قال الملك للفيلسوف: قد فهمت مثل إخوان الصفا، وتعاونهم، وعظيم منفعة الإخاء والفائدة فيه، فأخبرني عن العدو، وهل يرجع صديقا؟ وهل يوثق بشيء من أمره؟ وكيف العداوة وما ضرها؟ وكيف ينبغي للملك أن يصنع، إذا جاءه أمر من عدوه، الذي يتخوفه على نفسه وجنده، وإن كان ملتمس الأمان والصلح، ويظهر المودة؟ فاضرب لي مَثَلَ المغترّ بالعدوّ، إن أظهر تضرعاً وملقاً.
قال الفيلسوف: ليس أحدٌ بحقيق، إذا أتاه أمر من عدوِّه الذي يتخوفه، على نفسه وجنده، وإن كان يلتمس الأمان والصلح، ويظهر المودة لجنده، والسلامة لأصحابه، أن يثق به، ويطمئن إليه، ويغترّ بقوله، فإنَّه قد يكون بأشباه ذلك، يطلب النُّهزة والفُرصة، ومن يَسترسل إلى عدوِّه، ويطمئن إليه، يصيبه الشرُّ، ما أصاب البومَ من الغربان.
قال الملك وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان في جبل من الجبال، شجرة عظيمة، كثيرة الغصون، شديدة الالتفاف، فيها وكر ألف غراب، عليهم والٍ من أنفسهم، وكان في ذلك الجبل كهف فيه ألف من البوم، عليهم ملك منهم.
فخرج ملك البوم ذات ليلة، بمن معه من جنده، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار على الغربان وأكثر فيهم القتل والجراح، ولم يعلم ملك الغربان بذلك حتى أصبح، فلما كان الغد، ورأى ما لقيَ جنده، اهتم وحزن.
واجتمعت الغربان إلى ملكها، فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منّا لإلا أصبح قتيلاً، أو جريحاً، أو مكسور الجناح، أو منتوف الريش، أو مقطوف الذنب، وأشد مما أصابنا ضراً علينا، جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا لعلمهنّ بمكاننا، فإنما نحن لك، ولك الرأي أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك.
فكر ملك الغربان في أمره، وكان في الغربان خمسة ذوي تجربة، وعلم بالأمور، ونظر، ومكر، وخداع، وحيل، ورفق، فخلا بهن، وسألهن عن رأيهن فيما أصابهن، وقال لأولهن: ماذا تشير به، فإنه قد كان ما قد رأيت؟
قال الاول: الحيلة في ذلك، ما كانت الحكماء تذكره، فإنه كان يقال، إذا أتاك العدو الذي لا يقوى على قتاله، فإن أمثل الرأي لك في أمره، الهرب منه، والنجاة إلى الموئل (المَلْجأ والمَنْجى).
ثم سأل الملك الثاني، فقال: ما رأيك أنت في هذا الأمر؟
قال الثاني: رأي ما رأى هذا من الهرب.
قال الملك: لم تقولا شيئا، ولا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا، ونترك أثقالنا ومعايشنا ونهرب، ونخليها لعدونا، ولا نبدأ بالهرب، وإضاعة الأموال والأثقال، فيكون ما أصابوه من ذلك علينا لهم عونا.
ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت؟
قال الثالث: لعمري، ليس ما تدافعه الليالي، بمستقيم لنا، إلا أن نبعث منا، من له نظر، وفضل، ورفق، فيكون قريبا منهم، ويتجسسوا الاخبار، ويعلموا ما يريدون، وهل يرضين صُلحا، أو فديةً، أو خراجا، نؤديه إليهنَّ، فإن فعلن، فنحن أحق بالقدم في ذلك، والاقرار به، والاستسلام له، ونقيم بمكاننا ووطننا آمنين، غير متخوفين لهن، فإنَّ من الرأي للملوك، إذا اشتدت شوكة عدوِّهم، وخافوا على أنفسهم ورعيتهم الهلكة والفساد، التماس الأمان، وأن يجعلوا الأموال جُنَّة للرعية والبلاد، وتعجيل ما أشرت إليه، أفضل من تأخيره.
قال الملك للرابع: فما رأيك فيما قال صاحبك؟
قال الرابع: لا أرى ذلك، فإنه صغار وذل، بل أن نفارق أوطاننا، وننطلق الى البرية، فنسكنها، ونعالج فيها سقط المعيشة، حتى يفرغ الله لنا أفضل وأمثل.
وأن نصبر على الغربة، وشدة المعيشة، خيرٌ من أن نضيع أحسابنا، ونخضع للعدو الذي نحن خيرٌ منه وأشرف، وإنه يقال، من رضي بالذل، فقد وضع نفسه، وأعان عدوه عليها، وجعل ذلك ذريعة إليها.
وأني قد عرفت، أنَّا لو عرضنا ذلك على البوم، لم يقبَلن منّا إلا بالشَّطط (الْجَوْرِ)، وقد يُقال: قارِب عدوَّك بعض المقاربة، لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة، فيجترئ عليك، وتضعف وتذلَّ نفسك.
ومَثَلُ ذلك، مَثَلُ الخشبة القائمة في الشمس، فإنْ أمَلْتَها قليلًا زاد ظلُّها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها، نقص الظلّ، وليس عدوُّنا براضٍ منَّا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة والصبر، فنُجمِع أمرنا، ونستعد لعدوِّنا، ونذكي العيون ما بيننا وبينهم، ونحترس من الغِرَّة والعودة، فإذا أقبل علينا عدوّنا، لقيناه مستعدِّين لقتاله، فقاتلناه غير مراجعين (مترددين) ولا مقصرين، مزاحفة تلقى أطرافنا أطرافه، ونتحرز منه تحرزا حصينا، ونُدافع الأيام حتى نصيب فرصتنا وبغيتنا، ولعلَّنا نظفر به.
قال الملك للخامس: ماذا ترى أنت، وما تقول في القتال؟
قال الخامس: إنه ينبغي لنا أن لا ننصب للبوم القتال، ما وجدنا لغيره سبيلا، لأنهن أقوى عليه منا، وقد قيل أن من لم يعرف قدر نفسه وقوله، وقاتل من لا يقوى عليه استضعافا، حمل نفسه على هلاكها وضرها، واغترّ، ومن اغترَّ أمكن مِن نفسه ولم يسلم، فليس أحد بحقيق أن يزدري عدوه، وإن كان مهينا.
وأكيَسُ الأقوام، مَن كره القتال لجل النفقة فيه، ولم يلتمس الأمر بالقتال، ما وَجَد إلى غير القتال سبيلا، وإنَّ النفقة في القتال من الأنفس والأموال والعمل، وما دون القتال نفقة فيه من أموال وقول وعمل، وأنا للبوم شديد الهيبة، ولو أنها أضربت عن قتالنا، وقد كنَّا نهابها قبل إيقاعها بنا.
والملك المشاوِر، يُصيب في مشاورته، ذوي العقول من نصحائه، من الظفر، ما لا يُصيبه بالكثرة والعدد، ولا ينفكَّ يعرضُ الأمور على نفسه أمرا أمرا، يتروَّى في الإقدام على ما يريد منها، والأعوان الذين يستعين بهم عليها، والعُدَد التي يعدُّ لها، فمن لا يكون له رأي في ذلك، ولا نصيحة من الوزراء الذين يُقبل منهم، لم يلبث.
فنهض الملك من ساعته، وخلا به، فكان أول ما سأله عنه الملك، أنه قال: هل تعلم ما كان سبب عداوة، ما بيننا وبين البوم؟
قال: نعم، كلمة تكلم بها غراب.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الغراب: زعموا أن جماعة من الطير، لم يكن لها ملك، فأجمعت أمرها على بومٍ، لتُملِّكه عليها.
فبينما هي في ذلك، إذ وقع لها غراب، فقالت: لو جاءنا هذا الغراب، لاستشرناه في أمرنا. فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب، فاستشرنه فيما قد أجمعن عليه من تمليك البوم.
قال الغراب: لو أنَّ الطير كلَّها فُقِدت وبادت، فلم يبق طاووس، ولا بط، ولا حمام ولا نعام، لم يكن ينبغي تمليك البوم، فإنه قبيح المنظر، سيئ المخبر، فسد المروءة، قليل العلم، ناقص العقل، سريع الغضب، برد الرحمة، لا يبصر بالنهار، ومن شرِّ أموره سوء تدبيره، ولا يطيق طائر يقرب منه، لصلفه، وخُبث نتْنه، وسوء خلقه، إلا أن ترين أن تكن أنتن تدبرن الأمور، برأيكن وعقولكن، وإن المُلْك، إذا كان قرابينه ورسله صالحين، استقام كما فعلت الأرانب، وعملت برأيها.
قال الطير: وكيف كان ذلك؟
٣ - مثل: الارنب، والفيل، والقمر
قال الغراب: زعموا، أن أصاب الفِيَلة، سنة لم يمطروا فيها، فنقصت المياه، وهلك النبات، وغارت العيون، ويبس الشجر، فشق ذلك على الفيلة، وشكت ذلك إلى ملكها، فقلن: إن العشب والماء قد غار، وإن استطعت أن تحتال لنا فافعل ذلك، فإن إقامتنا هلكة.
فأرسل الملك رسُله في طلب الماء، في كل ناحية، فرجع إليه بعض الرسل، فأخبره بأنَّه وجد في بعض الأمكنة عينًا تدعى القمَرية، كثيرة الماء، والعشب منها قريب، ولنا فيها شرب ومرعى.
فأجمع ملك الفِيَلة التحول إليها، فتوجَّه بفيلته، وكانت العين في أرض للأرانب، فجعلن الفِيَلة يطأن الأرانب في أحجرتهن، فيقتلن فيها، فأهلكن منهن كثيرا.
فلما صدت الفيلة عن الماء، وذهبن الى المرعى، اجتمعت الأرانب فقلن: قد علمتم ما أصابنا من الفيلة، وإنَّ العاقل يلتمس المخارج عند وقوع البلاء، وقبله، وعند ما يتخوف منه، ونحن مشفقون من رجوعهن إلينا، فليحضرن منكن كل ذي رأي، رأيه.
قال أرنب منهن، معروفا بالدهاء وحسن الرأي والأدب: لا تخفن الفيلة، وابعثن معي أميناً، يرى ويسمع ما أقول، ويرفعه إليكن.
قالت الارانب: أنت واثق عندنا، ولسنا نريد عليك شاهدا، ولست بالمتهم، ونرضى بقولك، فانطلق إلى الفيلة، وانظر الذي ترى، واعمَل برأيك، واعلم، أن الرسول هو الذي يصلح الامر أو يفسده، ويقرب السوء أو يبعده، ويخبر عن عقل المرسل، وهو الذي يلين الصدور إذا رفق، ويخشن الصدور إذا خرق.
فانطلق الأرنب في ليلةٍ، القمرُ فيها طالع، حتى انتهى إلى موضع الفِيَلة، وفكر حين دنا منهن وقال: أنا خفي صغير، وهن عظام، فأخاف إن دخلت بينهن، أن يطأني بعضهم، فيقتلني، وإن لم يُرِدْن ذلك، وقد قيل، أنه من مسح الحية، فلم تنهشه، فهو حري أن يسيل عليه شيء من لعابها، فيقتله، ولكن، ينبغي لي أن أصعد على مكان مشرف عليهم، فأكلمهم بالذي أريد.
ففعل ذلك، وأشرف على تلٍّ فنادى: يا ملك الفيلة، إن القمر بعثني إليك، والرَّسول، مبلِّغ غير ملوم، لا يقتل ولا يؤسر، وإنْ أَغْلَظَ في القول، لأنه إنما عليه البلاغ.
قال ملك الفيلة: وما بعثك به القمر؟
قال الارنب: يقول لك، إن من عرف فضل قوته على الضعفاء، فاغتر بذلك بالأقوياء، قياساً لهم على الضعفاء، كانت قوته وبالاً عليه.
وإنك قد عرفت فضل قوَّتك على الدواب، فغرَّك ذلك منِّي، فعمدت إلى العين التي تسمى باسمي، فشربت منها، وكدّرتها أنت وأصحابك.
فأنذرك، ألا تعود إلى مثل ذلك، وإنك إن فعلت، أُغشِي بصرك، وأتلف نفسك، وإن كنت في شكٍّ من رسالتي، فهلم إلى العين من ساعتك، فإني موافيك بها.
فعجب ملك الفيلة من قول الأرنب، وانطلق إلى العين مع الرسول. فلما نظر إليها، رأى ضوء القمر في الماء، فقال له الارنب: خذ بخرطومك من الماء، واغسل وجهك، واسجد للقمر.
فأدخل الفيل خرطومه في الماء، فتحرك، فخيل للفيل أن القمر ارتعد، فقال: ما شأن القمر ارتعد؟ أتراه غضب مني ؟
قال الأرنب: نعم، فاسجد له.
فسجد الفيل للقمر مرة أخرى، وتاب إليه مما صنع، وشرط له، ألَّا يعود هو، ولا أحدٌ من فيلته إلى العين.
قال الغراب: ومع ما ذكرت لكم من أمر البوم، فإنَّ من شأنها الخِبّ (الغش) والخديعة، وشرُّ الملوك المخادع، لا يستطاع الدنو منه، ولا المشاورة له لفجوره، وحمله، وكثرة شره، ومن ابتلى بسلطان مخادع، وخدمه، أصابه ما أصاب الأرنب، والصفرِد (طائر أَعظم من العُصفور، وفي المثل، أَجْبَنُ من صِفْرِدٍ)، اللذينِ حكَّما السِّنَّور (القِطِّ الوَحْشِيِّ).
فقالت جماعة الطير: وكيف كان ذلك؟
٤ - مثل: الارنب، والصفرد، والسنور
قال الغراب: كان لي جارٌ من الصفارِد، وكره في أصل شجرة، قريبة من وكري، وكان لي وادا محبا، ثم فقدته، فلم أعلم أين غاب، وطالت غيبته عني، واهتممت لغيبته، وتخوفت أن يكون قد قتل.
وجاءت أرنب إلى مكانه لتسكنه، فكرهت أن أخاصِمها في مكان الصِّفرِد، ولا أدري ما فعل به الدهر، فلبثت الأرنب في ذلك المكان، زمانًا.
ثم إن الصفرد، أتى منزله بعد زمان، فلمَّا وجد فيه الأرنب قال لها: هذا المكان مكاني، فانتقلي عنه.
قالت الأرنب: المسكن في يدي، وأنت المدَّعي، فإن كان لك حقٌ، فاثبته عليّ.
قال الصفرد: المكان مكاني، ولي على ذلك البيِّنة.
قالت الأرنب: نحتاج إلى القاضي قبل البيِّنة.
قال الصفرد: القاضي منا قريب، فهلمي بنا إليه.
قالت الأرنب: ومن القاضي؟
قال الصفرد: سنوراً متعبداً، يصوم النهار، ويقوم الليل كله، ولا يؤذي دابة، ولا يهرق دماً، عيشه من الحشيش، فإن أحببت، تحاكمنا إليه، ورضينا به.
قالت الأرنب: إذا كان كما وصفت، فاذهب بنا إليه.
فتوجها إليه، وتبِعتُهما لأنظر إلى الصوَّام، وقضائه بينهما، فلما ابصرهما، انتصب قائمًا يُصلِّي، وأظهر الخشوع والتنسك. فعجبا لما رأيا من حاله، ودنوا منه هائبين له، وسلما عليه، وسألاه أن يقضي بينهما. فأمرهما أن يقصا عليه القصة، ففعلا.
فقال السنور: لقد أدركني الكِبَر، وثَقُل سمعي، فما أكادُ أسمع، ولست أفهم خصومتكما، فادنُوَا منِّي لأسمع منكما. فَدَنَوَا، وأعادا عليه قصَّتهما، وسألاه الحكم.
قال السنور: قد سمعت مقالتكما، وإني بادئكما بالنَّصيحة قبل القضاء.
فأنا آمركما بتقوى الله، وألَّا تطلبا إلَّا الحق، فإنَّ طالب الحق، هو الذي يُفلِح، وإن قُضيَ عليه، وطالب الباطل مخصوم، وإن قُضيَ له، وليس لصاحب الدنيا من دنياه شيء، لا مالٌ ولا صديق، إلَّا عملٌ صالح قدَّمه فقط، فإنه يبقى له أجره.
والعاقل، حقيقٌ أن يكون سعيه، فيما يبقى ويعود عليه نفعه غداً، ويمقت ما سوى ذلك من أمور الدنيا، ومنزلةُ المال عند العاقل منزلةُ المدر (الطين)، ومنزلةُ النِّساء منزلة الأفاعي، ومنزلة الناس عنده فيما يحب لهم من الخير، ويكره لهم من الشر، منزلة نفسه، فلم يزل يقصُّ عليهما، ويدنوان منه، ويستأنسان به، فوثب عليهما حين تمكن منهما، فقتلهما.
ثم قال الغراب: وإنما ضربت لكم هذا المثل، لأن البوم سريع المكر، صاحب خديعة، وهو من سباع الطير، يأكل الحيوان، ولسنا نثق به، ولا نطمئن الى ما قبله، فلا يكوننَّ تمليك البوم من رأيكن.
فلما سمع الطير ذلك منه، صدقته، وأضربن عن تمليك البوم، وكان هناك بوم حاضر، قد سمع ما قالوا، فقال: ما الذي حرَّ (عطش) إليك من المضرة، وما الذي دعاك الى ما نطقت به، ولا أعلم أنه سلف مني إليك سوء، أوجب هذا.
وبعد، فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر، فتنبت وتعود، والسيف يقطع به اللحم، والعظم، فيندمل ويلتئم، واللسان لا يندمل جُرحه، ولا يلتئم ما قطع.
واعلم أن النَّصل من النُّشَّابة، يغيب في الجوف، ثم يُنزع، وأشباه النصال من القول، إذا وصلت إلى القلب، لم تُنزع، ولم تُخرَج. ولكل حريق مطفئٌ، فللنار الماء، وللسم الدواء، وللحزن الصبر، وللعشق الوصال، ونار الحقد لا تخبو أبداً. وإنكم معشر الغربان، قد غرستم بيننا وبينكم، شجرة عداوةٍ وحقدٍ، هي باقيةٌ ما بقيَ الدهر.
فتكلم بذلك طويلا، ثم انصرف غضبان موتورا، ففكر الغراب في أمره، فعرف أنه قد اسرف فيما نطق به، وندم على ما فرط منه، وقال في نفسه: ليتني لم أخبرها بهذه الحال، ولا أعلمتها بهذا الأمر.
لقد خرقِتُ (جَهْلت) فيما كان من قولي، الذي جلبت به العداوةَ على نفسي وقومي، ولم أكن أحقَّ الطير بهذه المقالة، ولا أعناها بأمر ملكها، ولعلَّ كثيرا منها قد رأى الذي رأيت، وعلم أضعاف ما علمت، فمنعها من ذلك الاتقاء، لما لم أَتَوَقَّه، والنظر فيما لم أنظر فيه من حذار العواقب.
وإن الكلام، الذي يرمي به صاحبه، في غير حينه ومكانه وموضعه، فهو، وان مدح في اول امره، مذموما في آخره، ويقبح عليه، ثم لا سيما إذا كان الكلام مواجهة، يلقى منه سامعه وقائله المكروه، مما يورث الحقد والضغينة، فلا ينبغي لأشباه هذا الكلام، أن تسمى كلاماً، ولكن سهاماً وسُمّا.
والعاقل، وإن كان واثقاً بقوته، وفضله، وقوله، لا يحمله ذلك على أن يجني على نفسه عداوة، اتكالا على ما عنده من ذلك، كمَا أنَّ الرَّجل، وإن كان عنده الترياق والأدوية، لا ينبغي له أن يشرب السمّ، اتكالًا على ما عنده من ذلك، والمناهزة بالعلم، أفضل من العالم بالقول، فإنَّ صاحب العمل بيِّنٌ فضلُه عند الخبرة وعاقبة الأمر، وصاحب القول، وإن هو أحسن وأعجَب ببديهته، لم يُحمد ذلك منه بالعمل.
وأنا صاحب القول، الذي لا عاقبة له محمودة، أوليس من سفهي اجترائي على التكلم في الأمر الجسيم، لا أستشير فيه أحدا؟ ومن لم يستشر النصحاء الألبَّاء، وعمل برأيه، من غير تكرار النظر والروية، لم يغتبط بمواقع رأيه. فما كان أغناني عما كسبت يومي هذا، وما وقعت فيه من الهم، وعاتب الغراب نفسه بهذا، وذهب.
قال الخامس: فهذا أصل الحقد، والعداوة، التي بيننا وبين البوم، فاعمل رأيك.
قال الملك: قد فهمتُ هذا، فخذ بنا فيما نحن أحوج إليه اليوم، وأشِر علينا برأيك، الذي ترى أن نَعْمَل به، فيما بيننا وبين البوم.
قال الغراب: قد استشرتني، في أمر جوابك منّي عنه، في بعضه علانية، وفي بعضه سر، وإني قد كنت أعلمتك لأي شيء لا ينبغي لنا ان نقاتل البوم، وللأسرار منازل، منها ما يدخل فيه الرهط، ومنها ما يستعان فيه بالقوم، ومنها ما يدخل فيه الرجلان، ولست أرى لهذا السر، على قدر منزلته، أن يشترك فيه إلا أربع آذانٍ ولسانان، ومن حصَّن سرَّه، فإنه من تحصينه إياه في أحد أمرين، إما ظفَر بما يريد، وإمَّا سلامة من عيبه وضره.
وإنَّ العاقل، لا يأمن عدوَّه على كل حال، إن كان بعيدًا، لم يأمن سطوته ومعاودته، وإن كان متكشِّفًا لم يأمن استطراده، وإن كان قريبًا لم يأمن مواثبته (المسارعة والمبادرة)، وإن كان وحيدًا لم يأمن مكره.
وإن الفضل، وُكِّل بالعاقل، المستمع، من ذوي العقول، وإذا كان ليس بعالم، كانت مشاورته جهالا، وننظر، لعلنا نقدر ان نحتال ما يكون فيه الفرج، إن شاء الله تعالى، فإنه ربَّ قوم قد احتالوا بآرائهم، حتى ظفروا بما أرادوا، ومن ذلك، حديث الجماعة، الذين احتالوا بمكرهم وخديعتهم، حتى شككوا الناسك في أمره، وهو به مستيقن.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
٥ - مثل: الناسك الذي شك في أمره
قال الغراب: زعموا أنَّ ناسكا، اشترى ماعزا، ليجعله قُربانًا، فانطلق به يقودُه، فبصر به قوم من المكرة، فائتمروا بينهم ليخدعوه عنه.
فعرض له أحدهم فقال له: أيها الناسك، ما هذا الكلب الذي معك؟
ثم عرض له الآخر، فقال لصاحبه: إني لأظن أنَّ هذا الرجل، الذي عليه لباس النسَّاك، ليس بناسك، فإن الناسك لا يقود الكلاب.
ثم عرض له آخر فقال: أنت تريد الصيد بهذا الكلب؟
فلم يزالوا على هذا، وأشباهه، حتى شككوه، وظن أنه كلب، وقال: لقد خدعني الذي باعه لي. فأطلقه من يده، فأخذه الجماعة المحتالون، ومضوا به.
وإنما ضربت لك هذا المثل، لما أرجو أن نصيب من حاجتنا، بالرفق والحيلة. فأنا أرى أن يغضب عليَّ الملك، فيأمر بي على رءوس جنده، فأُضرَب حتى أتخضب بالدم، وينتف ريشي وذنبي، ثم أطرح في أصل هذه الشجرة، ويرتحل الملك هو وجنوده، إلى مكان كذا، فأرجو أنّي أصبر، وأطلع على أحوالهم، ومواضع تحصينهم وأبوابهم، فأخادعهم، وآتي إليكم لنهجم عليهم، وننل منهم غرضنا، إن شاء الله تعالى.
قال ملك الغربان في نفسه: أفعل ذلك، وآخذ في رأيه. ففعل به ذلك، وذهب بغربانه إلى المكان الذي وصف له.
فلما كان اليل، جاءت البوم لتهلك الغربان، فلم تجدها، ولم تفطُن بالغراب في أصل الشجرة، فهمت بالانصراف، ففكر الغراب في أمره، فجعل يئِنّ ويهمِس، حتى سمعه بعض البوم، فلمَّا رأينه، أخبرن به ملِكهنّ، فعَمد نحوه في بومات، يسأله عن الغربان.
قال الغراب: أنا فلان بن فلان، وانت ترى ما نزل بي من البلاء الذي ارتكبته الغربان، فإنهن لم يفعلن ذلك، الا وهن يظننن ان نفسي قد تلفت، ولست أدرى اين هربت، ولا اعلم بمكانهن، الذي انتهين اليه.
قال ملك البوم: هذا مشورة ملك الغربان، وصاحبُ رأيه، فسلوه بأيِّ ذنبٍ صُنِع به هذا؟
قال الغراب: سفهُ رأيي فَعل بي ما ترى.
قال الملك: وما ذلك السفه؟
قال الغراب: انكن لما أوقعتن أذى بالغربان، واصبتن منهن ثم انصرفتن، دعانا ملكنا فقال اشيروا علي.
فكان رأي جماعة قتالكم، وكنت من الملك بمنزلة وبمكان، وأمرته بالرفق، وقلت له: انكن الى الضعف والعجز ما أنتن، وان البوم اهل نبالة وبأس، ولا أرى لكم طاقة بقتالهن، ولكنّ الرَّأي لكم أن تطلبوا الصّلح، وتؤدوا الخراج، والبعوضة تريد اختلاس النار، ولا تتقيها، فتحترق منها.
فقال الملك: نراك واطأت عدونا.
فقلت: إنَّهنَّ أشدُّ بطشا، وأجرأ قلوبا، ومن قاتل من لا يقوى عليه، فقد غرر بنفسه، وكان خليقاً أن يسلب صحيح ما أوتى من الخير.
فقال الملك: الاستجداء!؟ إن ذلك العار الشديد، وإن المرء العالم، إذا كانت عيشته في حسن وذكر، وإن كانت قصيرة، خير من طول في عار، بل مالأتَ (ساعَدْت وعاوَنْت) البوم علينا وغششتنا.
وغضب من قولي، ورد رأي ونصيحتي، وعذبني بهذا العذاب، ولا علم لي بهن بعد ذلك.
فلما سمع ملك البوم ما قال الغراب، أرسل إلى أهل مشورته فقال لأحدهم: ما ترى في هذا الغراب؟
قال: لستُ أرى أن نناظر هذا، وليس لك في أمره نظرٌ، إلَّا المُعاجلة بالقتل، فإنَّ هذا أفضل عُدد (ما يُعَدُّ لأمرٍ ما) الغربان، وفي قتله لنا فتح عظيم، وراحة من مكيدته، وفقده على الغربان شديد، وقد كان يُقال: مَن استمكن من الأمر الجسيم۔ فأضاعه، لم يقدر عليه ثانيةً، ومَن التمس فرصة العمل، وأمكنته، ثم غفل عنها، فاته الأمر، ولم تَعُد إليه الفرصة، ومَن وجد عدوَّه ضعيفًا، فلم يستَرِحْ منه، أصابته النَّدامة حين يقوى العدوّ ويستعدّ، فلا يقدر عليه.
قال الملك لآخر من وزرائه: ما ترى أنت في هذا الغراب؟
قال: أرى ألا تقتله، ولكن استبقيه، فانه قد لقي من أصحابه ما لقي، وقد ضيعوه، وركبوا منه، ما لعله يعطفه على النصيحة لك، فيكون في ذلك دليل لك على عوراتهن، ومعينا على ما فيه هلاكهن، كالتاجر الذي عطَّف عليه السارقُ امرأتَه، بأمر لم يتعمده.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الوزير: زعموا أنَّ تاجرًا كان كثير المال، وكانت امرأته حسناء، ذات جمال، وكانت له مُبغضة، لا تمكِّنه من نفسها، وكان لها عاشقًا، لا يزيده ذلك إلَّا حُبًّا لها.
ثم إنَّ سارقا، أتى بيت التاجر ليلة، فلمَّا دخل البيت، وافق التاجر نائما، وامرأته مُستيقظة، فذُعِرت من السارق، ووثبت إلى التاجر فالتزمته.
فاستيقظ التاجر وقال: ليت شعري، ما بدا لك فيّ؟
فلما رفع رأسه، وبَصُر بالسارق، عرف أن الخشية منه، هو الذي دعاها الى ما صنعت، فقال: أيها اللص، قد أتيت الي ما شكره جدير، اذ وفقت ما انا له محب، وهو لي مباعد، فخذ من متاع البيت ما بدا لك.
ثم إنَّ الملك سأل الثالث من وزرائه عن رأيه في الغراب، فقال الثالث: إنَّ من إحكام تمكُّن الرجل من أعدائه، أن يستدخل منهم أعوانًا على الباقين، والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضاً ظفراً حسناً، ويرى اشتغال بعض أعدائه ببعض، خلاصاً لنفسه منهم، ونجاة، كنجاة الناسك من اللص والشيطان، حين اختلفا عليه.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
٧ - مثل: الناسك، واللص، والشيطان
قال الوزير: زعموا أن ناسكًا أصاب مرة، بقرة حلوبا، فانطلق بها يقودها إلى منزله، وتبعه لِصّ، فحدَّث نفسه بسرقتها، واتبعه شيطان يريد اختطافه.
فقال الشيطان للص: من أنت؟
قال اللص: أنا لص، أريد أن أسرق البقرة من الناسك إذا نام، فمن أنت؟
قال الشيطان: أنا الشيطان، أريد اختطافه إذا نام، وأذهب به.
فاتفقا على هذه الحال، حتى انتهيا إلى منزل الناسك مُمسيينِ، فدخل الناسك، ودخلا خلفه، وأدخل بقرته، وربطها في زاوية المنزل، ثم تعشَّى ونام.
فأقبل اللص والشيطان، يأتمران فيه، واختلفا على من يبدأ أولاً، فقال الشيطان للص: إن أنت بدأت بأخذ البقرة، فربما استيقظ وصاح، واجتمع الناس، فلا أقدر على أخذه، فأنظرني ريثما آخذه، ثم عليك بالبقرة.
فأشفق اللص، إن بدأ الشيطان باختطافه، فربما استيقظ، فلا يقدر على أخذ البقرة، فقال: لا، بل انتظر حتى أخرِج البقرة، ثم عليك بالرجل.
فأبى كل واحدٍ منهما على صاحبه، فلم يزالا في اختلاف، حتى نادى اللص الناسك، أنِ انْتَبِه، فهذا الشيطان يُريد أن يأخذك، ونادى الشيطان الناسك: أيها الناسك، إنَّ هذا اللص يريد أن يسرق بقرتك.
فانتبه الناسك وجيرانه لصوتهما، وهرب الخبيثان.
فلمَّا فرغ الثالث من كلامه، قال الأول من أهل مشورة البوم، الذي أشار بقتل الغراب: أظن أن الغراب قد خدعكنَ، ووقع كلامه في نفس الغبي منكنّ موقعه، وغركم قوله وتضرُّعه، حتى اطمأننتم إليه، واسترسلتم، فتردن أن تضعنّ الرأي في غير موضعه، فمهلاً مهلاً أيها الملك، فإني أخاف عاقبة كينونته بيننا، وانظُر نظَرَ ذوي اللبّ، الذين يعرفون أمورهم وأمور عدوِّهم، ولا يثنِكنَّ عن رأيِكنّ، فتكونوا بما تسمعون، أشدّ تصديقًا منكم بما تعلمون، كالنَّجار الذي كذَّب ما رأى، وصدَّق بما سمع، فاغترَّ وانخدع.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
٨ - مثل: النَّجار الذي كذَّب ما رأى، وصدَّق بما سمع
قال الوزير: زعموا أنه كان رجل نجار، وكان له امرأة يحبها، فعلقها جار له، وقيل له في معناه، ففطن فقال: لست أصدق شيئا عليها، حتى أعاينه.
فأحبَّ أن يتيقن ذلك، ليقابل امرأته بحق، فقال لها: إني أريد الذهاب إلى قرية، هي منَّا على فراسخ، لأعمل هنالك عملًا لبعض الأشراف، وإني غائبٌ عنكِ أياما، فأعِدِّي لي زادا.
ففرحت المرأة بذلك، وأعدَّت له زادا، فلمَّا أمسى قال لها: استوثِقي من باب الدار، واحفظي بيتك حتى أرجع إليك.
فخرج وهي تنظر إليه، حتى جاوز الباب، ثم دخل من مكانٍ خفيّ، من منزل جارٍ له، واحتال حتى كمن تحت سريره.
وأرسلت المرأة إلى خليلها، أن ائتِنا، فإنَّ الرجل النجَّار قد خرج في حاجة له، يغيبُ فيها أياما، فاتاها، وخلا بها على الفراش، ليلا طويلا، فوق زوجها المخدوع.
ثم إنَّ النجَّار غلبه النعاس فنام، فخرجت رجله من تحت السرير، فرأتها امرأته، فأيقنت بالشرّ، فسارَّت خليلها، أن ارفَع صوتَك فسلني: أيما أحبُّ إليكِ، أنا أو زوجك، وإذا امتنعت فألِحّ عليَّ.
فسألها عما قالت عليه، فردَّت عليه: يا خليلي، ما حاجتك إلى هذه المسألة؟
فألحَّ عليها كما أوصته، فقالت له: يا خليلي، ما ضرك الى هذه المسألة، أظننت أن أحدا من الناس أحب إليّ من زوجي، أو أكرم علي، ألست تعلم، أَنَّا معشَرَ النِّساء، إنَّما نُريد الأخِلَّاء لقضاء الشهوة، ولسنا نلتفت إلى أحسابهم، ولا أنسابهم، ولا إلى ما يتغير من أمورهم، فإذا قضينا من أحدهم أرَبا، كان كغيره من الناس، وأمَّا الزَّوج، فإنه بمنزلة الوالد والاخ، وأفضل، فكده وسعيه، إنما هو لها. فقبح الله امرأة، لا يكون زوجُها عندها، كعِدل نفسها، أو أحبَّ إليها منها، ولا متعتك بعد هذا بلذة.
فلمَّا سمع النجار هذه المقالة، قال: إني أرى امرأتي شديدة الحب لي، ووثِقَ من زوجته بالمودَّة، ورق لها.
فلما اسحرت، أخرجت المرأة صديقها، وتناومت على السرير، ولما أصبحت، خرج زوجها من تحت السرير، فقعد عند رأسها يروح عليها، فلما انتبهت، قال لها: يا حبيبة قلبي نامي، فإنك بتِّ الليلة ساهرة، ولولا كراهة ما يسوئك، لكان بيني وبين ذلك الرجل، صخب وأمر شديد.
وانما ضربت لك هذا المثل، بإرادة أن لا تكون ذلك النجار، الذي كذب بما رأى، وصدق ما سمع، لهواه إمرأته، وجهله، وقلة عقله، فالغراب ليس أهل أن يصدق.
واعلموا، أنَّ كثيرا من العدو، لا يستطيع ضررَ عدوِّه بالمُباعدة، حتى يلتمسه بالمقاربة والمسامحة، وإني لم أخَفِ الغربان حتى رأيت هذا الغراب، ولعل، هو لنا، حلول بلاء، ووقوع محظور، والرأي للملك قتله، وتعجيل ذلك.
فلم يلتفت ملك البوم إلى قوله، ثم إنَّه أمر، أن يُحمَل الغراب إلى مجمع جنده ومكانهن، فيوصَى به خيرا، ويُكرَم، ويُحسَن إليه.
فقال الوزير المشير بقتله: إذا لم يَقتُل الملكُ هذا الغراب، فلتكنْ منزلتُه منكم، منزلةَ العدوّ، المخوف المحترَس منه، واقصه عن نفسك وجندك، فإنَّه عالِم دهيّ، ذو مكر وخدائع، ولا جاء إلينا إلَّا لما يُصلحه، ويُفسدنا.
ثم إن الغراب قال ذات يوم للملك، وعنده جماعة من البوم، وفيهن الوزير الذي أشار بقتله: أيها الملك، قد لقيت من الغربان ما علمتم، وأردنا قتلي، فحقد ما فعلن بي، في قلبي، غير ذاهب، ولا تطب نفسي حتى أرى حرابكن لهن هلاكا، ولا يستريح قلبي إلا بأخذي بثأري منهن، وأدعو ربي أن يحولني بوماً، فأكون أشد عداوة، وأقوى بأساً عل الغربان، لعلي أنتقم منهن.
قال البوم الذي كان يُشير بقتله: أرأيت جوهرك وطباعك متغيرة؟ أليست أخلاقك تدور معك حيثما درت، وتعود إلى أصلك وطباعك، كالفأرة، التي وجدت من الأزواج، الشمس، والريح، والسحاب، والجبل، فلم يقع اختيارها إلا على الجرذ، وتركت ذلك كلَّه.
فلم يلتفت ملك البوم، ولا غيره منهنَّ، إلى ذلك القول، ولم يزددن له إلَّا كرامة، حتى نبت ريشُه، ورجعت إليه قوته، وعرف أمر البوم والحيلة لهن، فطار مستخفيا، حتى أتى جماعة الغربان، بما رأى وسمع، فقال للملك: إني قد فرغت مما كنت أريد، وإنما بَقي ما قِبَلك وقِبلَ أصحابك.
قال الغربان وملكهم: نحن متأهبون مستبشرون.
قال الغراب: إن البوم بمكان كذا وكذا، وهنَّ بالنَّهار يجتمعن في مغار في الجبل، والحطب هنالك كثير.
فليحمل كل غراب منكم ما استطاع منه بمنقاره ورجليه، إلى ذلك النقب، وأنا آتيكم بالنار، ففي ذلك الموضع راعي غنَم، وأنا مصيبٌ منه نارًا فألقيها في الحطب.
وتعاونوا أنتم ضربًا بأجنحتكم، أي نفخًا وترويحًا للنار، حتى تضطرم وتتأجج، فما خرج من البوم احترق بالنار، وما بقيَ مات خنقًا بالدخان.
ففعلوا ذلك، فهلك جميع البوم، ورجع الغربان إلى أوطانهن آمنات.
ثم إن ملك الغربان، قال لذلك الغراب بعد أيام: كيف صبرت على صحبة البوم، فإنه يقال، إن لدع النار، أيسر للأخيار من صحبة الأشرار الفجرة، والكينونة معهم؟
قال الغراب: إنَّ ذلك لعلى ما وصفت أيها الملك، ولكن المرء اللبيب، إذا كان بين أظهر عدوه، وهو يريد من الامر ما يرجو به الظفر عليهم، والقدرة على هلاكهم، يصبر على ما يحل به من البلاء، ويصل إليه من الأذى، واحتمل أقاويلهم، ونطق بأهوائهم، ولم تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه، ولم يجد لذلك مساءة، حتى يبلغ حاجته، فيغتبط بخاتمة أمره، وعاقبة صبره خيرا.
قال الملك: لقد احتملت مشقّة شديدة، في تصنعك للبوم، وتضرعك لهنّ.
قال الغراب: كان اعتماد ذلك كله، وصبري عليه، للذي رجوت من الفرج فيه، وإنه يصبر من احتمل مشقة يرجو فيها منفعة، كما صبر الأسْود، على حَمل الضفدَع.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الغراب: زعموا أنَّ أسْود (حيَّة عظيمة، سوداء اللون)، كَبِر وهرِم، ولم يستطِع الصيد، فدبَّ مُتحاملًا حتى انتهى إلى غديرٍ كثيرِ الضفادع، كان يأتيه فيتصيد من ضفادعه، فوقع قريبا من العين، شبيها بالكئيبِ الحزين.
فقال له أحد الضفادع: ما شأنك أيها الأسود، نراك مهموما؟
قال الأسود: ومالي لا أكون حزينا، وإنما كان خيرُ عيشي، مما كنت أصيد من هذه الضفادع، فابتُليت ببلاء، فحُرِّمت عليَّ الضفادع، حتى إني لو أصبت بعضها، لم أجترئ على أكله.
فانطلق الضفدع إلى ملك الضفادع، فبشره بما سمع من الأسود، فأتى الملك إلى الأسْود، وسأله عن ذلك.
قال الأسود: إني لا أستطيع أن آخذ من الضفادع شيئًا، إلَّا ما يتصدَّق به الملك عليَّ.
فسرَّ الملك ما سمعه، وقال: ولِمَ ذلك؟ وكيف كان أمرك هذا؟
قال الأسود: سعيت منذ أيام، في إثر ضِفدع لآخذه، فاضطررته إلى بيت ناسك، فدخل البيت ودخلتُ في أثره، وفي البيت ابن الناسك، فأصبت إصبَع الغلام، وظننته الضفدع، فلدغته فمات.
وخرجت هاربا، فتبعني الناسك، ودعا عليَّ، ولعنني وقال: كما قتلت هذا الغلام ظلمًا له، أدعو عليك أن تذلّ وتخزَى، وتكون مركباً لملك الضفادع، فلا تستطيع أخذها، ولا أكل شيء منها، إلا ما يتصدق به عليك ملكها.
فأتيت إليك لتركبني، مقراً بذلك، راضياً به.
فرغب ملك الضفادع بركوب الأسود، وظن أن ذلك فخراً له، وشرفا، ورفعة، فركِب الأسْود أياما، واستطاب له ذلك.
فقال له الأسود: قد علمت أيها الملك، أني محروم ملعون، ولا أقدر على الصيد، إلَّا ما تصدقت به عليَّ من الضفادع، فاجعل لي رزقًا أعيش به.
قال ملك الضفادع في نفسه: إذا كان الأسود مركبا لي، كان أعظم لسلطاني، وأفخم لملكي، فأمر له بضفدعين، يؤخذان في كل يوم، ويدفعان إليه.
فعاش الأسود بذلك، ولم يضره خضوعه للعدو الذليل، بل انتفع بذلك، وصار له رزقاً ومعيشة، وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه، التماساً لهذا النفع العظيم، الذي اجتمع لنا فيه الأمن، والظفر، وهلاك العدو، والراحة منه.
قال الملك: كيف كانت سيرةُ ملك البوم في جنده؟
قال الغراب: سيرة بطَر، وأشَر، وفخر وخيلاء، وعجب وضعف رأي.
قال الملك: أخبرني عن عقول البوم، علمهن ورأيهن.
قال الغراب: ما كان عندهن من ذلك شيئا، إلا البوم الذي كان يحثهن على قتلي، فلم يذكرن أني قد كنت ذا منزلة في الغربان، وأني أعد من ذوي الرأي، ولم يتخوفن مكري وحيلتي، ولا قبلنّ من الناصح الشفيق، ولا أخفين دوني أسرارهن، وقد قال العلماء: ينبغي للملك أن يحصن أموره، ولا يطلع أحداً على مواضع سره، وقد قيل إنه ينبغي للمرء أن يحترس من كل شيء، حتى الماء.
قال الملك: وما رأيت منه مما استدللت به على عقله؟
قال الغراب: لِخَلَّتين، إحداهما رأيُه في قتلي، وتخويفهن من الهلكة والمضرة، والأخرى، أنه لم يكن يكتُم صاحبَه نصيحة، وإن استثقلها، ولم يكن كلامه مع هاتين، كلامَ خُرقٍ ومكابرة، ولكن كان كلامَ رِفق ولين، حتى رُبَّما أخبر ملكه بعيبه، ولا يصرح له، ولا يغضبه، إنما يَضرب له الأمثال، ويحدِّثه عن عيبِ غيره، فيعرفُ به عيبه، ومن قلة عقولهن، لا يسمعن منه، ولا يلتفتن إلى قوله، ولا يتفكرن فيه، فكن أضعف شيء رأياً.
قال الملك: ما أهلك البوم إلا ضعف رأي الملك، وموافقته وزراء السوء.
قال الغراب: صدقت أيها الملك، فإنه قلما ظفر أحد بسلطان، فلم يبطر، وقلَّ مَن أكثر من الطعام، فلم يسقَم، وقلَّ من ابتُلي بوزراء السوء، إلَّا وقع في المهالك، وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر، والصلَف (التَّكبُّر والعُجب)، في الثناء الحسن، ولا يطمعَنّ الخبّ في كثرة الصديق، ولا السيئ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الملِك المتهاون بالأمور، الضعيف الوزراء، في بقاءِ مُلكه.
قال الملك: وجدت صرعة المكر، أشد استئصالاً للعدو من صرعة المكابرة، فإن النار، لا تزيد إذا أصابت الشجرة، على أن تحرق ما فوق الأرض منها، والماء ببرده، يستأصل ما تحت الأرض منها، ويقال، في ثلاثة أشياء لا يُستقَلّ، المرض، والعداوة، والدين.
قال الغراب: كلُّ ما كان في ذلك، فبرأي الملك، وسعادة جدّه، فإنه قد كان يُقال: إذا طلب اثنان أمرا، ظفر به أفضلُهما مُروءة، فإن استويا في المروءة، فأفضلهما أعوانا، فإن استويا في ذلك، فأسعدُهما جَدّا.
وكان يقال: من حارب الملك الحكيم الأريب، الذي لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، كان هو داعي الحتف إلى نفسه، ولا سيما إذا كان مثلك أيها الملك، العالم بفروض الأعمال، ومواضع الشدة واللين والفُرَص، والغضب والرضا، والمعاجلة والأناة، الناظر في أمر يومه وغده، وعواقب أعماله.
قال الملك: بل بنصيحتك، ورأيك، وعقلك كان هذا، فإن الرجل الواحد العاقل، أبلغ في هلاك العدو، من كثير العدد من الجنود، وإنَّ من أعجب أمرك عندي، طول لبثك عند البوم، وأنت تسمع الغيظ وتراه، ثم لا تسقطُ عندهم بكلمة.
قال الغراب: لم أزل متمسكاً بأدبك، أيها الملك، أصحب البعيد والقريب، بالرفق واللين، والمتابعة والمواتاة.
قال الملك: وجدتك صاحب عمل، ووجدت غيرك من الوزراء، أصحاب أقاويل، ولقد منَّ الله بك علينا مِنَّة عظيمة، لم نكن نجدُ قبلها لذة الطعام، والنوم، والقرار، وكان يقال: لا يجد السقيم، لذة الطعام والنوم حتى يبرأ، ولا الرجل الشَّرِه، الذي أطمعه السلطان في مال أو ولاية، حتى يُنجَز له ذلك، ولا الرجل الذي قد ألح عليه عدوه، وهو يخافه صباحاً ومساء، حتى يستريح منه، وكان يُقال: مَن أقلعت عنه الحُمَّى، استراح بَدَنه وقلبه، ومَن وُضِع عنه الحِمل الثقيل، استراح مَنكبه، ومَن أمِن عدوَّه ثلج صدره.
قال الغراب: أسأل الله الذي أهلك عدوك، أن يمتعك بسلطانك، وأن يجعل في ذلك صلاح رعيتك، ويشركهم في قرة العين بملكك.
ثم قال الفيلسوف للملك، كان حكيماً أريباً (ذا دهاء وفطنة)، صنع الغربان بالبوم، قلما يرى مثله في علو الهمة، وجودة الرأي، وفي احتراز الأعداء، والحذر، وقلة الثقة والطمأنينة لهم، فإنه شر الصناعات، وأخبث الذخائر الاستكثار من الأصدقاء، والرغبة في احتراز مودتهم، وإن العدو المباين بالطبع، كعداوة الماء النار، لا ينبغي أن يغتر به، وإن هو أظهر توددا وتضرعا.