كليلة ودمنة، باب الحمامة، والثعلب، ومالك الحزين

قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ ما ذكرت، فاضرب لي مثلا، في شأن الرجل الذي يرى الرأي لغيره، ولا يراه لنفسه.

قال الفيلسوف: إن مثل ذلك، مثل الحمامة، والثعلب، ومالك الحزين.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

فهرس الكتاب ١ - مثل: الحمامة، والثعلب، ومالك الحزين

١ - مثل: الحمامة، والثعلب، ومالك الحزين

قال الفيلسوف: زعموا أن حمامة كانت تفرخ في رأس نخلة، فإذا باضت حضنت بيضها، فإذا فقست وأدرك فراخها، جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها، فيقف بأصل النخلة، فيصيح بها ويتوعدها أن يرقي إليها، فتلقي إليه فراخها.

فبينما هي ذات يوم قد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين، فوقع على النخلة. فلما رأى الحمامة كئيبة، حزينة، شديدة الهم، قال لها: ما لي أراكي كاسفة اللون، سيئة الحال؟

فقالت له: يا مالك الحزين، إن ثعلباً دهيت به، كلما كان لي فرخان، جاء يهددني، ويصيح في أصل النخلة، فأفرق منه، فأطرح إليه فرخي.

قال لها مالك الحزين: إذا أتاكِ ليفعل ما تقولين، فقولي له: لا ألقي إليك فرخي، فارقَ إلي، وغرر بنفسك، فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي، طرت عنك، ونجوت بنفسي.

فلما علمها مالك الحزين هذه الحيلة، طار، فوقع على شاطئ نهر، فأقبل الثعلب في الوقت الذي عرف، فوقف تحتها، ثم صاح كما كان يفعل، فأجابته الحمامة بما علمها مالك الحزين.

قال لها الثعلب: أخبريني من علمك هذا؟

قالت الحمامة: علمني مالك الحزين.

فتوجّه الثعلب، حتى أتى مالكا الحزين على شاطئ النهر، فوجده واقفا، فقال له الثعلب: يا مالك الحزين، إذا أتتك الريح عن يمينك، فأين تجعل رأسك؟

قال مالك الحزين: عن شمالي.

قال الثعلب: فإذا أتتك عن شمالك، فأين تجعل رأسك.

قال مالك الحزين: أجعله عن يميني، أو خلفي.

قال الثعلب: فإذا أتتك الريح من كل مكان، وكل ناحية، فأين تجعله؟

قال مالك الحزين: أجعله تحت جناحي.

قال الثعلب: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحك، ما أراه يتهيأ لك، فأرني كيف تصنع.

فأدخل الطائر رأسه تحت جناحه، فوثب عليه الثعلب، فقتله، فقال: يا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلمها الحيلة لنفسها، وتعجز عن ذلك لنفسك، فيستمكن منك عدوك، ثم أكله.

ثم قال الفيلسوف للملك: بقيت وعشت أيها الملك، وكمل فيك الحلم والعلم، وزكا منك العقل والقول والنية، فلا يوجد في رأيك نقص، ولا في قولك سقط، ولا في فعلك عيب، وجُمِع فيك النجدة واللين، فلا توجَد جبانًا عند اللقاء، ولا ضيِّقَ الصدرِ فيما ينوبك من الأشياء.

وقد شرحت لك الأمور، ولخصت لك جواب ما سألتني عنه، واجتهدت لك في رأيي، ونظرتُ بمبلغ فطنتي في التماس قضاءِ حاجتِك، فاقض حقِّي بحسن النية منك، بإعمال فكرِك وعقلك، فيما وصفت لك، فافهم ذلك أيها الملك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.