بالمعاينة لهم فقط، ولكنه ينظر إلى البول، ويَجسُّ العروق، ثم يكون العلاج على المعرفة وقدرها، وكذلك العاقل، لا ينبغي له أن يصطفي أحداً، ولا يستخلصه إلا بعد الخبرة.
ومع ذلك، ربما صنع الإنسان المعروف مع الضعيف، الذي لم يجرب شكره، ولم يعرف حاله في طبائعه، فيكافئ أحسن المكافأة، وربما حذر العاقل الناس، ولم يأمن على نفسه أحداً منهم، وقد قيل: لا ينبغي لذي العقل، أن يحتقر صغيراً ولا كبيراً، من الناس والبهائم، ولكنه جدير بأن يبلوهم، ويكون ما يصنع إليهم على، قدر ما يرى منهم، وقد مضى في ذلك، مثل ضربه بعض الحكماء.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أنَّ أناسا، انطلقوا إلى مغار، فحفروا فيه زُبْية (الحُفْرَةُ يُغَطَّى رَأْسُها، لِصَيْدِ الأَسَدِ) للسباع، فوقع فيها رجل صائغ، وبَبْر(نَوْعٌ مِنَ السِّبَاعِ الْمُفْتَرِسَةِ، يشبه النمر)، وحيَّة وقرد، فلم يؤذوا ذلك الرجل، ولم يجدوا لهم مخلِّصًا، فمرَّ بهم رجلٌ سائح، فاطَّلع فيها، فلمَّا رآهم فكَّر في نفسه وقال: ما أراني مقدِّما لآخرتي، شيئا أفضلَ من أن أخَلِّص هذا الرجل، من بين هؤلاء الأعداء.
فأخذ حبلا، فدلَّاه، فتعلق به القرد لخفته، فخرج، ثم دلاه الثانية، فالتفت به الحية، فخرجت، ثم دلاه الثالثة، فتشبَّث به الببر، فأخرجه.
فشكرن له صنيعه، وقلن له: لا تخرج هذا الرجل، فإنه ليس في الأرض، أقلُّ شكرا من الإنسان، ولا سيما هذا الرجلُ خاصةً. وقال القرد: إن وطني في جبل قريب، من مدينة كذا وكذا، فقال الببر: وأنا أيضاً في أجمة إلى جانب تلك المدينة، فقالت الحية: أنا أيضاً في سور تلك المدينة، فقالوا: إن أنت أتيتها يوما من الدهر، فاحتجت إلينا، فنادِنا حتى نخرج إليك، ونُجازيك بما أوليتنا من معروف.
فلم يلتفت السائح إلى ما ذكروا من قلة شكر الإنسان، وأدلى الحبل، فأخرج الصائغ، فأثنى عليه وقال له: إنك قد أوليتني معروفًا جسيمًا، وأنا حقيقٌ بشكره وحفظه، فإن أتيت يوماً من الدهر لمدينة كذا كذا، فاسأل عن منزلي، فأنا رجل صائغ، لعلي أكافئك بما صنعت إلي من معروف.
ومضى كلُّ واحدٍ منهما لوجهه، ومكث السيَّاح حينا، ثم عرضت له حاجة نحو تلك المدينة، فانطلق إليها، فاستقبله القرد، فقال: إني لا أملك شيئا، ولكن اقعد حتى آتيك ما تصيب منه. وانطلق القرد، ولم يلبث أن جاءه بفاكهةٍ طيِّبة، فوضعها بين يديه، فأكل السائح منها حاجته.
ثم إن السائح، انطلق حتى دنا من باب المدينة، فاستقبله الببر، وقال: قد أوليتني جميلًا، فلا تبرح حتى أرجع إليك، وذهب إلى ابنة الملك، فقتلها وأخذ حليها، وأتاه به، فدفعه إليه من غير أن يُعلمه من أين هو، فقال السائح في نفسه: هذه البهائم قد أولتني هذا الجزاء، فكيف لو قد انتهيت إلى الصائغ، فإنه إن كان معسراً، لا يملك شيئاً، فسيبيع هذا الحلي فيستوفي ثمنه، فيعطيني بعضه، ويأخذ بعضه، وهو أعرف بثمنه.
ثم إنَّ السائح دخل المدينة، فأتى منزل الصائغ، فلما رآه، رحب به، وأدخله منزله. فلما بصر بالحلي، عرفه، وكان هو الذي صاغه لابنة الملك، فقال للسائح: اطمئن حتى آتيك بطعام، فلست أرضى لك ما في البيت، ثم خرج وهو يقول: قد أصبت فرصتي، أريد أن أنطلق إلى الملك، وأدله على ذلك، فتحسن منزلتي عنده.
فانطلق الصائغ إلى باب الملك، فقال: إنَّ الرجل الذي قتل ابنتك، وأخذ حليها، قد أخذتُه، وهو محبوسٌ عندي، فلا تطالبنَّ به أحدا، فإني قد ظفرت به ومعه الحلي.
فأرسل الملك بأصحابه، وأتى بالسائح، فلمَّا رأى الحلي معه، أمر به أن يعذَّب، وأن يُطاف به في المدينة ثم يُصلب.
فلمَّا فُعل به ذلك، وطِيفَ به المدينة، جعل السائح يبكي ويقول بأعلى صوته: لو أني أطعت القرد والحية والببر فيما أمرنني به، وأخبرنني من قلة شكر الإنسان، لم يصر أمري إلى هذا البلاء، وجعل يكرر هذا القول.
فسمعت بذلك الحية، فخرجت من جُحرِها، فلمَّا بصُرت به اشتدَّ عليها أمره، وفكَّرت في الاحتيال لخلاصه، فانطلقت إلى ابن الملك، فلدغته على رجله، فدعى الملك أهل العلم، فرقوه ليشفوه فلم يغنوا عنه شيئاً.
ثم مضت الحية إلى أخت لها من الجن، فأخبرتها بما صنع السائح إليها من المعروف، وما وقع فيه، فرقت له، وانطلقت إلى ابن الملك، وتخايلت له، وقالت: إنك لا تبرأ حتى يرقيك هذا الرجل، الذي قد عاقبتموه ظلماً.
وانطلقت الحية إلى السائح، فدخلت عليه السجن، وقالت: هذا الذي كنت نهيتك عنه من اصطناع المعروف إلى هذا الإنسان، ولم تطعني. وأتته بورق ينفع من سمِّها، وقالت: إذا جاءوا بك لترقي ابن الملك، فاسقه من ماء هذا الورق، فإنه يبرأ، وإذا سألك الملك عن حالك فاصدقه، فإنك تنجوا إن شاء الله تعالى.
وإن ابن الملك أخبر الملك أنه سمع قائلاً يقول: إنك لن تبرأ حتى يرقيك هذا السائح الذي حبس ظلماً، وإنك أيها الملك أمرت بقتله ظلما وعدوانا.
فلما سمع الملك ذلك من ابنه، أنَّ شفائي عند السائح الذي أخذتَه وأمرت بعذابه، أمر أن يُكَف عن عقوبة السائح وأن يؤتى به، فأُتيَ به، فأمره أن يَرقي ابنه، فقال السائح: لستُ أحسن الرقي، ولكن اسقه من ماء هذه الشجرة، فيبرأ بإذن الله تعالى.
فسقاه، فبرئ الغلام، ففرح الملك بذلك، وسأله عن قصته فأخبره، فشكره الملك، وأعطاه عطية حسنة، وأمر بالصائغ أن يُضرب حتى يموت، لكذبه، وانحرافه عن الشكر، ومجازاته الفعل الجميل بالقبيح.
ثم قال الفيلسوف للملك: ففي صنيع الصائغ بالسائح، وكفره له بعد استنقاذه إياه، وشكر البهائم له، وتخليص بعضها إياه، عبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر، وأدب في وضع المعروف والإحسان عند أهل الوفاء والكرم، قربوا أو بعدوا، لما في ذلك من صواب الرأي، وجلب الخير، وصرف المكروه.