قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ ما ذكرت من مَثَل المتحابَّين، يقطع بينهما الخؤون، الكذوب، وإلى ما تصير عاقبة أمره من بعد، فحدثني إن رأيت، عن إخوان الصفا، كيف يبتدأ تواصلهم، ويستمتع بعضهم ببعض؟
قال الفيلسوف: إن العاقل لا يبدل بإخوان الصفا شيئا، لأنهم الأعوان على الخير كله، والمواسون على ما ينوب من مكروه، ومن أمثال ذلك، مثل الغراب، والحمامة المطوقة، والجرذ، والسلحفاة، والظبي.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
١ - مثل: الغراب، والحمامة المطوقة، والجرذ
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض، مكان كثير الصيد، تختلف إليه القُنَّاص، وكان في ذلك المكان شجرة عظيمة، كثيرة الأغصان، ملتفة الورق، فيها وكر غراب.
فلما كان ذات يوم، والغراب على الشجرة، إذ بَصر برجل من الصيَّادين، قبيحِ المنظر، بشع الحال، على عاتقه شبكة، وفي يده عصا، وهو مُقبِل نحو الشجرة.
فذُعِر الغراب منه وقال: لقد ساق هذا الصياد إلى ها هنا أمرٌ، ما أدري لِحيني، أم لِحين غيري، فلأثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع.
ثم إن الصياد نصب شبكته، ونثر عليها حبّا، وكمن قريبا منها. فلم يلبث إلا قليلا، إذ قد مرت به حمامة يقال لها المطوقة، وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير.
فرأت الحبَّ، فعميت هي وصواحبها عن الشرك، فانقضَّت، وانقضّضن معها جميعا، فعلقن جميعًا في الشبكة، كلهن فيها. وأقبل الصياد، مسرعا، فرحاً، مسروراً، فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها، وتعالج الخلاص لنفسها.
فقالت المطوقة: لا تَخاذَلن في المعالجة، ولا تكن نفس إحداكن، أهم إليها من نفس صاحبتها، ولكن، نتعاون جميعاً، فلعلنا نَقلع الشبكة، فينجو بعضنا ببعض.
ففعلن ذلك، فانتزعن الشبكة حين تعاونَّ عليها، وطِرْنَ بها في عُلوِّ السماء. ورأى الصيادُ صنيعهنَّ، فأتبعهنَّ يطلبهنَّ، فطلبهنَّ ولم يَقطع رجاءه منهن، وظنَّ أنهنَّ لا يطِرن إلَّا قريبًا، حتى يقعنْ.
قال الغراب: لأتبعهن، وأنظر ما يكون من أمرهنَّ وأمره.
والتفتت المطوقة، فرأت الصياد يتبعهن، فقالت للحمام: هذا الصياد مجد لطلبكن، فإن نحن أخذنا في الفضاء، لم يخف عليه أمرنا، ولم يزل يتبعنا، وإن نحن أخذنا في الشجر والعُمران، لم يلبث أن يخفى عليه أمرُنا، حتى ييأس منَّا فينصرف. ولي بمكان كذا، جرذٌ هو لي أخ، فلو انتهينا إليه، قطع عنا هذا الشرك، وخلَّصنا.
ففعلن ذلك، وخَفِين على الصياد، فأيس منهنَّ وانصرف، وتبعهن الغراب، لينظر هل للحمام من حيلة للخروج مما هنَّ فيه، فيتعلَّمها، وتكون عُدَّة لنفسه، إن وقع في مثلها.
فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ، أمرت الحمام أن يسقطن، فوقعن، ووجدت الجرذ، قد أعدَّ مائة جُحر للمخاوف، فنادته المطوقة، فأجابها الجرذ من حجره: من أنت؟
قالت: أنا أختك المطوقة.
فنظر، فوجدها على تلك الحالة، فأقبل إليها يسعى، وقال: يا أختي، ما أوقعك في هذه الورطة، وأنتِ من الأكياس؟
قالت المطوقة: ألم تَعلم أنه ليس شيءٌ من الخير والشر، إلَّا وهو محتوم على صاحبه، وما يُصيب بأيَّامه ومُدَّته، وعِلَله، وكُل ما يُبتلَى به من قليله وكَثيره؟ فالمقادير، هي التي أوقَعَتني في هذه الورطة، ودلَّتني على الحَبّ، وأخْفَت عليَّ الشبكة، حتى لججتُ فيها وصُوَيحباتي، وليس أمري وقلة امتناعي من القدَر بعَجَب، فقد لا يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمراً، فإذا قضي ذلك، تنكسف الشمس، ويصاد السمك، ويهوى الطير، فالسبب الذي يدرك به العاجز حاجته، هو الذي يحول بين الحازم وطليبته.
ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشباك التي فيها المطوقة، فقالت: ابدأ بقطع عقد سائر الحمام، ثم بعد ذلك ابدأ بعقدي، فأعادت ذلك عليه، وهو لا يلتفت إلى قولها.
فلما أكثرت عليه القول وكررت، قال: لقد كررت القول عليّ، كأنك ليس لك في نفسك حاجة، ولا لك عليها رحمة، ولا ترعين لها حقاً.
قالت المطوَّقة: لا تَلُمني على ما سألتك، فإني قد تكلفت لجماعتهنَّ بالرئاسة، فحقُّ ذلك عليَّ عظيم، وقد أدَّين حقِّي بالطاعة والنصيحة، وبمعونتهنَّ وطاعتهنَّ بذلك نجَّانا الله من الصيَّاد، وإني تخوَّفت، إن أنت بدأت بقطع عُقدتي، أدركك الملل والفتور، وتكسل عن بعض ما بقي، وعرَفت، أنك إن بدأت بهن، وصرت أنا للآخر، لم تَرْضَ وإن أدرَكك الكَلال والفتور، حتى تُخلِّصني مما أنا فيه.
قال الجرذ: هذا مما يزيد الرغبة، والمودة فيكي.
ثم إن الجرذ، أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، فانطلقت المطوقة، وحمامها معها.
فَلمَّا رأى الغراب صنيع الجُرَذ، وتخليصَه الحمام، رغب في مصادقته، وقال: ما آمن أن يُصيبني مثل ما أصابهنَّ، ولا غنا لي عن مصادقة وموَدَّة الجرذ، فدنا وناداه.
فأخرج الجرذ رأسه وقال: مَن أنت، وما حاجتك؟
قال الغراب: أنا الغراب، وكان من أمري إني أتيتك، لما رأيتُ منك في فعلك مع الحمام، ووفاءك لأصدقائك، وإني أريد مصادقتك وإخائك، وجئت أطلب ذلك منك.
قال الجرذ: ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل يلتمس ما يرجو أن يكون، ويتركَ طلب ما لا يقدر، لئلا يُعَدَّ جاهلًا، كرجل أراد أن يُجريَ السفُن في البرِّ، ويجُرَّ العَجَل على الماء، وكيف يكون بيننا سبيلُ، وإنما أنت آكل، وأنا طعام لك.
قال الغراب: اعتَبِر بعقلك، إن أكلي إياك، وإن كنت لي طعاماً، مما لا يغني عني شيئاً، وإنَّ في بقائك ومودتك، أُنسًا لي. واعتبِر بما جرَّبت من طول الدهر، هل تجِد مَن يبتغي منفعته، بمضرَّته، على عِلم منه بذلك؟ وإني ما رغبت فيك إذ رغبتُ، إلَّا لنفسي، والمنفعة لها، فإنَّ بقاءك فيه منفعةٌ لي، من نائبة، أو نازلة تنزل بي.
فإنه حقيقٌ إذ رغبتُ فيك، ألَّا تُبعدني من نفسك، ولا تنازِعَك النفس على سوء الظنِّ، مع ما أشرح من نفسي، وأوَثِّق لك من عهدي. وقد ظهر منك حسن الخُلُق، وإن كنت لا تلتمس ذلك، وذو الفضل لا يخفَى فضله، وإن هو أخفاه، وكتمه جهده، كالمسك الذي يختم، ثم لا يمنعه ذلك من النشر الطيب، والأرج الفائح، فلا يفتر عليَّ حلمك، ولا تمنعني ودك.
قال الجرذ. إن أشد العداوة، عداوة الجوهر، وهي عداوتان، منها ما هو متكافئ، كعداوة الفيل والأسد، فإنه ربما قتل الأسد الفيل، أو الفيل الأسد، ومنها ما قوَّته من أحد الجانبين على الآخر، كعداوة ما بيني وبين السنور، وبيني وبينك، وليست لضرٍّ منِّي عليكم، ولكن للشقاء الذي كتب الله عليَّ منكم.
وإن العداوة التي بيننا، ليست تضرك، وإنما ضررها عائد عليَّ، وليس من عداوة الجوهر صُلح، إلَّا رُبَّ يعود إلى العداوة، وليس صُلح العدوِّ بموثوق به، ولا مركون إليه، فإنَّ الماء، وإن هو أحكم إسخانه بالنار، لم يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صُبَّ عليها، ولا تمنعه سخونته من الرجوع إلى أصل جوهره.
وليس ينبغي للعاقل أن يغترَّ بصلح العدوِّ ومصاحبته، وإن مثل المصاحب عدوه، كحامل الحيَّة، الذي وجدها وقد أصابها البَرد، فأخفاها في كُمِّه، فلمَّا دَفئ النهار عليها، ووجدت سخونة الثياب، تحرَّكت فنهشته، فقال لها: أهذي مكافأتي على جميل فعلي بك، وصنيعي إليك؟ فقالت له: هذا لي دأبٌ، وعادةٌ، وخُلُقٌ، وطِباعٌ، وأحمق الناس، المُريد لإزالة شيء، عن أصله وطباعه، إلى غير أسِّه (أصله) وجوهره، ولا يستأنس العاقل إلى عدوِّه الأريب (ذكي متبصر)، بل ما يستوحش منه أكثر.
قال الغراب: قد فهمت ما تقول، وأنت حقيقٌ أن تأخذ بفضل خلقك، وتعرف صدق مقالتي، ولا تصعب عليّ الأمر بقولك ليس إلى التواصل بيننا سبيل، فإن العقلاء الكرام، يبتغون إلى كل معروف، ووُصلة سبيلًا، والمودة بين الصالحين، سريع اتصالها، بطيءٌ انفصالها، كالكوز من الذهب، بطيء الانكسار، سريع الإعادة، هيّن الإصلاح، إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار، سريعٌ انقطاعها، بطيء اتصالها، كالكوز من الفخار، سريع الانكسار، ينكسر من أدنى عيب، ولا وصل له أبداً، والكريم يودّ الكريم، واللئيم لا يودّ أحداً، إلا عن رغبة أو رهبة، وأنت كريم، وأنا إلى ودّك ومعروفك محتاج، وأنا لازمٌ بابك، غيرُ ذائقٍ طعامًا ولا شرابًا، حتى تؤاخيني.
قال الجرذ: قد قبلت إخاءك، فإني لم أردد أحداً عن حاجة قطُّ، وإنما ابتدأتُك بما سمعت، إرادة التوثق، والإعذار لنفسي، فإن أنت غدرت بي، لم تقل: إني وجدت الجرذ ضعيفَ الرأي، سريع الانخداع.
ثم خرج الجرذ من حجره، وأقام عند الباب، فقال له الغراب: ما يمنعك من الخروج إليّ، والاستئناس بي؟ فهل في نفسك بعد ذلك مني ريبة؟
قال الجرذ: إن أهل الدنيا فيما بينهم، ذات النفس، وذات اليد. فالمتباذلون ذات النفس، هم الأصفياء، المتعاونون، المتصافون، وأمَّا المتبادلون ذات اليد، فهم الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض، ومن كان يصنع المعروف ابتغاء سرور ومنافع الدنيا، فإنما مثله فيما يبذل ويعطي، كمثل الصياد، وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير، وإنما يريد نفع نفسه. فتبادُل ذات النفس، أفضل من تبادل ذات اليد. وإني وثقت بذات نفسك، ومنحتك مثل ذلك من نفسي، وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظنٍّ بك، ولكن قد عرفت أن لك أصحاباً جوهرهم كجوهرك، وليس رأيهم فيَّ كرأيك، وأنا أخاف أن يراني بعضهم وأنا أكلمك، فيُهلكني.
قال الغراب: إنَّ من علامة الصديق، أن يكون لصديق صديقه صديقًا، ولعدوِّ صديقه عدوًّا، وليس لي بصاحب ولا أخ، من لم يكن لك مُحِبًّا، ولا فيك راغبًا، وقد تهون عليَّ قطيعةُ مَن كان عدوًّا لك، فإنَّ صاحب الجِنان، إذا نبت في جنانه ما يُفسِدها ويضرُّها، اقتلعه وقذف به.
ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب، فتصادقا وتصافيا، وأنس كل واحد منهما بصاحبه، حتى إذا مضت لهما أيام، قال الغراب: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأخاف أن يروني معك فيرموني. ولي مكان في عزلة وخِصب من السمك والماء، ونحن واجدون هناك ما نأكل، ولي فيه صديقٌ من السلاحف، فأريد أن أنطلق بك إلى هناك، لنعيش آمنين.
قال الجرذ: أفلا أذهب معك!؟ إني لمكاني هذا كاره.
قال الغراب: وما يُكَرِّهه إليك؟
قال الجرذ: إن لي أخبار وقصصاً، سأقصها عليك، إذا انتهينا حيث تريد، فافعل ما تشاء.
فأخذ الغراب بذَنَب الجرذ، وطار به حتى دنا من العين التي فيها السلحفاة، فلمَّا بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ، ذعرت منه، ولم تعلم أنه صاحبها، فغاصت في الماء.
ووضع الغراب الجرذ على الأرض، ووقع على شجرة قُربها، ونادى السلحفاة. فعرفت السلحفاة صوته، وخرجت إليه، ورحبت به، وسألته من أين أقبل.
فأخبرها الغراب بقصته حين تبع الحمام، وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها، فعجبت السلحفاة من عقل الجرذ ووفائه، ودنت منه ورحبت به، وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض؟
ثم إنَّ الغراب قال: اقصص عليّ الأخبار التي زعمت أنك تحدثني بها، فأخبرني بها، مع جواب ما سألت السلحفاة، فإنها عندك بمنزلتي.
٢ - مثل: الجرذ، والناسك، والضيف
قال الجرذ: كان منزلي أول أمري، في بيت رجل ناسك، لم يكن له أهل وعيال. وكان يؤتى في كل يوم بسلة من الطعام، فيأكل منها حاجته، ويعلق الباقي. وكنت أرصد الناسك حتى يخرج، وأثب إلى السلة، فلا أدع فيها طعاماً إلا أكلته، ورميتُ به إلى الجرذان.
فجهد الناسك مراراً، أن يجعلها في مكان لا أناله، فلم يقدر على ذلك، حتى نزل به ذات ليلة ضيف، فأكلا، ثم أخذا في الحديث، فقال الناسك: من أي أرض أقبلت؟ وأين تريد الآن؟
وكان الضيفُ رجلًا قد جال الآفاق، ورأى الأعاجيب، فأنشأ يحدث الناسك عمّا وطئ من البلدان، ورأى من الأمور، وجعل الناسك خلال ذلك، يصفق بيديه، لينفّرني عن السلة، فغضب الضيف من ذلك وقال: أنا أحدثك وأنت تهزأ بي!؟ ما حَمَلك على أن تسألني وأنت تفعل هذا؟
فاعتذر إليه الناسك وقال: إني قد تلذذت بحديثك، وإنما أصفق بيدي، لأنفّر جرذاً، لست أضع في البيت شيئاً إلا أكله، وقد تحيرت في أمره.
قال الضيف: جرذٌ واحد يفعل ذلك، أم جرذان كثيرة؟
قال الناسك: جرذان البيت كثيرة، وفيها واحدٌ هو الذي قد أضر بي، ولا أستطيع له حيلة.
قال الضيف: إن هذا الامر، ما هذا إلَّا لشيء، وإنَّه ليُذكِّرني قولَ الرجل: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة السمسم المقشور، بغير المقشور.
قال الناسك: وكيف كان ذلك؟
٣ - مثل: المرأة التي باعت السمسم المقشور، بغير المقشور
قال الضيف: نزلت مرة على رجل، فتعشينا جميعًا، ثم فرش لي، وانصرف إلى مضجعه مع زوجته، فسمعته يقول في آخر الليل لامرأته: إني أريد أن أدعو غداً رهطا ليأكلوا عندنا، فاصنعي لهم طعاماً.
قالت المرأة: كيف تفعل ذلك، وليس لك فضلٌ عن عيالك، وأنت رجل لا تستبقي شيئًا، ولا تدخره؟
قال الرجل: لا تندمي على شيءٍ أطعمناه، وأنفقناه، فإن الحرص على الجمع والادخار، ربما كانت عاقبة صاحبه، كعاقبة الذئب.
قالت المرأة: وكيف كان ذلك؟
٤ - مثل: الصياد، والظبي، والخنزير، والذئب
قال الرجل: زعموا أنه خرج ذات يوم، رجل قانصٌ، ومعه قوسه ونشابه، فلم يجاوز بعيدًا، حتى رمى ظبيًا، فأصابه، فحمله، ورجع طالباً منزله.
فعرض له في طريقه خنزير، فحمل عليه، فوضع الرجلُ الظبي، وأخذ القوس، ورماه بالسهم فأنفذه. وأدركه الخنزير، فضربه بنابه ضربة، أطارت القوس والنشَّاب من يده، فوقعا جميعًا مَيْتَين.
فأتى عليهم ذئب، فلمَّا رآهما، وثق بالخِصب في نفسه، وقال: أنا جاعلٌ ما وجدتُ كنزًا، هذا الرجل، والظبي، والخنزير، يكفيني أكلهم مدة، ولكن أبدأ بهذا الوتر فآكله، فيكون قوت يومي.
فعالج الذئب الوتر، فلما قطعه، طارت القوس، فأصابت مقتلا من حلقه.
وإنما ضربتُ لكِ هذا المثل، لتعلمي، أنَّ الحرص على الجمع والادِّخار، وخيمُ العاقبة.
قالت المرأة: نعم ما قلت، وعندي من الأرز والسمسم، ما فيه كفاية لإطعام ستَّة رَهْط، أو سبعة، وأنا غاديةٌ على اصطناع الطعام، فادع من أحببت غدًا.
وأخذت المرأة حين أصبحت، سمسماً فقشرته، وبسطته في الشمس ليجف، وقالت لغلام لهم: اطرد عنه الطير والكلاب.
وتفرغت المرأة لبعض صنيعها، فغفل الغلام عن السمسم، فجاء كلبٌ، فعاث فيه، فاستقذرته المرأة، وكرهت أن تصنع منه طعاماً ما. فذهبت المرأة به إلى السوق، فأخذت به سمسماً غير مقشور، مثلاً بمثلٍ، وأنا أُبصِر ذلك، فسمعتُ رجلًا يقول: لأمرٍ ما، باعت هذه المرأة سمسمًا مقشورًا، بغير مقشور.
وكذلك قولي في هذا الجرذ، الذي ذكرتَ أنه يثب في السلَّة، حيث تضعها دون أصحابه، إنه من عِلة على ما ذكرت، فالتمس لي فأسًا، لعلِّي أحفِر جُحره، وأطَّلع على بعض شأنه.
فاستعار الناسك من بعض جيرانه فأساً، فأتى بها الضيف، وأنا حينئذٍ في غير جحري، أسمع كلامهما. وكان في جُحري ألفُ دينار، لا أدري من وضعها، فكنت أفترشها وأفرح بها، وأعِزُّ بمكانها، وأتقلَّبُ عليها. وإن الضيف احتفر الجُحر، حتى انتهى إليها، فاستخرجها، وقال: ما كان هذا الجرذ يقوى على الوثوب حيث كان يثب، إلا بهذه الدنانير، فإن المال جعل له قوة، وزيادة في الرأي والتمكن، وسترى أنه بعد أخذنا إياها، أنه لا يقوى، ولا يستطيع أن يصنع ما كان يصنع، ولا يكون له فضل على سائر الجرذان.
فعلمت أنه قد صدق، وأحسست من نفسي بنقصان القوة حين أُخرِجت الدنانير من جُحري، وانتقلت إلى موضع آخر.
فلمَّا كان من الغد، اجتمع إلي الجرذان اللاتي كنَّ يُطِفن بي، فقُلن: قد أصابنا جوع، وفَقَدنا ما كنتَ عوَّدتنا، وأنت رجاؤنا، فانظر إلينا، و انظر في أمرنا.
فانطلقتُ إلى المكان الذي كنت أثِب فيه إلى السلة، فأردتُ الوثوب مرارًا، كل ذلك لا أقدر عليه، فاستبان لي أنَّ حالي قد تغيَّرت، وزهِد فيَّ الجرذان، وسمعتُ بعضهن يقولُ لبعض: قد هلك هذا آخرَ الدهر، فانصرِفنَ عنه، ولا تطمَعن فيما عنده، فإنا نرى حالته، وإنه قد احتاج إلى من يعوله.
فتركني، ولحقن بأعدائي وجفونني، وأخذن في غيبتي عند من يعاديني ويحسدني، وجعلن لا يقربنني ولا يلتفتن إليَّ.
فقلت في نفسي: ما الإخوان، ولا الأهل، ولا الاعوان، ولا الحشم، ولا التبَع، إلَّا بالمال، ولا تظهر المُروءةُ، ولا الرأي، ولا القوة، ولا المودَّة، إلَّا بالمال، فإن من لا مال له، إذا أراد أمراً، قعد به العدم، عمّا يريده.
ووجدت، من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له، ومن لا مال له لا عقل له، ومن لا عقل له، فلا دُنيا ولا آخرة له، والرَّجل إذا أصابه الضرُّ والحاجة رفضه إخوانه، وقطع ذوو قرابته وُدَّه، وهان عليهم، واضطرته المعيشة، وما يُعالج منها لنفسه وعياله، إلى التماس الرزق، فيما يُغِرِّر فيه بنفسه ودينه، وهلاك آخرته، فإذ هو قد خسر الدنيا والآخرة، فلا شيء أشدُّ من الفقر.
وإنَّ الشجرة النابتة في السباخ (من الأرض: ما لم يفلح ولم يعمر لملوحته)، المأكولةَ من كل جانب، كحال الفقير، المحتاج إلى ما في أيدي الناس.
فالفقر، رأس كل بلاء، وهو داع إلى صاحبه المقت، ومسلبه العقل والمُروءة، ومَذهب للعلم والأدب، ومعدنٌ للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومَن نزل به الفقر، لم يجد بدًّا من ترك الحياء وتضييعه، ومن ذهب حياؤه ذهبت مُروءته، ومن ذهبت مُروءته مُقِت، ومن مُقِت أوذي، ومن أوذي حزِن، ومن حزن فقدَ عقله، واستنكر فهمه وحِفظه، ومن أصيب في ذلك، كان أكثرُ قوله عليه، لا له.
ووجدت الرجل إذا افتقر، اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظنُّ به حَسَنًا، فإن أذنب غيره، كان هو للتهمة موضعاً، وليس من خلة هي للغني مدح، إلا وهي للفقير ذمٌ، فإن كان شجاعاً سمي أهوج، وإن كان جواداً سمّي مبذراً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقورا سمي بليداً، وإن كان لَسِنًا سُمِّي مهذارا، وإن كان صَموتا سُمِّي عَيِيّا، فالموت أهون من الفاقة (الحاجة)، التي تضع المرء بمواضع الهوان، وتدنيه بعد ارتفاعه، وتقصيه بعد تقرُّبه، وتُبعده بعد توسُّطه، وتُزري به وتَمقُته بعد المحبة، ويضطرُّ صاحبها إلى المسألة، ولا سيما مسألةُ الأشِحَّاء الأدنياء اللؤماء، فإن الكريم، لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سماً، فيبتلعه، كان ذلك أهون عليه، وأحب إليه، من الطلب إلى اللئيم.
وقد قيل، من ابتُلي بمرضٍ في جسده لا يفارقه، أو بفراق الأحبَّة والإخوان، أو بالغُربة، حيث لا يعرف مبيتا ولا مقيلا، ولا يرجو إيابا، أو بفاقةٍ تضطره إلى المسألة، فالحياة له موت، والموت له راحة.
وربما كره الرجل المسألة، وبه حاجة تحملَه على السرقة والغصب، وهما شرٌّ من التي زاغ عنها، فإنَّه قد كان يُقال: الخَرَسُ خير من اللَّسَن المُطَعَّم بالكذب، والفاقةُ خيرٌ من السَّعة من أموال الناس، والاجتهادُ في الكفاف، خير من الإسراف والتبذير، فيما لا يحلُّ.
وقد كنت رأيت الضيف، حين أخرج الدنانير من الجحر، قاسمها الناسك، ثم وضع نصيبه منها في خريطة عند رأسه، فطمِعت أن أُصيب منها شيئا، يرد إلي بعض قوَّتي، ويراجعني به أصدقائي، فلما جنّ الليل، انطلقت حتى انتهيت قريبا من الضيف، ووجدته يقظان، وبيده قضيب، فضربني به ضربة على رأسي، أوجعتني، فسعيتُ هاربا إلى جحري، حتى دخلته.
فلمَّا سكن عنِّي ما كان بي من الوجع، نازعني الحِرص والشَّرَه، وغلباني على عقلي، فخرجت طمعاً كطمعي الأول، وإذا الضيف يرصدني، فعادوني بالضرب على رأسي، وسالت منه الدماء، وتقلبتُ ظهرًا لبطن، وانجررت حتى دخلت جُحري، فوقعن مَغشِيًّا عليَّ، لا أعقِل ولا أدري.
وأصابني من الوجع، ما بغض إلي المال حتى لا أسمع بذكره، إلا يُداخِلُني من ذكره رُعب وذُعر. ثم نظرت، فوجدت البلايا في الدنيا، إنما يسوقها الحرص والشره، فلا يزال صاحبها يتقلَّب في تعبٍ منها، ووجدتُ، ركوب الأهوال الشديدة، وتجشُّم الأسفار البعيدة، في طلب الدنيا، أهونَ على المرء من بسط يده بالمسألة، ووجدت الرضا والقنوع، هما جميع الغنى، وسمعتُ العلماء يقولون: لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَب كحُسنِ الخُلق، ولا هناء كالقناعة، وأحقُّ ما صُبِر عليه، ما ليس إلى تغييره سبيل، وكان يُقال: أفضلُ البرِّ الرحمة، ورأسُ المودَّةِ الاسترسال، وأنفعُ العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون، وطيبُ النفس وحُسنُ الانصراف عمَّا لا سبيل إليه، فصار أمري إلى أن قنِعتُ ورضيت، وانتقلت من بيت الناسك، إلى البرِّيَّة.
وكان لي صديق من الحمام، قد سبقت صداقته الغراب، فسيقت إلي بصداقته صداقة. ثم ذكر لي الغراب ما بينك وبينه من المودة، وأخبرني أنه يريد إتيانك، فأحببت أن أكون معه، وكرهت الوَحدة، فإنه ليس من سرورِ الدنيا شيء، يَعدِل صحبة الإخوان، ولا فيها همٌّ، يَعدِل غمٌّهم وفقدانهم.
وقد جرَّبت، فعلمت أنه لا ينبغي للعاقل، أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف، الذي يدفع به الحاجة والأذى عن نفسه، وهو اليسير من المطعم والمشرب، إذا أُعين بسعة النفس، وصحة البدن، ورفاهة البال. فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي، وأنا لك أخ، فلتكن منزلتي عندك كذلك.
فلما فرغ الجرذ من كلامه، أجابته السلحفاة، بكلام، رقيقٍ لطيف، وقالت: قد سمعت كلامك، وما أحسن ما تحدثت به، إلا أني رأيتك تذكر بقايا أمورٍ هي في نفسك، منها من اغترابك شيء، فتناسَ ذلك، ولا يكونن من رأيك، واطرحَنَّه عنك.
واعلم، أن أحسن الكلام لا يتم إلا بالعمل، فإنَّ المريض الذي قد علم دواء مرضه، إذا هو لم يعالج به نفسه، لم ينفعه غيره، ولم يجد له راحة ولا شفاء، فاستعمل علمك.
ولا تحزن لقلة مالك، وإن الرجل ذا المروءة، قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب وإن كان رابضاً، والغني الذي لا مروءة له يهان، وإن كثر ماله، كالكلب لا يحفل به ويُهان، وإن طوق وخلخل بالذهب.
ولا تُكبِرنَّ في نفسك اغترابَك، فإنَّ العاقل لا غُربة له ولا وحشة، ومعه ما يكتفي به من علمه ومُروءته، كالأسد، الذي لا يتقلَّب إلَّا ومعه قُوَّته، التي بها يعيش حيثما توجَّه.
فلتحسن تعاهدك لنفسك، فإنك إذا فعلت ذلك، أتاك الخير يطلبك، كما يطلب طيرُ الماء الماء. وإنما جُعلَ الفضل، للبصير الحازم المتفقد، وأما الكسلان المُتواكل، فإنَّ الفضل قلَّما يصحبه.
ولا يحزُنك أن تقول: كنتُ ذا مال فأصبحتُ مُعدما، فإنَّ المال وسائر متاع الدنيا، سريعٌ إقبالُه إذا أقبل، وشيكٌ إدباره إذا أدبر، كالكُرة، سريع ارتفاعها ووقوعها.
وقد قالت العُلماء في أشياء ليس لها ثبات ولا بقاء: ظلُّ الغمام، وخلة الأشرار، وعشق النساء، والثناء الكاذب، والبناء على غير أساس، والمال الكثير.
فإنه ليس يفرح عاقل بكثرة ماله، ولا يحزن لقلته، ولكن الذي ينبغي أن يفرح به عقله، وما قدَّم من صالح عمله، لأنَّه واثقٌ أنه به لا يُسلَب ما قدم، ولا يؤاخَذ بغيره. وهو حقيقٌ ألَّا يَغفُل عن أمر آخرته، والتزوُّد لها، فإنَّ الموت لا يأتي إلَّا بغتة، وليس له وقت معين.
وأنت عن موعظتي غنيٌّ بما عندك من العلم، وبما ينفعك بصير، ولكن قد رأيتُ أن أقضيَ من حقك الذي يجب، لأنك أخونا، وما عندنا من النصح مبذول لك.
فلما سمع الغراب ذلك من قول السلحفاة، وردها على الجرذ، وإلطافها إيَّاه، وحسن مقالتها، سرَّه ذلك وأفرحه، وقال: لقد سررتني وأنعمت، وأنتِ جديرة أن يأخذ بكلمتك، تفرح نفسك مما لهجت (أولع بِهِ).
وإن أولى أهل الدنيا بكرم العيش، وشدة السرور، من لا يزال رحله مع إخوانه وأصدقائه من الصالحين معمورا، ولا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد.
وإنَّ الكريم إذا عَثَر، لم يستقِل إلَّا بالكرام، كالفيل إذا وحِل، لم يستخرجه إلَّا الفِيَلة، ولا يرى العاقلُ معروفا يصطنعه كثيرا، وإن كثر، وإن خاطر بنفسه وغرَّر بها في بعض وجوه المعروف، لم يرَ ذلك عيبا، بل يعلم أنه إنما باع الفاني بالباقي، واشترى العظيم بالصغير، ولا يُعدُّ غنيًّا من لا يُشارَك في ماله، ولا العزم عزما إن ساق غنما.
فبينما الغراب في كلامه، إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى، فذعروا منه، فغاصت السلحفاة في الماء، ودخل الجرذ جُحرًا، وطار الغراب فوقع على شجرة.
ثم إن الغراب حلّق في السماء، لينظر هل للظبي من طالب، فلمَّا لم يرَ شيئا، نادى الجرذ والسلحفاة ليخرجا، وقال: ليس ها هنا شيء تخافانه.
فخرجا واجتمعوا، وقالت السلحفاة للظبي حين رأته ينظر إلى الماء: اشرب إن كان بك عطشا، ولا تخف، فإنه لا خوف عليك.
فدنا الظبي منها وحيَّاها، فرحبت به السلحفاة وقالت: من أين أقبلت؟
قال الظبي: كنت أكون في هذه البرية، حتى رأيت اليوم شَبَحا، فأشفقتُ أن يكون قانصا، فأقبلتُ خائفا مذعورا.
قالت السلحفاة: لا تخف، فإنا لم نرى هاهنا قانصاً قط، ونحن نبذل لك ودّنا، ومكاننا، والماء والمرعى كثيران عندنا، فارغب في صحبتنا.
فأقام الظبي معهم، وكان لهم عريش يجتمعون فيه، ويلهون، ويتذاكرون الأحاديث والأمور. فبينما الغراب، والجرذ، والسلحفاة، ذات يوم في العريش، غاب الظبي، فتوقعوه ساعة، فلم يأت. فلما أبطأ، أشفقوا أن يكون قد أصابه آفة، فقال الجرذ والسلحفاة للغراب: طر فانظر، هل ترى مما يلينا شيئاً؟
فحلق الغراب في السماء، فنظر، فإذا الظبي في الحبائل مقتنصاً، فانقض مسرعاً حتى أخبرهما بذلك.
فقالت السلحفاة والغراب للجرذ: هذا أمر، لا نرجو فيه غيرك، فأغِث أخانا وأخاك.
فخرج الجرذ يسعى، حتى انتهى إلى الظبي، فقال: كيف وقعت في هذه الورطة، وأنت من الأكياس؟
قال الظبي: وهل يغني الكيس مع القدر؟
فبينما هما كذلك، إذ وافتهما السلحفاة، فقال الظبي: ما أصبت بمجيئك إلي ها هنا، فإن القانص إن هو انتهى إلينا، وقد فرغ الجرذ من قطع الحبال، سبقته عدواً، وللجرذ أحجارٌ كثيرة، والغراب يطير، وأنت ثقيلة لا سعي لك ولا حركة، وأخاف عليك القانص.
قالت السلحفاة: إنه لا يعد ذو عقل، لما كان في فراق الاحبة، وإذا فارق الأليف أليفه، فقد سلب فؤاده، وحرم سروره، وغشي بصره، وإنَّ من المعونة على تسلية الهمّ، وسكونِ النفس عند نزول البلاء، لقاء المرء أخاه، وإفضاء كلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه.
فلم تفرغ السلحفاة من كلامها، حتى طلع القانص، ووافق ذلك قطعَ الجرذ وثاق الظبي، فنجا الظبي بنفسه، وطار الغراب محلقاً، ودخل الجرذ بعض الأحجار، ولم يبق غير السلحفاة.
فلمَّا دنا الصياد من حباله، ورآها مقطوعة، عجب، وجعل ينظر فيما حوله، فلم ير غير السلحفاة، فأخذها وربطها. ولم يلبث الغراب، والجرذ، والظبي، أن اجتمعوا، فنظروا القانص قد ربط السلحفاة، فاشتد حزنهم.
قال الجرذ: ما نرى أنَّا نجاوز من البلاء عَقَب، إلَّا وقعنا في أشد منها. لقد صدق الذي قال: لا يزال الإنسان مستمراً في إقباله، ما لم يعثر، فإذا عثر لجَّ به العثار (الشر)، وإن مشى في جدد (جديد) الأرض.
وما كان شؤمي، الذي فرَّق بيني وبين قطيني (صيغة مبالغة من قطَنَ)، وأهلي، ومالي وولدي، ليرضى حتى يفرِّق بيني وبين ما كنتُ أعيش فيه، من صحبة السلحفاة، التي لم تكن مودَّتها للمجاراة ولا لالتماس المكافأة، ولكنها خُلَّة الكرم والوفاء والعقل، ومودّتها أفضل من مودة الوالد ولده، المودَّة، التي لا يزيلها إلَّا الموت.
ويحٌ لهذا الجسد، الموكل به البلاء، الذي لا يزال في تصرف وتقلب، ولا يدوم له شيء، ولا يلبث معه أمر، كما لا يدوم للطالع من النجوم طلوع، ولا للآفل منها أفول، وهذا الحزن الذي أنا فيه، وتذكُّري إخواني، كالجُرح المندمل، تصيبه الضربة، فيجتمع على صاحبها ألمان، ألم الضربة وألم انتقاض الجُرح، وكذلك من خفَّت كلومه (جرح) للقاء إخوانه، ثم فقدهم، انتكأت قروحه.
قال الظبي والغراب: إنّ حُزننا وحُزنك، وكلامُنا وكلامك، وإن كان بليغاً، لا يغني عن السلحفاة شيئاً، فدع هذا، والتمس المخرج والحيلة، وإنه يقال: إنما يُختبَر الناس عند البلاء، وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، وكذلك يختبر الإخوان عند النوائب.
قال الجرذ: إنَّ من الحيلة أن تذهب أنت أيها الظبي، فتقع بمنظر من القانص كأنك جريح، ويقع الغراب عليك، كأنه يأكل منك، وأسعى أنا فأكون قريباً من القانص، مراقباً له، فعلّه أن يرمي ما معه من الآلة، ويضع السلحفاة، ويقصدك طامعاً فيك، راجياً تحصيلك. فإذا دنا منك، ففر عنه رويداً، بحيث لا ينقطع طمعه منك، ومكنه منك مرة بعد مرة، حتى يبعد عنا، وانْحُ منه هذا النحو ما استطعت، فإني أرجو ألا ينصرف، إلا وقد قطعت الحبائل عن السلحفاة، وأنجو بها.
ففعل الظبي ذلك هو والغراب، وتبعهما القانص، فاستجره الظبي حتى أبعده عن الجرذ والسلحفاة، والجرذ مقبلٌ على قطع الحبائل، حتى قطعها، ونجا بالسلحفاة.
وعاد القانص إلى حباله، فوجدها مقطعة، ففكر في أمره مع الظبي المتظالع (منحن)، والغراب الواقع عليه كأنه يأكل منه وليس يأكل، وتقريض حباله قبل ذلك، فاستوحش من الأرض، وظن أنه خولط في عقله، وقال: إنْ هذه إلَّا أرضُ سَحَرة أو جن، فانصرف مذعورا لا يلتمس شيئاً.
واجتمع الغراب، والظبي، والجرذ، والسلحفاة، إلى عريشهم سالمين آمنين، كأحسن ما كانوا عليه.
ثم قال الفيلسوف للملك: فإذا بلغت حيلةُ أضعف الخلق، مع صغره، في مودته، وخلوصها وثبات قلبه عليها، ومعاونته بعضه بعضا، وصبرِه، على التخلص من مرابط الهلكة مرة بعد أخرى، فكيف بالناس لو فعلوا مثل ذلك، وترافدوا (تعاونوا وتبادلوا العطاء) عليه؟ فهذا مثل إخوان الصفا، في الصحبة.