قالت عزيزة: بالله عليك يا اختي، وما حكاية الصياد؟
قالت لُبَابَة: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان رجل صياد، شيخاً، طاعنًا في السن، له زوجة وثلاثة أولاد، فقير الحال، لا يملك قوت يومه، من عادته، أن يرمي شبكته، أربع مرات، لا غير، في النهار.
ثم، أنه خرج يومًا من الأيام، وقَد حُمَّت (اشتدت) الحاجاتُ، واللَيلُ مُقمِرٌ، واتى الى شاطئ البحر، وحَطَّ معطفه، وشَمَّرَ ثَّوْبَه، وخاض في البحر الى وسطه، وطرح شبكته، وصبر إلى أن استقرت في الماء، فجذبها وجمع خيطها، قليلاً قليلاً، فوجدها ثقيلة تعلَّقَت، فسحبها اليه، فلم يقدر على ذلك، فورد البر، ودق وتدًا، وربط طرف الشبكة، ثم، خلَع ثيابه وتعرى، وغطس حول الشبكة، وعَاقَرَ (لاَزَمَ) وعالج، الى أن طلع بها، الى البر، ففرح، ولبس ثيابه، وأتى إلى الشبكة، فوجد فيها، حمارًا ميتًا، قد خرقها، فلما عاين الصياد ذلك، حزن وتأسف، وقال: لا حول ولا قوة، إلا بالله، العليّ العظيم، إن هذا الرزق، عجيب، وأنشد يقول:
يا راكبا في طِلابِ العيشة
يَا خَائِضًا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ وَالْهَلَكَةْ
هَوِّن عَلَيكَ وَلا تُبالِ بِحادِثٍ
يُشجيكَ فَالأَيّامُ سائِرَةٌ بِنا
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادُ مُنْتَصِبٌ
لِرِزْقِـهِ وَنُجُـومُ اللَّيْـلِ مُحْتَبِكَـهْ
قَدْ غَاصَ فِي لُجَّةٍ (ماء كثير تصطخب أمواجُه) وَالْمَوْجُ يَلْطِمُهُ
وَعَيْنُهُ لَـمْ تَزَلْ فِـي كَلْكَلِ (صَدْر) الشَّبَكَهْ
حتى إذا صار مسروراً ببغيته
بِالْحُوتِ قَدْ شَقَّ سَفّودُ (عُود من حديد يُنظَم فيه اللّحم ليشوى) الرَّدَى (هلاك) حَنَكَهْ
شَرَاهُ مِنْهُ الَّذِي قَـدْ بَاتَ لَيْلَتَـهُ
خِلْوًا مِنَ الْبَرْدِ فِي خَيْرٍ مِنَ الْبَرَكَهْ
فالأرض لم تؤت لولا حرثها اكلا
والصيد ما صيد لو لم تنصب الشبكه
ورب جامع مال غير منفقه
قد مات عنه وفي أعدائه تركه
امر من الله يعطي ذا بحيلة ذا
هَـذَا يَصِـيدُ وَهَذَا يَأْكُـلُ السَّمَكَهْ
سُبْحانَ رَبِّي مُقسِطًا ومُنعِمَا
المُستَعانَ وَالوَفِيَّ المُطْعِمَا
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصياد، لما فرغ من شعره، ورأى الحمار ميت، خلصه من شبكته، وجلس على الأرض، يخيط الشبكة ويربطها ويصلحها، فلما فرغ، قام فعصرها جيداً، فلما فرغ من عصرها، نشرها، ثم خاض في الماء، وسمَّى بِسْمِ الله، وطرح الشبكة فيه، وصبر عليها، حتى استقرت، وجذب خيطها، قليلاً قليلاً، فوجدها راسخه، أكثر من الأول، فظنَّ أنه سمك، ففرح، فربط الشبكة، فتعرى، فنزل فغطس، فعالجها إلى أن خلصها، فأطلعها إلى البر، فوجد فيها زيرًا (جرة ضخمة) كبيراً، وهو ملآن، برمل وطين، فلما رأى ذلك، بكى وتأسف، فقال: إن هذا، ليوم عجيب، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثم انشد:
يَا حُرْقَةَ الدَّهْرِ كُفِّي
إِنْ لَمْ تَكُّفِّي فَعِفِّي
خَرَجْتُ أَطْلُبُ رِزْقِي
وجدتُ رزقي تُوفي
فلا برزقي أحْظى
ولا بصنعةِ كَفّي
كم جاهلٍ في الثُّرَيَّا (مَجْمُوعَةٌ مِنَ النجوم في السماء)
وَعَالِمٍ في الثرى (التُّراب) مخفي
فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَوماً
فَقَد أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ
أعْمِلْ لرِزْقِك كلَّ آلَهْ
لا تَقْعُدَنَّ بكلِّ حالهْ
وانْهَضْ بكلِّ عَظيمةٍ
فالمَرْءُ يَعجِزُ لا مَحالهْ
وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ
لَعَلَّ اللَهَ يُغني عَن قَليلِ
وَلا تَظنُن بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ
فَإِنَّ اللَهَ أَولى بِالجَميلِ
ثم، إنه رمى الزير، وعصر شبكته ونشرها، واستغفر الله، وعاد إلى البحر، ثم رماها ثالث مرة، وصبر. حتى إذا استقرت، جذبها، فوجدها ملآنة، شَقَف (قطعة مكسورة من شي)، وحجارة، وقَوَاذير، وغير ذلك، فبكى الصياد، غُبنه (غُبن: ضررٌ يلحق بالمرء) وضعفه، وتذكر زوجته وأولاده، وأن لا قوت لهم في بيته، فلطم على وجهه، وأنشد:
تزول عن الدنيا فإنك لا تدري
إذا جنّ عليك الليل هل تعيش إلى الفجرِ
فلا تطلبِ الرزقَ بامتهانِ
ولا ترد عُرْفَ ذي امتنانِ
ولا تَخضَعَنَّ لِمَخلوقٍ عَلى طَمَعٍ
فَإِنَّ ذَلِكَ وَهنٌ مِنكَ في الدينِ
وَاَستَرزِقِ اللَهَ مِمّا في خَزائِنِهِ
فَإِنَّما الأَمرُ بَينَ الكافِ وَالنونِ
ففي الشجاعة نيل المجد قاطبة
وفي الجبانة كل الذم محتوم
وفي الشجاعة حصن لا انهدام له
وفي الجبانة إلقاء وتسليم
كم قادم عاش بالإقدام أزمنة
وناله في العلى عز وتكريم
ومحجم كان في الإحجام مهلكه
وناله منه في الدارين تحريم
فاختر لنفسك أي الحالتين ترى
إن الكريم عن الإذلال معصوم
ثم، إن الصياد، رفع طَّرْفُه (عَيْنُه)، الى السماء، وقد أشرق الفجر، ولاح الصباح، وقال: اللهم، سخِّرْ لي، كما سَخَّرْتَ البحر، لموسى.
ثم، أصلح الشبكة، وطرحها في البحر، رابع مرة، وصبر. حتى إذا استقرت، وتعلقت، وجذبها، فلم يطق جذبها، فاذا بها اشتبكت، فقال: لا حول ولا قوة، إلا بالله.
ثم، إنه رفع رأسه، إلى السماء، فتعرى وغطس، وجاهد فيها، حتى خلصها، وطلع بها، الى البر، وفتحها، فوجد فيها، قمقما من نحاس، أصفر ملآن، فمه مختوم برصاص، عليه نقش، خاتم سليمان، فلما رآه الصياد، فرح، وقال: هذا أبيعه، للنحاسين، لا بد أنه يساوي، إِردَبّين (إِرْدَبّ: مكيال لتقدير الحبوب، يسع، أربعة وعشرين صاعًا، ويزن، مائة وخمسين كيلو جرامًا) قمح.
ثم، إنه حركه، فوجده ملآناً ثقيلًا، فقال: لا بد أني أفتحه، وأنظر ما فيه، ثم أبيعه.
ثم، إنه أخرج سكينا، وعالج بها الرصاص، إلى أن فكه من القمقم، وحطه على الأرض، وهزه لينكب ما في القمقم، فلم ينزل منه شيء، فتعجب الصياد، وبعد قليل، خرج من ذلك القمقم، دخان، صعد على وجه الأرض، وكبر، حتى غشي (غَطَّى) البحر، وتصاعد الى عنان السماء، فعجب الصياد، غاية العجب، وبعد ذلك، تكامل الدخان، واجتمع ثم انتفض، فصار عفريتًا، رأسه في السحاب، ورجلاه في التراب، برأس كالقِبَاب (ضخم، عظيم)، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، وحلق كالزقاق، ومنخرين كالأبواق، واذنين كالأُوَق (الأُوقَة: حُفْرة ينحدر فيها الماء)، وعينين كالحُباحِبِ (حُباحِبِ: حَشَرَةٌ، فِي ذَنَبِهَا، مَادَّةٌ مُضِيئَةٌ) ويدين كالدري (مدراة: قرن)، ورجلين كالصَوَار (الصاريَةُ: عمودُ يقام في السفينة، يُشَدُّ عليه الشِّراع).
فلما رآه الصياد، ارتعدت فرائصه (العضلات الصَّدريَّة)، وتشبكت أسنانه، ونشف ريقه، وعمي عن طريقه، فلما رآه العفريت، قال: لا إله إلا الله، يا سليمان، يا نبيَّ الله، العفو العفو، لا بقيت أخالفك قولاً، ولا أعصي لك أمراً.
وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني، أيها الملك العزيز، أن العفريت، لما قال هذا، قال له الصياد: أيها المارد، ماذا تقول؟ أتقول سليمان، نبي الله، وسليمان مات، وله ألف وثمانمائة سنة، ونحن في آخر الزمان، فما قصتك، وما حديثك، وما سبب دخولك، في هذا القمقم؟
فلما سمع العفريت، كلام الصياد، قال له: ابشر.
قال الصياد في فكره: يا يوم السعادة.
ثم قال له العفريت: أبشر بقتلك، الساعة عَجَلاً.
قال له الصياد: عدمتك العافية، وأَراحَ اللَهُ مِنكَ، العالَمينا، جَزاكَ اللَهُ شَرّاً من عفريت، لأي شي، تقتلني، وأي شيء، يوجب قتلي، وقد خلصتك من القمقم، ونجيتك، من قرار البحر، وأطلعتك، إلى البر!؟
قال العفريت: تمنَّ علي.
ففرح الصياد، وقال: ما الذي أَتَمَنَّى عليك؟
قال العفريت: تمن علي، أي موتة تموتها، وأي قتلة، تقتلها.
قال الصياد: ما ذنبي، أهذا جزاء ما يكون، أني خلصتك؟
قال العفريت: اسمع حكايتي، يا صياد.
قال الصياد: قل، وأوجز في الكلام، فإن روحي، وصلت الْأَقْصَى.
قال الجني: إعلم، إني من الجنّ، المارقين (مارق: فاسد)، العاصين، عصيت، انا وصخر المارد، نبي الله، سليمان بن داوود، فأرسل لي، فأتى بي، كرها مني، على رغم أنفي، وأوقفني بين يديه، فلما رآني، عرض عليّ الإيمان، والدخول تحت طاعته، فأبيت، فطلب هذا القمقم النحاس، وحبسني فيه، وختم عليّ بالرصاص، وأمر الجن، فاحتملوني، وألقوني في وسط البحر، فأقمت مائة عام، وقلت في قلبي، كل من خلصني، أغنيته إلى الأبد، فمرت المائة عام، ولم يخلصني أحد، ودخلت عليّ، مائة أخرى، فقلت، كل من خلصني، فتحت له، كنوز الأرض، فلم يخلصني، أحد، فمرت عليّ، أربعمائة عام أخرى، فقلت، كل من خلصني، أقضي له، ثلاث حاجات، فلم يخلصني أحد، فغضبت، غضبًا شديدًا، وزمجرت ونخرت (مَدَّ الصَّوْتَ وَالنَّفَسَ، فِي خَيَاشِيمِهِ)، وقلت في نفسي، كل من خلصني في هذه الساعة، قتلته، ومنيته كيف يموت، وها أنك قد خلصتني، ومنيتك، كيف تموت، فتمنَّ علي، كيف أقتلك؟
فلما سمع الصياد، كلام العفريت، قال: يا الله، العجب، أنا ما جئت أخلصك، إلا في هذه الأيام! ولكن، اعف عن قتلي، يعف الله عنك، ولا تهلكني، يسلط الله عليك، من يهلكك.
قال الجني: لا بد من قتلك، فتمنَّ علي، موتة تموتها.
فلما تحقق الصياد، قتله، حزن وبكى، وقال: لا أوحشَ (أوحش: جعله يجد الوحشة، أو يشعر بها) الله منكم، يا اولادي، ثم قال: بالله اعف عني، إكرامًا لما أعتقتك، وخلصتك، من هذا القمقم النحاس.
قال العفريت: وأنا، ما أقتلك، إلا جزاء، ما خلصتني.
قال الصياد: وكيف؟ وانا فعلت جميلا، تقابلني، طاعنا بالقبيح؟ كلا، إنَّ البُغَاثَ (ضربٌ من الطير)، بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ (صار كالنسر)، ما كذبْ:
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً
فَالظُلمُ آخرُهُ يأتيك إِلى النَدَمِ
نامتْ عيونُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ
يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ
فَعَلْنَا جَمِيلًا قَابَلُونَا بِضِدِّهِ
وَهَذَا لَعَمْرِي فِعلُ كلّ الفَوَاجِرِ
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ
يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْـدَمِ
وَإِذا بُليتَ بِظالِمٍ كُنْ ظالِماٍ
وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلِ
فلما سمع العفريت، كلامه، قال: لا تطل، ولا تطمع، فلا بد من موتك.
فقال الصياد في نفسه: هذا جنّي، وأنا إنسي، وقد أعطاني الله عقلًا، وفَضَلّنِي، وها أنا أدبر أمرًا في هلاكه، بحيلتي وعقلي، وهو يدبر، بمكره وخبثه، ثم قال للعفريت: هل صممت على قتلي؟
قال الجني: نعم.
فقال الصياد: باسم الله عز وجل، المنقوش على خاتم سليمان، إذا سالتك عن شي، تصدقني؟
واهتز العفريت، واضطرب، وقال: اسأل، وأوجز.
وأدرك لُبَابَة الصباح، وسكتت عن الحديث، وفي الغد، قالت: بلغني، أن الصياد، قال للعفريت: بالله، انت كنت، في هذا القمقم، محبوس مسجون؟
أجابه العفريت: وحقٌّ، انا كنت، مسجوناً، في هذا القمقم.
قال له الصياد: كذبت! والله، هذا القمقم، لا يسع يدك، وليرَضَّ، (ينكسر) من رجليك، فكيف يسعك كلك؟
قال العفريت: والله، كنت فيه، وأنت، لا تصدق، أني كنت فيه!؟
قال الصياد: لا.
فلما قال الصياد، للعفريت، لا، انتفض العفريت، وصار دخانًا صاعدًا إلى الجو، ثم اجتمع، ودخل في القمقم، قليلاً قليلاً، حتى استكمل الدخان، داخل القمقم، فصاح العفريت: يا صياد، ها أَنا، في وسط القمقم، صَدَّقْتَني؟
وإذا بالصياد، أسرع، وأخذ سدادة الرصاص المختومة، وسد بها فم القمقم، ونادى: يا أيها العفريت، أنت تمن علي، أي موتة، تموتها! لأرمينك في هذا البحر، وأبني لي هنا بيتًا، وكل من أتى هنا، أمنعه أن يصطاد، وأقول له، هنا عفريت، وكل من أطلعه، يُمَنِّيه أنواع الموت، يخيره بينها.
فلما سمع العفريت، كلام الصياد، ورأى نفسه محبوسًا، أراد الخروج، فلم يقدر، ومنعه، ختم سليمان، وعلم، أن الصياد احتال عليه، وسجنه، ثم، أن الصياد، ذهب بالقمقم، إلى جهة البحر، فقال له العفريت: لا، لا، لا تفعل ذلك، انا كنت أمزح معك.
فقال الصياد: تكذب، يا أحقر العفاريت، وأقذرها وأصغرها، وإنَّ المَعَاذيرَ، يَشُوبُها الكَذِبُ، وإِنَّك، لَصِلُّ أَصْلاَل (الصِّلُّ: حيَّة، من أخبث الحيَّات، أي، إنه داهية خبيث).
فرَقَّ (صارَ عَبْداً) العفريت، ذليلا، وتَخَضَّعَ (تضرَّع) وقال: ما تريد، أن تصنع بي، يا صياد؟
قال الصياد: ألقيك في البحر، وانت، إن كنت أقمت فيه، ألفًا وثمانمائة عام، فأنا أجعلك تقيم، إلى أن تقوم الساعة، أما قلت لك، أبقيني، يبقيك الله، ولا تقتلني، يقتلك الله، فأبيت قولي، وما أردت إلا غدري، فألقاك الله في يدي، فغدرت بك.
قال العفريت: يا صياد، افتح لي، حتى أحسن إليك، وأغنيك.
قال الصياد: تكذب تكذب، يا ملعون، فإن مثلي ومثلك، مثل الملك فامان، والحكيم رَويَان.
قال العفريت: وما هو مثله؟