قال الملك للفيلسوف: قد فهمت ما ذكرت من امر أهل الثارات والاحقاد، الذين لا ينبغي لبعضهم أن يثق ببعض، فاضرب لي مثل الملوك فيما بينهم وبين قرابينهم، وفي مراجعة من يراجع منهم، بعد عقوبة أو جفوة، تكون عن ذنب، أو ظلم.
قال الفيلسوف: إنَّ الملك، لو كان لا يراجع مَن أصابته جفوة أو عقوبة، عن ذنب أو عن غير ذنب، ظلم أولم يظلم، لأضر ذلك بالأمور والأعمال، ولكن الملك حقيقٌ أن ينظر في حال من ابُتليَ بشيءٍ من ذلك، ويخبر ما عنده من الغَناء الذي يرجو منه النفع، فإنْ كَانَ ممن يُستعان به، ويوثق برأيه وأمانته، كان الملك حقيقًا بالحرص على مراجعته، فإن الملك لا يستطاع إلا مع ذوي الرأي، وهم الوزراء والأعوان، ولا يُنتفع بالوزراء والأعوان إلَّا بالمودَّة والنصيحة، ولا مودَّةَ ولا نصيحةَ إلَّا مع أصالة الرأي والعفاف، والمثل في ذلك مثل الأسد وابن آوى.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض ابن آوى، وكان متألِّهًا، زاهدا متعفِّفا، وكان مع ذئاب وثعالب وبنات آوى، ولم يكن يصنع ما يصنعون، ولا يُغِير كما يُغِيرون، ولا يهرق دما ولا يأكل لحما.
فخاصمته تلك السباع، وقُلنَ له: لا نرضى بسيرتك، ولا برأيك الذي أنت عليه، مع أن تألُّهك لا يُغني عنك شيئا، وأنت لا تستطيع أن تكون إلَّا كأحدنا، تسعى معنا، وتفعل فعلنا، فلأي شيء كفك عن الدماء، وعن أكل اللحم؟
قال ابن آوى: إنَّ صحبتي إياكم، لا تؤثِّمني إن لم أؤثِّم نفسي، لأنَّ الآثام ليست من قِبَل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قبل القلوب والأعمال.
ولو كان صاحب المكان الصالح، يكون عمله فيه صالحاً، وصاحب المكان السوء يكون صاحبه فيه مسيئا، إذن مَن كان في المسجد لم يأثم، ومن استحيا (تَرَكَ حيّاً) في معارك القتال اثم.
وإني إنما صحبتكن بنفسي، ولم أصحبكن بقولي، وقلبي وأعمالي، لأني أعرف ثمرة الأعمال، فلزمت حالي.
وثبت ابن آوى على حاله تلك، واشتهر بالتألُّه والنسك، حتى بلغ من الصدق، والعفاف، والأمانة، أفضلَ ما بلغ أحدٌ من النسَّاك، وبلغ ذلك أسدا كان ملكَ السباع بتلك الناحية، فرغب في استخدامه لما بلغه عنه من العفاف، والنزاهة، والزهد والأمانة، فأرسل إليه يستدعيه.
فلما حضر ابن آوى، كلمه الاسد وفتَّشه، فوجده في جميع الأمور وفق غرضه، ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته، وقال له: إنَّ مُلكي عظيم، وأعمالي كثيرة، وأنا إلى الأعوان محتاج، وقد بلغني عنك نُبل، وعفاف، وعقل وأدب ودين، ثم قدمتَ عليَّ فازددتُ بك إعجابا، وفيك رغبة، وأنا مُوَلِّيك من عملي جسيمًا، ورافعك إليّ منزلة، وجاعلٌ لك منِّي خاصة ومكانا.
قال ابن آوى: إنَّ الملوك أحقّ باختيار الأعوان، فيما يهتمُّون به من أعمالهم وأمورهم، مِن غير أن يُكرِهوا على ذلك أحدًا، فإن المكره لا يستطيع البالغة (اجْتَهَدَ) في العمل، وإني لعمل السلطان كاره، وليس لي به تجربة، ولا بأمر السلطان رفق، وأنت ملك السباع، وعندك من أجناس الوحوش عدد كثير، فيهم أهل نبل وقوة، ولهم على العمل حرص، وعندهم به وبالسلطان رفق، فإن استعملتهم أغنوا عنك، واغتبطوا لأنفسهم بما أصابهم من ذلك، وإن أنت استغنيت عنهم اشطوا (ظلم وجار).
قال الأسد: دع عنك هذا، فإني غير مُعفيك من الولاية والعمل.
قال ابن آوى: إنما يستطيع عمل، وخدمة، وصحبةَ السلطان، رجلان، لست بواحد منهما، إما فاجر مصانع، ينال حاجته بفجوره، ويسلم بمصانعته، وإمَّا رجلٌ مَهين، مغفَّل، لا يحسده أحد.
فأمَّا من أراد أن يصحب السلطان بالصدق، والنصيحة، والعفاف، لا يخلط ذلك بمصانعة، فحينئذ قلَّما يسلم، ويستقيم له صحبتهم، لأنه يجمع عليه عدو السلطان، وصديقه، بالعداوة والحسد.
أما الصديق، فينافسه في منزلته، ويبغي عليه فيها، ويعاديه لأجلها، وأما عدو السلطان، فيضطغن عليه بنصيحته لسلطانه، وغَنائه عنه، فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان، فقد تعرض للهلاك.
قال الأسد: لا يكونَنَّ بغيُ أصحابي عليك، وحسدُهم لك، بينك وبين ما يعرض في نفسك، فأنت معي، وإني كافيك ذلك، وبالغٌ بك في الكرامة والإحسان، غاية همَّتك.
قال ابن آوى: إن كان الملك يريد الإحسان بي، فليدَعني أعيش في هذه البرية، آمنا من أن أُحسَد، فإني قليل الهمّ، راضٍ بمعيشتي من الماء والحشيش، وإني قد علمت أن صاحب السلطان، يصل اليه من الأذى والخوف، في ساعة واحدة، ما لا يصل إلى غيره في طول عمره، وإن قليلاً من العيش في أمن وطمأنينة، خير من كثير من العيش، في خوف ونصب.
قال الأسد: قد سمعتُ كلامك، فلا تخافنَّ شيئًا مما أراك تذكر، فإنه لا بدَّ من الاستعانة بك.
قال ابن آوى: أما إذا أبى الملك إلا ذلك، فليجعل لي عهداً، إن بغى عليَّ أحدٌ عنده ممن هو فوقي، خوفًا على منزلته، أو ممن هو دوني، لينازعني منزلتي، فكان منه نميمة، فذَكَر عند الملك منهم ذاكرٌ بلسانه، أو بلسانِ غيره، ما يُريد به تحميل الملك عليَّ، ألَّا يعجَل عليَّ، وأن يتثبَّت فيما يُرفع إليه، ويُذكر له من ذلك، ويفحص عنه ثم يقضي فيه بما بدا له.
فإذا وثقت منه بذلك، أعنته بنفسي فيما يحب، وعملت له فيما أولاني بنصيحة واجتهاد، وحرصت على ألا أجعل له على نفسي سبيلا.
قال الأسد: لك ذلك عليّ، وزيادة.
ثم ولاه خزائنه، واختصَّه دون أصحابه، بالرأي، والمشورة، والمنزلة، وازداد به على الأيام عجبا، فزاده كرامةً وعملا، فثقل ذلك على من كان يُطيف بالأسد، من قرابينه، وأصحابه وعُمَّاله، وغاظهم وساءهم، فأجمعوا كيدهم، واتفقوا كلهم على أن يحملوا عليه الأسد.
فلمَّا اجتمعوا على ذلك من كيدهم، دبَّوا ذات يوم للحمٍ كان الأسد استطابه، فعزل منه مقدراً، وأمر بالاحتفاظ به، وأن يرفع في أحصن موضع طعامه، وحملوه إلى بيت ابن آوى، فخبئوه فيه، ولا علم له به.
فلما كان من الغد، ودعا الأسد بغدائه، فقد ذلك اللحم، فالتمسه ولم يجده، وابنُ آوى غائبٌ، والقومُ الذين أرادوا المكر به حضور، ثم إن الملك سأل عن اللحم، وشدد فيه، وفي المسألة عنه، فنظر بعضهم إلى بعض، فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بد لنا من أن نخبر الملك بما يضره وينفعه، وإن شق ذلك على من شقَّ عليه، وإنه بلغني أن ابن آوى، كان ذهب باللحم إلى منزله.
قال الآخر: لا أراه يفعل هذا، ولكن انظروا وفحصوا، فإن معرفة الخلائق شديدة.
قال الآخر: أجَلْ، لعمري ما تكاد السرائر تعرف، وأظنكم إن فحصتم عن هذا، وجدتم اللحم ببيت ابن آوى، وكل شيء يذكر من عيوبه وخيانته، نحن أحق أن نصدقه.
قال الآخر: لئن وجدنا هذا حقاً، فليست بالخيانة فقط، ولكن مع الخيانة كفر النعمة، والجرأةُ على الملك.
قال آخر: لقد أخبرني مخبر عن ابن آوى بأمرٍ عظيم، فما وقع في نفسي حتى سمعت كلامكم.
قال آخر: أنتم أهل العدل والفضل، ولا أستطيع أن أكِذبكم، ولكن يستبين صدق هذا من كذبه، لو قد أرسل الملك إلى بيت ابن آوى، ففتشه.
قال آخر: إن كان الملك مفتشاً منزله فليعجل، فإن عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان.
قال آخر: لئن كان هذا المتألِّه المتخشِّع، الذي يرينا أن عمله عملُ النسَّاك، خان هذه الخيانة، إنَّ ذلك لمن أعجب العجب.
قال آخر: قد علمت أن ابن آوى، لو فُتِّش منزله، واطُّلع على عيوبه وخيانته، سيحتال بمكره حتى يُشبِّه على الملك، فيعذره.
ولم يزالوا بهذا الكلام وأشباهه، حتى وقع ذلك في نفس الأسد، فأمر بابن آوى فحضر، فقال له: أين اللحم الذي أمرتك بالاحتفاظ به؟
قال ابن آوى: دفعته إلى صاحب الطعام، ليقربه إلى الملك.
فدعا الأسد بصاحب الطعام، وكان ممن بايع مع القوم على ابن آوى، فقال: ما دفع إليَّ شيئاً.
فأرسل الأسد أميناً إلى بيت ابن آوى ليفتشه، فوجد فيه ذلك اللحم، فأتى به الأسد.
فدنا من الأسد ذئب، لم يكن تكلم في شيء من ذلك، وكان يظهر أنه من العدول، الذين لا يتكلمون فيما لا يعلمون، حتى يتبين لهم الحق، فقال: أما إذا اطَّلع الملك على خيانة ابن آوى، فلا يعفوَنَّ عنه، فإنه إن عفا عنه، لم يَعُد أحد يُطلع الملك على خيانة خائن، ولا ذنب مذنب.
فأمر الأسد بابن آوى، أن يُخرَج من عنده ويُحتفظ به، فقال عند ذلك بعض جلساء الأسد: إني لأعجب من رأي الملك، ومعرفته بالأمور، كيف يخفى عليه أمر هذا المخادع، ولم يعرف خبثه؟
وقال آخر: فأعجب من هذا، أني لا أراه إلَّا سيصفح عنه، بعد الذي ظهر عليه منه.
ثم إنَّ الأسد، أرسل إلى ابن آوى بعضهم، لينظر ما يكون من عذرِه، فرجع إليه الرسول برسالة كاذبة اخترعها، فغضب الأسد من ذلك، وأمر بابن آوى أن يقتل.
وبلغ ذلك أمَّ الأسد، فعلمت أنَّ الأسد قد عَجِل في أمره، فأرسلت إلى الذين أمروا بقتله أن يؤخروه، ودخلت على ابنها فقالت: يا بني، لأيِّ ذنبٍ أمرت بابن آوى أن يُقتل؟
فأخبرها الأسدُ بالأمر، فقالت: يا بنيَّ عجّلت، وإنما يسلم العاقل من الندامة، بترك العجلة، وبالأناة والتثبت، ولا يزال يجتني ثمرة الندامة، وضعف الرأي، من لم يتثبَّت في الأمور.
وليس أحد أحوج إلى التُّؤدة، والتأني، والتثبت، من الملوك، فإن المرأة بزوجها، والولد بوالديه، والمتعلم بالمعلم، والجند بالقائد، والناسك بالدين، والعامة بالملوك، والملوك بالتقوى، والتقوى بالعقل، والعقل بالتثبت، وقد كنتَ بلوت ابن آوى واختبرته قبل استعانتك به، وتفويضك إليه، فلم تزل عنه راضيا، تزيدك الأيام له استصلاحا، وإليه استرسالا، وفيه رغبة، فأمرت بقتله في طبَق من لحم فقدتَه، وما كان الرأي للملك أن يعجل.
واعلم، أن الملوك إذا وَكَلوا إلى غيرهم، ما ينبغي لهم مباشرته بنفوسهم، وألزموا نفوسهم ما ينبغي لهم تفويضه إلى الكُفاة، ضاعت أُمورهم، ودعوا الفساد إلى أنفسهم.
والملوك يحتاجون إلى النظر في وجوهٍ شتَّى، فإذا آثروا النظر في بعض تلك الوجوه، على بعض، لم يأمنوا خطأ البصر، وزلل الرأي، وأنت أيها الملك، حقيق أن تنظر في خطأ ابن آوى، نظر متثبِّت، لتعلم أنه لم يكن ليتعرّض للحم استودعته إياه.
فافحص عن أمره، فإنه لم يزل ذلك عادةَ الأرذال والأنذالِ؛ حسدُ أهل المروءة، والفضل، واستثقالهم، ولم يزل جهَّال الناس يحسدون علماءهم، ولئامهم يحسدون كِرامهم، وشرارهم يحسدون خِيارهم، ولابن آوى مروءة وفضل، فعسى أعداؤه من أصحابك، فطنوا لموضع ذلك اللحم، فجعلوه في منزله من غير علمٍ منه، فإن الحدأة، إذا كان في رجلها قطعة لحم، اجتمع عليها سائر الطير، والكلب إذا كان معه عظم، اجتمع عليه الكلاب.
وإنَّ خصماء ابن آوى، لم ينظروا فيما يضرُّك، ولم يرغبوا فيه عنك، إلَّا لعاجل منفعة أنفسهم، فانظر أنتَ فيما ينفعك لنفسك، إن لم ينظر لك أحد، ولا تمالئهم على ما يضرّك، فإنَّ أعظم الأشياءِ ضررا على الناس عامةً، وعلى الولاة خاصةً، أمران: أن يُحرَموا صالحَ الأعوان، والوزراء والإخوان، وأن يكون وزراؤهم وإخوانهم، غير ذوي مروءة ولا غناء، ولم يزل غَناء ابنِ آوى عنك عظيما، يؤثر منفعتك على هواه، ويشتري راحتك بنصَبه، ورضاك بسَخَطه، لا يطوي عنك أمرا، ولا يكتمك سرّا، ولا يرى شيئًا احتمله منك، أو بذله لك عظيما، فمن كان من الأصحاب هذه صفته، فإنما منزلتُه منزلةُ الآباء، والأبناء، والإخوان.
فبينما أم الأسد تقص عليه هذه المقالة، إذ دخل عليه بعض ثقاته، فأخبره ببراءة ابن آوى، فقالت أم الأسد: بعد أن اطلع الملك على براءة ابن آوى، إن الملك حقيق ألا يرخّص لمن سعى به، لئلا يتجرؤوا إلى ما هو أعظم من ذلك، فيتخذوك مركبًا، فتعوَّدَهم الاحتمال منك، وتجرِّئهم على ضرِّك وشينك، ولا تغترنَّ بسلطانك عليهم، فيدعوك ذلك إلى استصغارهم والتهاون بأمرهم، فإن الحشيش الضعيف، إذا جُمَع، فُتِل منه الحبل القوي، الذي يوثَق به الفيل المغتلم الشديد، بل عاقبهم عليه، لكي لا يعودوا إلى مثله، فأنه لا ينبغي للعاقل أن يراجع في أمر الكفور للحسنى، الجريء على الغدر، الزاهد في الخير، الذي لا يوقن بالآخرة، وينبغي أن يجزى بعمله.
والأولى لك، أن تعِد لابن آوى منزلته وخاصَّته، ولا يؤيِسنَّك من مُناصحته، ما فرَط إليه منك من الإساءة، فإنَّه ليس كل من أُسيءَ إليه، ينبغي أن يُتَخوَّف غِشُّه، وعداوته، ويؤيَس من نصيحته ومودَّته، لكن ينبغي أن يُنزَل الناسُ في ذلك على اختلاف ما بينهم.
فإنَّ منهم، من إذا ظُفر بقطيعته، كان الرأي أن يُغتنَم ذلك منه، ويُمتنع من معاودته، ومنهم من لا ينبغي تركه وقطعه على كل حال.
فمن عُرِف بالشرارة ولؤم العهد، وقلة الوفاء والشكر، والبعد من الورع والرحمة، والجحود لثواب الآخرة وعقابها، والحسد وإفراط الشره والحرص، والسرعة إلى سوءِ الظن والقطيعة، والإبطاء عن المعاودة والمراجعة، فقطعُه أحزم للرأي.
ومن عُرِف بالصلاح وكرم العهد، والشكر والوفاء والمحبة للناس، والسلامة من الحسد والحقد، والبعد من الأذى، والاحتمال للأصحاب والإخوان، وإن ثقلت عليه منهم المئونة، فهذا حقيقٌ أن تُغتنَم صحبته وصلته، ويُمتنَع من قطيعته.
وقد عرفت ابن آوى وجربته، وأنت حقيق بمواصلته.
فلمَّا ظهر للأسد براءة ابن آوى مما قُرِف به، دعاه، وأعتذر إليه مما كان منه وقال: إني معتذر إليك، وإنَّ الذي كان من الأمر، قد زاد فيما كان من ثقتي بك ثقة، وزاد ظنِّي بك إلى ما كان من حسنه حسنا، فأقم على ما كنتَ عليه من أمرنا وعملنا.
قال ابن آوى: إني قائلٌ لك أيها الملك قولا، فلا يَغلُظنَّ عليك، فإن أحقَّ مَن قَبِل من أهل الحجج الحكَّام، وقد أحدثت أيها الملك سوءَ ظن، وقلة ثقة، لسرعة استماعك لأهل الكذب، وإفسادك الكثير من حُسن البلاء الذي لا تنكره، بالقليل الحقير من القذف الذي لا تعرفه، وتقلبك إليَّ بالبائقة والجائحة قبل التثبُّت والإعذار، فقد صيَّرْتني في حدٍّ لا تثق بي، ولا أثق بك، لما صيَّرت لهم عليَّ من السبُل، لأنه لا ينبغي للمَلك أن يثق بهذه الأصناف: ممن قد عوقب العقوبة الكبيرة عن غير جُرم، ومَن ناله الضرُّ العظيم منهم، ومن عزلوه عن ولاية وعمل كان في يديه، ومن سلبوه أمواله وعقاره، ومن كان في الثقة عندهم فأقصوه وقطعوا طمعه بغير سبب، وذي المروءة والنبل إن نُزِّل غير منزلته، أو قدِّم عليه أكفاؤه ونظراؤه، والمظلوم الطالب للنصَفة غير المنصَف، ومن يرجو المنفعة والصلاح بمضرَّة السلطان، ومن استُقبِل بما يكره في المحافل، وذي الحرص القليل التبرع، والمذنب الراجي للعفو فلم يُعفَ عنه، فهذه الأصناف أعداء الملك وأعدائي، وقد صار لهم السبيل إليَّ، والاستخفاف بي، والجرأة عليَّ.
قال الأسد: ما أخشن كلامك وأغلظه.
قال ابن آوى: أيها الملك، لا يغلظنَّ عليك، ولا يَخْشُن الحق والصدق، إن خفَّ عليك الكذب والباطل، مما حُمِّلت به عليَّ، ولا تحملنَّ جوابي لك، والغلظة في محاورتي إياك، على سفه رأي، وقلَّة بصر بما أقول، ولكن قد قلت ذلك لخصلتين، منهما، أن في القصاص تسلية الضغائن، وإطلاقًا لمنعقد الحقد، وأحببت أن أُخرج ما في نفسي مما وترتني به، ليسلم لك صدري من الضِّغن، ولتخلص لك منه سلامة العتب، ومنهما، أني أحببت أن تكون أنت الحاكم على نفسك، وألا أكون أنا الحاكم عليك، مع أني لم أجترئ على هذه المقالة، حتى استعهدتك من نفسك.
قال الأسد: أوَلم أحسن التثبُّت في أمرك؟
قال ابن آوى: إنما كان التثبُّت من أمِّ الملك، وكان التعجيل بقتلي من قِبَلك أيها الملك، وإني قد تخوَّفت موضعًا حدث، لأهل المكر، يجدون به فيما بيني وبينك مدخلًا.
قال الأسد: وما ذاك الموضع؟
قال ابن آوى: يُقال لك أيها الملك، قد دخلتْ قلب ابن آوى عليك ضغينة، فيما أدخلتَ عليه من التهمة والوحشة، وما أشربت به قلبه من الإشراف على الهَلَكة، فقال كذا وكذا، وهذا سبب مظنون بالملوك، ممن أصابته منهم عقوبة، أو جفوة، أو تغيُّر منزلة، أو عُزِل عن سلطان، أو أُوثِرَ غيره عليه ممن هو دونه، في المنزلة والحال.
قال الأسد: إنك لست ممن يصدَّق عليه القبيح، وإني قد بلوت طباعك وأخلاقك، وجربت أمانتك ووفاءك وصدقك، فلا يعرض بك تخوُّف، لقبولي فيك قبيحا يأتي به آتٍ، ولا يَسُؤُ ظنك، ما حسن ظننا فيك، وإني منزلك من نفسي منزلة الأخيار الكرماء، والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان، الخلال الكثيرة من الإساءة، وقد عدنا إلى الثقة بك، فعد إلى الثقة بنا، فإن لنا ولك بذلك غبطة وسروراً.
فعاد ابن آوى إلى ولاية ما كان يلي، وضاعف له الملك الكرامة، ولم تزده الأيام إلا تقرباً من السلطان.