قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ ما ذكرت، فأخبرني، ما بالُ الرجل السفيه يصيبُ الرفعة والشرف، والحكيم اللبيب لا يخلو من الهمِّ والجهد؟
قال الفيلسوف: كما أن الإنسان لا يبصر إلا بعينيه، ولا يسمع إلا بأذنيه، كذلك العمل، إنما تمامه الحلم، والعقل، والتثبت، غير أنَّ القضاء والقدر يغلبان كل شيء، وإنما يُريدان أدنى علَّة، فيموِّلان صاحبها، أو يهلكانه، ومَثَلُ ذلك، مَثَلُ ابن الملك وأصحابه.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أن أربعة نفرا، اصطحبوا في طريق واحدة، أحدهم ابن ملك، والثاني ابن تاجر، والثالث ابن شريف ذو جمال، والرابع ابن أكار.
وكانوا جميعاً محتاجين، وقد أصابهم ضرٌّ وجهد شديد، في موضع غربة، لا يملكون شيئا إلَّا ما عليهم من ثيابهم. فبينما هم يمشون، إذ فكروا في أمرهم، وكان كل إنسان منهم راجعاً إلى طباعه، وما كان يأتيه منه الخير، فإذ قال ابن الملك: إنَّ أمر الدنيا كله بقدر، والذي قدر على الإنسان يأتيه على كل حال، والصبر أفضل الأمور.
قال ابن التاجر: العقل أفضل من كل شيء.
قال ابن الشريف: الجمال خير مما ذكرتم.
قال ابن الأكار: ليس في الدنيا أفضل من الاجتهاد في العمل.
فلما قربوا من مدينة، أقاموا في ناحية منها يتشاورون، فقالوا لابن الأكار: انطلق، فاكتسب لنا باجتهادك، طعاماً ليومنا هذا.
فانطلق ابن الأكار يسأل: أيُّ عملٍ إذا عمله الرجل من غُدوة إلى الليل، كَسَبه ما يُشبِع أربعة نفر؟
فعرّفوه أنه ليس شيءٌ أعزَّ من الحطب، وكان الحطب منها على فرسخ، فانطلق ابن الأكار، فاحتطب طناً من الحطب، وأتى به المدينة، فباعه بدرهم، واشترى به طعاماً، وكتب على باب المدينة: عمل يوم واحد، إذا أجهد فيه الرجل بدنه، قيمته درهم. ثم انطلق إلى أصحابه بالطعام، فأكلوا.
فلما كان من الغد، قالوا ينبغي للذي قال إنه ليس شيء أعز من الجمال، أن تكون نوبته، فانطلق ابن الشريف ليأتي المدينة، ففكر في نفسه وقال: لست أعرفُ شيئا من الأعمال، وأستحي أن أرجع إلى أصحابي بغيرِ شيء، وهمَّ أن يُفارقهم.
فأسند ظهره إلى شجرةٍ في المدينة، فبينما هو مهموم، إذ مرَّت به امرأة لبعض عظماءِ أهل المدينة، فأعجبها جماله، فأرسلت إليه جاريتها، فأتت به إلى منزلها، ثم أمرتْ به فنُظِّف، ثم خلا بها يومه كله في نعيم وسرور، فلمَّا أمسى، أمرت له بخمسمائة دينار، فلمَّا قبضها، توجَّه إلى أصحابه، وكتب على باب المدينة: جمال يومٍ واحدٍ بخمسمائة دينار.
فلما أصبحوا في اليوم الثالث، قالوا لابن التاجر: انطلق أنت اليوم، فاطلب لنا بعقلك وتجارتك ليومنا هذا شيئاً. فانطلق ابن التاجر، فما لبث قليلا، حتى أبصر سفينة عظيمة في البحر، كثيرة المتاع، قد قدمت إلى الساحل، فخرج إليها جماعة من التجّار، يريدون أن يبتاعوا مما فيها من المتاع.
فجلسوا يتشاورون في ناحية، وقال بعضهم لبعض: ارجعوا يومنا هذا، لا نشتري منهم شيئاً، حتى يكسد المتاع عليهم، فيرخصوا علينا، مع أننا محتاجون إليه، وسيرخص.
فجاء ابن التاجر، فاشترى ما فيها بمائة ألف دينار نسيئة (بتأخير دفع الثمن)، وأظهر أنه يريد أن ينقل متاعه إلى مدينة أخرى. فلما سمع التجار ذلك، خافوا أن يذهب ذلك المتاع من أيديهم، فأربحوه على ما اشتراه مائة ألف درهم، فأخذها منهم، وأحال صاحبَ السفينة على التجار، وحمل ربحه إلى أصحابه، فلمَّا مرَّ بباب المدينة كتب عليه: عقل يوم واحد بمائة ألف درهم.
فلما كان اليوم الرابع، قالوا لابن الملك: انطلق أنت، واكتسب لنا بقضائك وقدرك شيئا.
فانطلق ابن الملك حتى أتى إلى باب لمدينة، فجلس على متكأ في الباب، فقُضيَ أنَّ ملك المدينة هلك في ذلك اليوم، ولم يخلف ولدا، ولا أخا، ولا قرابة، فمرُّوا عليه بالجنازة، فبصُروا به لا يتحرَّك، ولا يحزن لموت الملك، فسأله رجل: من أنت؟ وما الذي يقعدك على باب المدينة، لا يحزُنك موت الملك؟
فلم يجبه، فشتمه وطرده، فلمَّا مضوا رجع إلى مكانه، فلمَّا انصرفوا، رآه الذي طرده فقال: ألَم أنْهَكَ عن هذا الموضع؟ فأخذه وحبسه.
ثم إنهم اجتمعوا، ليُملِّكوا عليهم رجلا يختارونه، فقام الذي كان أمر بالفتى إلى الحبس، فحدَّثهم بقصّته، وقال: إني أتخوَّف أن يكون عَينًا علينا لعدوِّنا، فبعثوا إليه، فأتوا به فسألوه مَن هو، وما أمره، وما الذي أقدمه بلدهم؟
فقال: أنا ابن ملك، وإنه لما تُوُفِّيَ والدي، غلبني أخي على المُلكْ، فهربت منه حذراً على نفسي، حتى انتهيت إلى هذه الغاية.
فلما ذكر الغلام ما ذكره من أمره، عرفه من كان يغشى أرض أبيه منهم، وأثنوا على أبيه خيراً، وملَّكوه عليهم، ورضوا به.
وكان لأهل تلك المدينة سنة، إذا ملكوا عليهم ملكاً، حملوه على فيل أبيض، وطافوا به حوالي المدينة، فلما فعلوا به ذلك، مرّ بباب المدينة، فأبصر ما كتبه أصحابه، فأمرَ أن يُكتب مع ذلك: إن الاجتهاد، والجمال، والعقل، وما أصاب الرجل في الدنيا من خير أو شر، إنما هو بقضاء وقدر من الله عزّ وجل، وقد ازددت في ذلك اعتباراً، بما ساق الله إليّ، من الكرامة والخير والسعادة.
ثم إنَّ الملك انطلق إلى مجلسه، فجلس على سرير ملكه، وأرسل إلى أصحابه، فأتوه، فأشرك صاحب العقل مع الوزراء، وضمّ صاحب الاجتهاد إلى أصحاب الزرع، وأمر لصاحب الجمال بمالٍ كثير، ثم نفاه كي لا يفتتن به.
ثم جمع الناس، والعمَّال، وذوي الرأي من أهل مملكته، وقال: أمَّا أصحابي، فقد استيقنوا أنَّ الذي رزقهم الله سبحانه وتعالى من الخير، إنما هو بقضاء الله وقدره، وإنما أحب أن تعلموا ذلك وتستيقنوه، فإن الذي منحني الله، وهيأه لي، ورزقني ووهبه، لم يكن من الجمال، ولا من العقل، ولا من الاجتهاد، وقد رأيتُ من أهل هذه الأرض مَن هو أفضل منِّي جمالا وحُسنا، وعلمت أنَّ فيها مَن هو أكمل منِّي عقلا، ورأيا، وأشدُّ اجتهادا.
وكان في ذلك الجمع شيخ، فنهض حتى استوى قائماً، وقال: أيها الملك، قد تكلَّمتَ بحلم وعقل، فحَسُن ظننا بك، فمُلِّكت أمرا، قد علمه الله وقدَّره، وإن الذي بلغ بك ذلك، هو فوز عقلك، وحسن ظنّك، وقد عرفنا ما ذكرت، وصدَّقناك فيما وصفت.
ثم قام شيخ آخر، وقال: أيها الملك، إني قد كنت وأنا غلام، أخدم رجلا، وقد كنت أعيش بحال خشونة وضيق، ففارقته، وقد كان أعطاني من أجرتي دينارين، فأردت أن أتصدق بأحدهما.
فأتيت السوق، فوجدت مع رجل من الصيادين حمامتين، فساومت بهما، فأبى الصياد أن يبيعهما إلا بدينارين، فاجتهدت أن يبيعنيهما بدينار واحد، فأبى.
فقلت في نفسي: أشتري أحدهما وأترك الآخر، ثم فكرت، وقلت لعلهما يكونا زوجين، ذكراً وأنثى، فأفرق بينهما، فأدركني لهما رحمة، فتوكلت على الله وابتعتهما بدينارين.
وأشفقت إن أنا أرسلتهما في أرضٍ عامرةٍ، ألَّا يستطيعا أنْ يطيرا، من الهُزال وما لقيا من الجَهد، فذهبت بهما إلى مكانٍ كثيرِ الرعي، فسرَّحتهما، فطارا، فوقعا على شجرة مثمرة.
فلما صارا في أعلاها، شكرا لي، وقال أحدهما للآخر: لقد خلصنا هذا من البلاء الذي كنا فيه، وإنَّا لحقيقان أن نُجازيه بفعله.
فقالا لي: قد أتيتَ إلينا معروفًا، ونحنُ أحقُّ أن نشكرك به، ونجازيك عليه، وإنَّ في أصل هذه الشجرة، جَرَّة مملوءة دنانير، فاحتفِر عندها فخذها.
فأتيت الشجرة، وأنا في شكٍّ مما قالا، فلم أحفر إلَّا قليلا حتى انتهيت إليها، فاستخرجتها، ودعوت الله لهما بالعافية، وقلتُ لهما: الحمد لله، الذي علّمكما ما لم تعلما.
ثم قال الفيلسوف للملك: ليعرف أهل النظر في الأمور، والعمل بها، أنَّ الأشياء كلها بقضاءٍ وقدر، وأنَّ الله يفعل فيها ما أراد، ويقضي فيها ما أحب.