بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وسلم
الحمد لله، الذي فطر العباد، على معرفته، وأَكَّلَ (أطْعَمَ) الألسن، على عز صفته، وحسَمَ الخلائق، عن إدراك كيفيته، وخلق الملائكة، خلقا نوريّا، وكون الآدميين، ما شاء اطوارا، وركّب البروج، وادار الأفلاك، وخلق الليل والنهار، فتبارك، الذي بان في ملكوته، والملك الحاكم، في بَرِيَّته (خَلْقه)، وتعالى الحي، الدائم، الذي لا يموت.
وسبحان المهيمن القدوس، الذي لا يتوارى عنه، ما رَقَّ من مخلوقاته، في ليل داج (مُظْلِمٌ)، ولا في سماء، ذات أبراج، ولا في أرض، ذات فجاج (واسعة)، ولا في بحور، ذات أمواج، ولا في ظلم، ذات أدعاج (شدَّة سواد)، يعلم الخفيّ، وفوق الخفيّ، ودون الخفيّ.
وأشهد، أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، الذي، لا تشتبه عليه الأصوات، بضروب اللغات، والعالم، بمكنون الخفيات.
وأشهد، أن سيدنا محمدّا، عبده ورسوله، نور، أفلق به الظلمات، وأتم به، الكليّات (الحقائق)، وأوضح به، الدلالات، وأقام به، الرسالات، وختم به، النبوات، وافتتح به، الخيرات، إذ بعثه، نبيا هاديا، ورسولا، داعيا إليه، ودالا، عليه، وحجة، بين يديه، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، وصحبه، وسلّم تسليما.
أما بعد، أيَّدك الله بتوفيقه، وعصمك بتسديده، فإني رأيت، أن أصنع لك كتابا، في الأدب والبلاغة والترسّل (تَرَسَّلَ: أنشأ رسالة؛ أتى بكلامه مرسلا غير مقيد بقافية أو بسجع)، والحروب والحيل، والأمثال، والعالم والجاهل، وأن أُشْرِبَ ذلك، بشيء من المواعظ، وضروب من الحكم.
وقد وضعت من ذلك، كتابا مختصرا، موعبا (وَعَبَ الشَّيْءَ: أَخَذَهُ بِأَجْمَعِهِ وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُ شَيْئاً) شافيا، وجعلته أصلا، للعالم الأديب والعاقل الأريب، مما أمكنني حفظه، واطرد لي تأليفه.
والله نسأله، العون، والتأييد، والتوفيق، والتسديد، ولا حول ولا قوة، إلا بالله، العلي العظيم.
ذكر، أن ثعلبا، يقال له مرزوق، ويكنّى، أبا الصّباح، أقام في واد، لم يكن به غيره، فعبر عليه زمان، وهو في حسن الحال، آمن السَرَب (بيت تحت الأرض لا منفذ له وهو الوكر؛ مَسْلك في خفية)، رخيّ البال.
فمر به، صديق له، من الثعالبة، يقال له طارق، ويكنّى، أبا المُغَلَّس (الغَلَس: ظُلْمة آخر الليل، إِذا اختلطت، بضوء الصباح)، فنزل عليه، فأحسن ضيافته، وأكرم مثواه.
وقال طارق: يا أبا الصّباح: كلّ أمرك، جميل، وكل فعالك، فعلى سبيل حزم، وصواب تدبير، غير أني، أراك احتفرت جحرك، بمكان سوء، وانه، لأحق منزل، بترك (هذا أحقُّ مَنْزِلٍ بِتَرْكِ ... الذئبُ يَعْوِي وَالغُرَابُ يَبْكِي).
قال مرزوق: يا أبا المغلس، وما الذي، أنكرت علي منه، وغمصت علي (عَابَهُ عَلَيْهِ) فيه؟ فأنت، من لا أتهم في عقله، ونصيحته لأهل مودته، وما عقالك لهم، بأنشوطة (ما مودَّتُكَ بواهية؛ كتاب مجمع الأمثال)، وإنّي، لعلى حبل ذراعك (أي الأمر فيه إليك)، والمؤمن، مرآة أخيه (المؤْمِنُ مِرآةُ المؤْمِنِ، والمؤمِنُ أخو المُوْمِنِ حَيثُ لَقِيَهُ يَكُفُّ عَلَيهِ ضَيعتَهُ، وَيَحُوطُه مِنْ وَرَائِهِ)، وقد كان عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، قال: رحم الله، من أهدى إلينا، عيوبنا.
قال طارق: إن أخاك، من صدقك، (أول من قال ذلك عبد الله بن الزبير. وذلك أن معاوية ذكر له بيعة يزيد، فقال ابن الزبير: إني أباديك ولا أناجيك، وإن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وفكر قبل أن تندم) والشفيق، بسوء الظن، مولع (يضرب للمَعْنِيِّ بشأن صاحبه، لأنه لا يكاد يظن به غير وقوع الحوادث، كنحو ظُنُون الوالدات بالأولاد) ، وإني أراك، في واد عظيم، وبه من آثار السيل، ما ترى ، وما تدري، ما يحدث ، ولست آمن عليك، أن يدهمك منه بالليل، ما لا طاقة لك به، وهو أحد الأَيْهَمَيْنِ (ويقال: الأعميين، يعني السيلَ، والجَمَلَ الهائج) ، والسيّل حرب للمكان العالي (لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... السيل حرب للمكان العالي؛ يريد أبو تمام أن يقول لمن يخاطبها: لا تنكري خلوّ الرجل الكريم من الغني، فإن ذلك ليس غريبا، لأن قمم الجبال وهي أعلى الأماكن لا يستقر فيها ماء السيل)، فنشدتك الله، في نفسك وأهلك، إلا تحولت من هذا الموضع، واستبدلت به غيره.
قال مرزوق: فأنت، من لا أتهم في رأيه، ومشورته، وسأتقدم إلى زوجتي، في التحويل.
وقام، فدخل عليها، فقال: يا هذه، قد كان فرط (فرط في الأمر: قصر فيه، وأهمله، وضيعه)، من خطائنا (مَا لم يتَعَمَّد من الْفِعْل وضد الصَّوَاب)، في المقام بهذا الوادي، ما كان يهلكنا، حتى أتاح الله، لنا صديقنا، أبا المغلس، فحذرنا المقام به، وخوّفنا السّيل، ونحن بقربه، وإنه كان يقال: التقدم، قبل التندم، (يضرب في لقائك، مَنْ لا قوام لك به، أي تقدّم إلى ما في ضميرك، قبل تندّمك) فاجمعي إليك متاعك، وانتقلي.
قالت إمرأته: ما هذا من صديقك، بالنصيحة لك، ولكنه، رأى غضارة (طيب العيش، سعة، نعمة) عيشك، بهذا الوادي، وقرب مغارك (كهف، غزوة)، وبعد أعدائك، فحسدك إياه، ونحن به نزول، منذ سنين، فما رأينا من سيله، ما يُرْوى (روى الرحل: شده بـالرواء، أي الحبل على الجمل) عنا وجحرنا، بالمعزل عن سننه (نَهْجُهُ وجهَتُهُ)، فزل عن هذا الرأي، ولا تحفل به.
فخرج إلى طارق، فأعلمه بخلاف زوجته، عليه، وما اعترضت عليه، من خفض (سعة وراحة) العيش، وطول السلامة.
قال طارق: يا أبا الصّباح، إن لم تفقه معنى النصيحة، فنحن منك، بحل، وانه، كان يقال، العزيمة حزم، والاختلاط، ضعف (يضرب في اختلاط الرأي، وما فيه من الخطأ والضعف)، وليس للنساء رأي، فلا تحملك زوجتك، بلجاجها، على أمر، فيه عطبك، واعرف ذلك، مما يقول، طفيل الغنوي، شعرا:
إِنَّ النِساءَ، كَأَشجارٍ، نَبَتنَ مَعاً
مِنها المِرارُ، وَبَعضُ المُرِّ، مَأكولُ
إِنَّ النِساءَ، مَتى يَنهَينَ عَن خُلُقٍ
فَإِنَّهُ واجِبٌ، لا بُدَّ مَفعولُ
ثم ان طارقا، ارتحل عنه، وأقام مرزوق، بمكانه، فبينما هو، على تلك من حاله، حتى جاء السيل، فنظر إليه مرزوق، فقال لزوجته: خذي الأمر، بقوابله (أي بمُقَدِّماته، يعني دَبِّرْه قبل أن يفوتك تدبيرُه، والباء بمعنى في، أي فيما يستقبلك منه، يقال: قَبَلَ الشيءُ، وأقبل)، فقد علمتي، ما قال القطامي، في شعره:
وخير الأمر، ما استقبلت منه
وليس بأن تتبعه، اتباعا
وقال بعض الحكماء: شَرُّ الرَّأْيِ الدَّبَرِيُّ (وهو الرأي الذي يأتي ويَسْنَحُ بعد فَوْتِ الأمر، مأخوذ من دبر الشيء، وهو آخره، يقال: فلان لا يُصَلِّي الصلاَةَ إلا دَبَرِيّاً، أي في آخر وقتها)، وقال متمثلا (مُتَمَثِّلٌ لِأَفْكَارِ الدَّرْسِ: مُسْتَحْضِرُهَا، مُسْتَوْعِبُهَا): قَبْلَ الرَّمْي، يُرَاشُ السَّهْمُ (يضرب، في تهيئة الآلة، قبل الحاجة إليها)، فالنجاة الآن، ولات حين مناص.
قالت له زوجته: ما كل أزب، نفور (وذلك، أن البعير الأزّبَّ، وهو الذي يكثر شَعْرُ حاجبيه، يكون نَفُوراً، لأن الريحَ تضْربه، فينفر)، وقد يجئ، في مثل هذا، في سنة مرارا، فما يصل إلينا أوله، حتى ينقطع آخره، فلا تخرجنا من وطننا، فإنا به، راضون.
وإنهما لعلى ذلك، من مراجعتهما، إذ دخل السيل عليهما، فخرج الثعلب، من جحره ليهرب، فاحتمله السيل، فقصد لبعض ما جاء به السيل، من الخشب، فتعلق به، وأسلم نفسه، فما نهنهه (نهنهه السيل: كفَّه)، إلى أن قذف نفسه، في البحر.
فلما رأى البحر، قال يخاطب نفسه: استمسك، فإنك مَعْدُوٌّ بك (يضرب في موضع التحذير؛ فإن المقادير، تسوقك، إلى ما حُمَّ لك)؛ فأجاب نفسه، عن نفسه: وكيف توقى، ظهر ما أنت راكبه (كيف تنجو، من شرّ أنت فيه)؟
ثم تمثل، بقول أمية، حين قال:
يوشك من فر من منيته
في بعض غراته (غفلته)، يوافقها
ما رغبته النفس، في الحياة، وإن
عاشت طويلا، والموت لاحقها
يقودها قائد إليه، ويحدوها
سريعا إليه، سائقها
من لم يمت عبطة (مَاتَ عبطة مَاتَ شَابًّا سليما لم تصبه عِلّة)، يمت هرما
الموت كأس، والمرء ذائقها
ثم، لم يزل يترامى به الموج، حتى ألقاه، إلى جزيرة من جزائر البحر، فلما استقرت قوائمه على الأرض، قال: من لم يفت، لم يمت (هذا من كلام، أكثم بن صيفي، يقول: مَنْ مات، فهو الفائت حقيقة)، ثم تمثل، بقول الأعشى شعرا:
شَبَابٌ وَشَيْبٌ، وَافْتِقَارٌ وَثَرْوَةٌ
فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ، كَيْفَ تَرَدَّدَا
فأقبل، وأدبر يومه، لا يسمع حسيسا، ولا يرى أنيسا، وأوحشه ذك، وظن أنه هالك، حتى أصبح.
فبينما هو في تردده، استقبله ذئب، فسلم عليه، وسأله عن اسمه، وكنيته، فقال الذئب: اسمي مكابر، وكنيتي أبو الغراء (الغر: الذي لا خبرة له؛ الذي ذَا غَفلَة وَقلت فطنته)، فما أوقفك، أيها الثعلب، بهذه الجزيرة، وليس لك فيها أكل؟
فقص عليه الثعلب، قصته، وقال: كيف أيأستني، يا أبا الغراء، من الطعم بهذا الموضع؟
قال الذئب: إنه ليس فيها، إلا الظباء، وبقر الوحش.
قال الثعلب: وما يمنعكم، أن تصيدوها، فأصيب من رَّسَلكم (القطيع)؟
قال الذئب: نحن هاهُنا، جماعة، ما يتجرأ واحد منا، أن يخرج من بابه، شبرا واحدا، وإنا، لمن الهزل والضر، فيما ليس فيه خلق.
قال الثعلب: وما دهاكم؟
قال الذئب: هاهُنا نمر، يقال له، المظفر بن منصور، قد تملك على هذه الجزيرة، وغلب عليها، وهو من شراسته، وبخله وضيق خلقه، على ما قد عرفت من صفة النمور، واني لأكلمك، وما آمنه، فرقا (شديد الخوف) أن يخرج، فيرانا.
فتفرقا، وتواعدا، موضعا خفيا، يلتقيان فيه، من غد، فانصرف الثعلب، حزينا مغتما، لما حزره (قَدّرُهُ فِي نَفْسِهِ وَعَدّدُهُ) من عداوة النمور، وعدم القوت، ثم فكر، فقال: إنما يعرف، فضل عقل المرء، في شدائد الأمور، ونوازل الخطوب، فأما عند الرخاء، فما أقرب الجاهل، من العالم، والأحمق، من العاقل، وذلك، ان مساعدة الدنيا، للجاهل، ساترة لنقصه، عن زيادة العاقل، وحاجبة عن التمييز، بينه وبين اللبيب، وليس لمثلي، قوة، على صيد الظباء، وبقر الوحش، وإنما يصيد، كل إمرئ، قدره، وليس هاهنا، إلا طلب الحيلة.
فلما أصبح الصبح، قصد إلى المكان، الذي وعد الذئب فيه، والتقيا هنالك، عن رقبة (حالة المراقبة؛ خوف) من النمر.
قال الثعلب: يا أبا الغراء، كنت مهموما بنفسي، فزادني اهتماما، ما أبثثتني (أظهره له)، من حديثك، وألقيت إلي، من سوء حالك، وها هنا تدبير، إن أعنتني عليه، بهمة صادقة، فلعله أن يعود، إلى صلاح.
قال الذئب: وما هو؟
قال الثعلب: إئت النمر، فسله، أن يوليك ولاية، ترد عليك نفعا، وتؤدي للك ذكرا، وتكسبك حمدا.
قال الذئب: فأين ما أخبرتك، على بخله، وشراسة خلقه؟ وانه لكما قال القائل: سواء هو، والعَدَمُ (ويقال: العُدْم، ويروى: سواء هو، والقَفْرُ، أي إذا نزلْتَ به، فكأَنك نازل، بالقِفَار (خلاء، لا ماء فيه، ولا كلأ، ولا ناس) المُمْحِلَة (الجدباء)، قاله أبو عبيد).
قال الثعلب: فأعلمه، أنك لا تفيد (تكتسب؛ تحصل) شيئا، إلا بعثت إليه، بشطره، فإن لك، فيما يبقى، منتفعاً وصلاحا، فإن أجابك، فلن تعدم مني، معونة حسنة، وقياما، بالذي يجب، فكن، كما قال الشاعر:
وليس الرزق، عن طلب، حثيث (سريع، مُسْرِع)
ولكن، ألق دلوك، في الدّلاء (البئر)
تجئك بملئها طوراً، وطوراً
تجئك، بحمأة (طين أسود فاسد الرائحة)، وقليل ماء
قال الذئب: يا أبا الصباح، انه كان يقال: اتقوا، مقارنة (مُقَارَنَةُ عَمَلَيْنِ: الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا) الحريص (شَدِيدُ التَّمَسُّكِ؛ بخيل بماله، لشدّة رغبته فيه، لا يتمتَّع الحريصُ بماله، الحريص محروم؛ شره) الغادر، فإنه، ان رآك في القوة، رأى منك، أخبث حالاتك، وان رآك في الفضول (كثير الإفضال، كريم، معطاء)، لم يدعك، وفضولك.
قال الثعلب: يا أبا الغراء، انه لَيْسَ الرِّيُّ، عَنِ التَّشَافِّ (روي من الماء أو نحوه: شرب وشبع؛ تشاف ما في الإناء: شربه كله؛ أي ليس قضاؤك الحاجَةَ، أن لا تَدَعَ قليلا، ولا كثيراً، إلا نِلتْه)، من عاش، غير خامل الذكر، والمنزلة، إذا أفضل، على نفسه وأصحابه، فهو، وإن قل عمره، طويل العمر، ومن كان عيشه، في ضيق، وقل خيره، على نفسه، فهو، وإن طال عمره، قصير العمر.
قال الذئب: انه كان يقال، في أمور ثلاثة، لا يجترئ عليها، إلا أهوج، ولا يسلم منها، إلا قليل، صحبة السلطان، وائتمان النساء، على الأسرار، وشرب السم، على التجربة.
قال الثعلب: قَدْ يُبْلَغُ الخَضْمُ، بِالقَضْمِ (الخَضْم: الأَكل عامةً، وقيل، هو مَلءُ الفم، بالمأكول؛ القضم: أكلٌ بأطراف الأسنان؛ ومعنى المثل، قد تدرَكُ الغايةُ البعيدةُ، بالرفق) ويركب الصعب، من لا ذلول له (أي يحملُ المرءُ نفسه، على الشدة، إذا لم ينل طَلِبته، بالهُويْنَا)، وليس يواظب، على باب السلطان، أحد، فيلقي عن نفسه، الأنفة (كبر النفس)، ويتحمل الأذى، ويكظم الغيظ، ويرفق بالناس، إلا خلص، إلى حاجته من السلطان.
قال الذئب: إنه كان يقال، لا تغتبط، بسلطان، مع غير عدل، ولا بغنى، من غير حلّ (كان حلالا مباحا)، ولا ببلاغة، من غير صدق، ولا بجود، من غير إصابة، ولا بحسن عمل، من غير خشية.
قال الثعلب: إنه ينبغي للعاقل، أن يداري الزمان، مداراة الرجل السابح، في الماء الجاري، وقال متمثلا: ارْضَ مِنَ المَرْكَبِ، بِالتَّعْلِيقِ (أي ارْضَ، من عظيم الأمور، بصغيرها. يضرب في القَنَاعة، بإدراك بعض الحاجة).
قال الذئب: السبب، الذي يدرك به العاجز، حاجته، هو السبب، الذي يحول، بين الحازم، وطلبته.
قال الثعلب: المال، زيادة في القوة، والرأي، وليس الاخوان، والأهل والأعوان، إلا مع المال، ولا يظهر المروءة، إلا المال، الاّ أن، من لا مال له، إذا أراد أن يتناول أمرا، قعد به العدم، فقصر عنه.
قال الذئب: إن للسلطان، سكرات، فمنها، الرضى، عن بعض من يستوجب، السخط، والسخط، عن من يستوجب، الرضى، ولذلك قيل، قد خاطر، من لجج في البحر، وأشد منه مخاطرة، من صحب السلطان.
قال الثعلب: من لم يركب الأهوال، على صعوبتها، لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر، الذي لعله، أن يبلغ فيه حاجته، مخافة، ما لعله يتوقاه (حَذَرَهُ؛ تَجَنَّبَهُ)، فليس ينال، جسيما، وقد كان يقال: أعمال ثلاثة، لا أحد يستطيعها، إلا بمعونة، ارتفاع همة، وعظم خطر: صحبة الملوك، وتجارة البحر، ومناجزة العدو.
فأعجب الذئب، كلامه، فأتى النمر، فشكر له، وأقام بين يديه، وكان لا يعرفه، بمثل، بهذه الذلة (خَضَعَ لَهُ، وَتَوَاضَعَ)، فافتتح الكلام، فقال: أيها الملك، إني، لما أنا عليه، من المناصحة، والموالاة، تأملت باب الملك، فوجدته خاليا، من صالح الأعوان، وثقات الخدم، ولما رأيت الملك، كثير الكلف، عظيم المؤن (شدّة وثقل، وقف بجواره في مؤنة أولاده)، رحب العناء (التعب)، جزل العطاء، وليس له من عبيده، من يعينه على مؤنه، ويكفيه الهمم (ما هُمَّ به، من أمر، ليُفعَل)، من عمله، ندبت نفسي، للذي رأيتني، أقوى عليه، من حسن السياسة، وضبط الناحية، التي أتولاها، ورد المنفعة، على الملك منها.
فأعجب النمر، كلامه، وطمع فيما وعده، فقال: صدقت، وبررت، وأنا مستكفيك ومقلدك، فانظر، كيف يكون ضبطك (حفظ الشيء بالحزم)، وكفايتك (كَفَاءةٍ وَمَقْدُرَةٍ)، وغناؤك (اكْتِفَاءٌ وَيَسَارٌ) ووفاؤك، بما شرطت على نفسك، اكتب له يا غلام، عهده، على مناهل (مَوْرِد شُّرْب) الظباء، واجمع له، أعمال ما هنالك.
فخرج الذئب، إلى عمله، واستخلف الثعلب، وأحله، محل الوزير الكاتب.
فلما صار إلى تلك الناحية، كمن الذئب، على شريعة الطريق، ورَبَأَ (اعْتانَ) له الثعلب، فأقبلا، يصيبان، كل يوم حاجتهما، حتى صلحت أحوالهما، ورقت أوبارهما، وصفت ألوانهما، وتفتقت سِمنا، جلودهما.
٥ - فإن امرءاً، لو صان ثوب نعمته
وخاس (أخلف) الذئب بعهده، وأخلف وعده، حتى اشتد ذلك على النمر، فأمر بالكتاب إليه، نسخته:
بسم الله الرحمان الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وسلم
أما بعد، فإن امرءاً، لو صان ثوب نعمته، لما مسه، من عُري فاقته (الفَقْرُ والحاجةُ)، تمسكا بحيلها، لما ناله من انقطاعها، واحتمل عز الكرامة، لما كان فيه من ذلة الهوان، كان ذلك أحجى (أَجدر) بك، دون أكثر أهل زمانك، للذي كشف لك الدهر، من وجوه عبره، فأوضح لك، عن مناهج سبله، وعرفك، من تصاريف نعمه، ونقمه.
لكنك سمنت، وبطنت، فاقتعدت (قعد) الأثر (رجل أثر: يستأثر على غَيره بِالْخَيرِ)، وامتطيت البطر، ونعق بك الشيطان، مستهويا، فسمحت له برأسك، وطاع له حَيْنك (حَيْن: هَلاك، مِحْنَة)، فأنت متكسع (كسع في الضلال: ذهب فيه، وخرج عن الطريق، المستقيم)، في جهالتك، مبادر، في ضلالتك، تظن، ألا يفتضح، أمرك، ولن يتأمل، تدبيرك، وقد علمت، ما أكدت شرطك، على نفسك، وأعطيت عليه، عهدك وذمتك.
فأقسم، لئن لم تخلع، رِّبْقُ (حَبْل) الشك، من عنقك، وتكف، عن جماحك، وتعظ نفسك، بالأمثال الجارية، والمواعظ المتقدمة، فسنقفك، على ما إن وقفت عليه، أبصرت حظك (نصيب، بَخْت)، ووقفت عند رشدك، وتلافيت ما فرط من زللك، وعفيت على سوء أثرك، ولأطأنك وطأة، تكون رتيما (مكسور)، بعدها، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
٦ - الرَّثيئَةَ، تَفْثَأُ الغَضَبَ، وزخرفة الكلام، لا تُثَبِّت، زلل الأقدام
فلما ورد الكتاب، على الذئب، أمر الثعلب، بقراءته عليه، وأعظمه وأكبره، ودخلته منه، وحشة شديدة، فقال: ما عندك من الرأي، يا أبا الصّباح، وما تظن، أنه أخرج الملك، إلى هذا؟
قال الثعلب: إن الملك، استبطأك، فيما كنت، وُليت له، إذ أخلفت له، بوعدك، وأكذبت به، حظك، فحركك بهذا الكتاب، ولئن، لم تتدارك هذه الهفوة، وتتلاف هذه الزلة، ليحلّن الخطب، ويعظمن الأمر، وإنَّ الرَّثيئَةَ، تَفْثَأُ الغَضَبَ (الرثيئة: اللبنُ الحامض، يُخْلَط بالحلو، والفَثْء: التسكينُ. زعموا، أن رجلا، نزل بقوم، وكان ساخِطاً عليهم، وكان مع سخطه، جائعا، فسَقَوْهُ الرثيئة، فسكن غضبه؛ يضرب، في الهَدِيَّة، تُورِث الوِفَاقَ، وإن قلَّت).
قال الذئب: أتراني، أمحض (أُخلص) أمرا، أغترب فيه، عن وطني، وأتعب فيه، بدني، وأتبع له ديني، حتى إذا بلغ، مأتاه، وانتهى منتهاه، آثرت بزبدته، غيري، وثقل بوزره، ظهري؟ كلا، فاكتب له، جواب كتابه، وبالغ فيه.
قال الثعلب: مَنْ يَنْكِح الحَسْنَاءَ، يُعْطِ مَهْرَهَا (أي، مَنْ طلب حاجةً، اهتمَّ بها، وبذَلَ مالَه فيها)، إن زخرفة الكلام، لا تُثَبِّت، زلل الأقدام، ولا تعبوها (عبأ)، عواصف رياح الكروب، وللصدق، آثار في القلوب، فإن ظننت، أنه يكفيك، فيما قد عتب فيه الملك عليك، حتى تستحق به، قبول معذرتك، ببراءة ساحتك، أن أصوغ لك كلاما، إذا نثر على العاقل، استرعه، واستحسن نظمه، فلقد امتد بك البهتان، وخطئت، فيما لم يخطئ فيه، انسان.
قال الذئب: اكتب، ولا تراجعني.
فكتب الثعلب، له كتابا، نسخته:
بسم الله الرحمان الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وسلم
أما بعد، فقد وصل إليّ، كتاب الملك، بما عاتب فيه، وأوعد عليه، وفهمته.
فأما ما ذكره الملك، من رُبك (اِخْتَلَاط) عيش، ناسيته (تناسيته)، وثوب ضرّ، لبسته، وظفر، من دهر، خدشني، وناب (نزل به) منه جرحي، حتى استنقذني الملك، من غَمرة (شدائد ومكاره) العطب، وانتاشني من هوة الهلكة، وما بدا لي بذلك، من تصاريف، وجوه الضر، حتى استحققت بذلك، أن أكون لرشدي، مبصراً، وللطريقة المثلى، سالكاً، فإن الأيام، بحمد الله، ومنه، لم تكشف منّي، هيابا (رَجُلٌ هَيَّابٌ: خَائِفٌ) ورعا (ضعف، جبن)، ولا هلعا ضرعا، وإني، لكما قال الشاعر:
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعًا أَشُدِّي (اكتمال النّمو، وتمام القوّة في الإنسان)
وَنَجَّذَنِي (أحكمته، علمته التجارب) مُدَاوَرَةُ الشُّئُونِ (الحال والأمر)
على أنَّ، يد الملك، عندي بيضاء مشكورة، ليست بمرفوعة، ولا مكفورة، طلعها (نبَاتها)، في قلبي نضيد (شجرٌ نضيدٌ: نُضِّدَ بالورق والثمار من أَسفله إِلى أعلاه)، وظلها، علي ممدود، خصبة خضرة، أغذوها، بماء الشكر، وأنميها، بجميل الذكر، لا يحصدها، تقادم الأيام، ولا يقدح (طعن وعاب) فيها، بزند (عود تُقْدَح به النَّار) الملام، وارتضع (امتصَّ وشَرب من) دِرّتها (اللَّبَنُ أوْ كَثْرَةُ اللَّبَنِ)، فَوَاقا (ما يعود، فيجتمع من اللبن، بعد ذَهابه، برضاعٍ، أَو حِلاب) عن فَوَاق (راحة، تمهُّل، إفاقة، صحوة)، فأغترف منها، بسجل (ضرع عظيم)، ذي عراق (عراق: ماء صاف).
فأين ذهب الملك، في ظنِّه، وأنا ابن نعمته، والشارب، في بُلَهْنِيَته (بلهنية: سعة العيش، بحبوحة)، درَأني (درَأ الخَطَرَ: دَفَعَه ورَدَّه بشدّة) جناحه، وكنفني رَجَاحه (اتِّزَانِ عَقْلِهِ، وَصَوَابِهِ، وَاكْتِمَالِهِ)، يَعقِلني (يَعقِل، فهو عاقل) وَزَرُه (وزر للحاكم: صار وزيرا له)، وينجيني، عَصَرُه (العَصَرُ: الملجأُ والمنجاةُ).
أفلا، يَرُبّ (رَبَّ النِّعْمَةَ: حَفِظَها ونمَّاها) الملك، أمتع الله به، نعمة، أنشأ شجرتها، وأظهر ثمرتها، بنوافله (نفل: هبة، عطية، هدية) العظام، ومننه الجسام، ونعمه التوام.
فقد أسهرني وعيده، وأقلقني تهديده، وأجزعني توليه، وأرمضني (أوجعني) تجنيه، على أن، علمي باتباع حلمه عني، يضمن لي العفو منه، عن زلتي، فإن يطلق الملك أسري، من موجدته (غضب)، فذلك ظنّي، برحمته، وإن تكن الأخرى، وأعوذ بالله منها، فيا لها عثرة، لم يُوقَ (يسلم) حاذرها، ويا لها حسرة، يستنجد عاثرها، وها أنا ذا، بين يدي الملك، صريع سطوته، وعتيق عفوته، إذ هو كما قال الشاعر:
ان يعاقب، يكن غراما، وان ي
عط (يعط)، جزيلا، فإنه لا يبالي
والسلام
٧ - ومَنْ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ ظَلَمَ
فلما ورد الكتاب، على النمر، سره، ما وصف به الذئب، نفسه، من الشكر، وما أشار به في كتابه، من الاعتذار، وما أقر به، من الذنب، ومسألته، إقالة عثرته، ووضع ذلك منه، على حسن إنابته، ومراجعته عقله، وتعلقت نفسه، بورود هداياه، وتحفه، فكان لذلك منتظرا، وعن رسله سائلا، حتى مضت لذلك أيام، وشهور لا يرى شيئا، فوجَدَ (غَضِب) منه، وجدا شديدا، وأمر بالكتابة إليه، بتوبيخه، ولائمته، والاغلاظ عليه، في مخاطبته، نسخته:
بسم الله الرحمان الرحيم
وصلى الله، على سيدنا محمد، النبي الكريم
أما بعد، يا غرور، ومَنْ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ ظَلَمَ (أي ظَلَمَ الغنم، ويجوز، أن يراد، ظلم الذئب، حيثُ كُلَّفه، ما ليس في طبعه؛ يضرب، لمن يولي، غير الأمين)، فإن النعم، إذا امتد مهلها، بالعبد، مسامحة له، برغد العيش، وكف العسر، استعذب، موارد البطر، واستوطأ (وجده وطيئا)، مركب الاشر (بطِر، واستكبر، ومرح، ونشِط)، وأسلس (جَعَلَهُ سَهْلاً) قيادا، لداعي شقائه، وجار (مالَ وعَدَل) في بلائه.
فجرى في كسف (كسفت الشمس: احتجبت في النهار، كليا، أو جزئيا)، ليل داج، على شفا جرف هار، يتورط المهالك، ويخبط خبط عشواء، قد ذهل، عن شكر النعم، ولها، عن ذكر الواجب.
أنسته خيانة شكره، خوالي حالاته، وغوارب أزمنته، إذ هو غير مَوْئِل (مَلْجأ ومَنْجى)، طلبا، ولا مستبق جهدا، في سد رَمَقَه، وستر خصاصته (الخَصَاصَةُ: الفَقْر، والحاجة، وسوء الحال)، لا تتسع حاله، لدفع مذلة الفقر، ولا يفك عن عنقه، ربق (حَبل)، وهوان الفاقة.
وذلك أنت، حين نالك من نعم، من لم تشكره على بلائه، ولم تجزه بآلائه، ما تقدمت به أشباهك، ونظراءك.
ولولا ما أحببت، من أن أكون، بالغ عذر، ولا مُرَهَّق (موصوف بالجهل وقلة العقل) عَسِر (شديد، قاس)، ولا طالب اعتلال (تمسك بِحجَّة، وبالأمر تشاغل، أَو تلهى)، بترك مُظاهَرَة الحجج، وتوكيدها (تَوْكِيدُ الأمْرِ: تَأكِيدُهُ، إحْكَامُهُ، تَوْثِيقُهُ)، قابضا يد العقاب، قبل المداورة (داور الأمر: عالج)، وملبسا جناح الرحمة، قبل النقمة، لأمسكت، عن الكتاب إليك، والعلم لك، إلى أن تبسل، بما كسبت يداك، وما الله بظلام للعبيد.
فأقلع، عن صَبابة (حَرارة) غَيّك (ضَّلاَل)، وتنكب (نكب: عدل)، خطل (حاد عن الصواب) رأيك، إذ باب التوبة، لك مفتوح، وبطانها، بقبول إنابتك مشعوب، قبل أن يسقط بك، يد الافراط، على النوب (التوبة)، ولا يبعد الله، إلا من ظلم، والسلام.
فلما ورد الكتاب، على الذئب، أخذه ما قدم، وما حدث، فقال: يا أبا الصّباح، أما تسمع إلى هذا الوعيد، فرُبَّ صَلَفٍ، تَحْتَ الرَّاعِدَةِ (الصَّلَف: قلة النزل، والخير، والراعدة: السحابة ذاتُ الرعد. يضرب للبخيل، مع الوُجْدِ، والسَّعَة).
قال الثعلب: أيها الأمير، ان النمر، وان كان من الأخلاق الضيقة، على ما قد عرفت، وعرفنا، فقد تردى (لبس)، برداء الملك، ودَعِيّ (يَدَّعِي) باسمه، وسار بسيرة نظرائه.
والملك صبي الرضا، كهل الغضب، يأمر بالقتل، وهو يضحك، ويستأصل شأفة القوم (إستأصل شأفة الأعداء: أزالهم من أصلهم)، وهو يمزح، يخلط الهزل، بالجد، ويتجاوز في العقوبة، قدر الذنب، وربما أحفظه (أغضبه)، الأمر اليسير، وربما أعرض صفحا، عن الخطب الكبير.
أسباب الموت والحياة، معلقة، بطرف لسانه، لا يعرف، ألم العقوبة، فيُبقي، ولا يؤنَّب، عن بادرة، فينتهي، يخطئ، فيصوّب (عده صوابا)، ويصيب، فيفرط، مفتون الهوى، فظ الخليقة، أخرق العقوبة.
لا يمنعه، من ذي الخاصة به، ما يعلمه، من حزمه، وعنايته، وطول صحبته، أن يقتله، لخطرة (مَا يخْطر، فِي الْقلب) من خطرات موجدته (غضب)، ولا ينفك، أن يخَطِبَ إليه، (أَلَمَّ بِهِ مَكْرُوه) مكانه، وينافس الرجال، موضعه، فلا الثاني، بالأول، يعتبر، ولا الملك، على مثل ما فرط منه، يزدجر، وإن لم يبن ذلك، لخطرات محمودة، لو حصلها ذو اللب، لم ير في خيرها، عوضا من شرها، ولا حلوها، ما يقوم بمرها.
فارفق به، واسلك سبيل موافقته، فإنك راع عليه (عَائد، راجع)، في ولايته (سلطانه)، ولا تأخذ به، في طريق العجب (كبر وزهو)، فيأخذ بك، في طريق القهر، والغلبة.
قال الذئب: قد علمت، ما أردت من النصيحة، ودللّت عليه، من الرأي، وهديت له، من الصواب، ولكنى امرؤ، لم أرم (مال) الذل، أنفي قط، ولم أقسم، على خطة خسف (ذل، قهر)، وقد أظهر هذا الملك، من غضبه، ما فسدت معه، نيته، ولا صلاح لها.
قال الثعلب: ان الموجدة، إذا كانت عن علة، كان الرضا، موجودا، وإذا كانت عن غير علة، عدم الرضا، لأن الباطل، لمن طلبه، موجود، على كل حال.
قال الذئب: الموت اذن، لا محالة، ولأن أموت عزيزا، أحب إلي، من الحياة ذليلا، وكل شيء بقدر.
قال الثعلب: ان الأقدار، وان كانت نازلة، فليس تمنع، الحازم، من توقي المخوف، والاحتراس، من المحترس منه، لكنه، يجمع، تصديقا بالقدر، وأخذا بالحذر.
قال الذئب: ان سريع الاسترسال، لا يكاد، يستقل (يخرج من)، العثرة (سقطة)، فاكتب، جواب هذا الكتاب، بين الإِلانة، والإغلاظ، ولا تؤخر، ذلك.
ففهم عنه الثعلب، ما يريد، من شق العصا، وما يهم، به من الخلاف، وما دخله من العجب، بما أفاد، فكتب إليه كتابا، نسخته:
بسم الله الرّحمان الرّحيم
صلى الله، على سيدنا محمّد، النبي الكريم
أما بعد، فإن كتاب الملك، أمتع الله به، وصل إليّ، بما حذر فيه، وأنذر، وقدم وأخر، وفهمته.
وقد كان الملك، حفظه الله، أسند إليّ، أمر هذا الثغر، المخوف، على حين، انتشار من العدو، به، وانقطاع من سبله، واختلاف من الكلمة، بين أهله، وتفرق، من الأهواء فيه.
فرأيت، صدع الآفة، وجمعت، شمل الطاعة، وكشفت، دجمة (ظلمة) الفتنة، وأسغت (أساغ الطعام، أو الشراب: سهل مدخله، في الحلق) الريق، بعد الشجا (مَا اعْترض ونشب فِي الْحلق من عظم أَو نَحوه؛ حزن، هم)، وقمعت، أولي العداوة، والبغضاء، وأقمت حقا، كان معلمه، متروكا، ودمغت (قهر وغلب) ضلالة، كان محرمها، مسلوكا، ألتمس بذلك، جزيل الثواب، وكريم المآب، ورضا الملك، والزلفة عنده.
فعاد ما عملته، هباء، ولم أجد منه، شيئا مشكورا، وما يقعقع، لمثلي بالشنان (فلَان، لَا يقعقع لَهُ، بالشنان: لَا يخدع، وَلَا يروع)، واني، لألوى (شديد الخصومة)، بعيد المنتشر (انتشرَ)، فإن يستتم، الملك صنيعته، ويرب (زاد)، نعمته، فأنا بين العصا، ولحائها (اللِّحاء: القِشْر؛ يضرب للمتحابين، الشَّفيقين، وكله إشارة، إلى غاية القرب، بينهما)، والا، فسيجدني، جذل (جَذَلَ: اِنْتَصَبَ، ثَبَتَ، جَذَلَ لِلْقَوْمِ، يُحَارِبُهُمْ) حِكاك (هو حكاك شر: نزاع إليه متسبب فيه)، إذا نكأت قرحة، أدميتها، أحمر (شديد)، ضرابا بالسيف، والسلام.
فلما قرأ، الملك الكتاب، علم، أنه قد أجمع، على الخلاف عليه، والمحاربة له، فجمع وزراءه، وكانوا ثلاثة، فاستشارهم في أمره.
قال أحدهم: أرى أن يكتب إليه الملك، كتابا موجزا، يعرف به ذات نفسه، ويكشف ما في صدره، حتى يأتي، الملك على ما يأتي، من أمره، عن بينة، واستظهار عليها، بالحجة.
قال الوزير الثاني: أرى، أن يتلافاه (يتداركه) الملك، ويصفح عن زلته، ويتجافى له (عفا عنه وأعرض)، عما في يده.
فإنه، إن بودئ بالعداوة، احتيج إلى محاربته، وإلى جمع الرجال، وإنفاق الأموال، بالأضعاف، لما كان ينجلب، من الخراج، بناحيته، ثم لا يدرى، كيف تكون العاقبة، إذ هي الحرب.
والحرب سجال، فإن تكن الحسنى، فبعد نفاد المال، وسفك الدماء، وإن تكن الأخرى، جلّ الخطب، وتفاقم الأمر، ودمن (حقد، لزم) العدو، بكل مكان، وأشربت الفتن.
وإنه كان يقال: أكيس القوم، من لم يلتمس الأمر، بالقتال، ما وجد، إلى غير القتال، سبيلا، فإن النفقة فيه، من الأنفس، والنفقة في سائر الأشياء، من المال، ومن يؤاكل الفيل، يؤاكل الحَيْن (المِحْنَةُ، الهلاكُ).
قال الوزير الثالث: لا أرى تلك، ولا هذه، ولكن، أرى معاجلته، ومناجزة الحرب، قبل استفحال أمره، واستغلاظ شأنه، واستجماع مكائده، فإن السلطان، لا يستكثر، إنفاق مال عظيم، على إصلاح، الناحية اليسيرة.
وما الصلاح في ذلك، بخاص لناحية العدو، دون سائر النواحي، والأطراف، فإن أعناق أهل الفتن، بكل ثغر، خاضعة، ومتى رأوا، أن سنة السلطان، في من نبذ أمره، جارية، على ما أشار به، الوزير الثاني، من النظرة، مدوا للفتنة، أعناقهم، ووضعوا أثقال، فرائض السلطان، عن ظهورهم، وبسطوا أيديهم، واتصل لذلك، ما لا صلاح معه، في دين ولا دنيا.
فأخذ النمر، بقول الوزير الأول، فأمر بالكتاب إليه، نسخته:
بسم الله الرحمان الرحيم
صلى الله، على سيدنا محمد، النبي الكريم
أما بعد، فإني رأيتك، تقدم رجلا، وتؤخر أخرى، فإذ نظرت في كتابي، هذا، فاعتمد، على أيهما شئت، فإن كنت سلما، فأقبل، والا، فأذن بحرب، والسلام (كتاب، يزيد بن الوليد بن عبد الملك، إلى مروان بن محمد).
فلما قرأه الذئب، أيقن بالشر، وعلم ألاّ هِواد (إبطاء) له، عن النمر، ولا غيره، فدعا الثعلب، فقال له: ما ترى؟
قال الثعلب: إن الرعية، لا تقوى، على حرب الملوك، ولا تقدر، على مغالبتها.
قال الذئب: وكيف ذلك؟
قال الثعلب: إن الرعية، لا نظام لأمرها، ولا بقاء لصبرها، ولحرب الملوك، معدنان، أحدهما من الآخر.
بلقاحهما، ينتج النصر، وبقوتهما، يستنبط الماء، من الحجر، وبنارهما، يطفأ الشرر، وإذا استمرا، لم يثبطا، وإذا اعتمد عليهما، لم ينهكا، من عاندهما، مخذول، ومن خادعهما، مرذول، ومن ساجلهما (سَاجَلَ صَاحِبَهُ: بَارَاهُ، نَافَسَهُ)، مسجول.
فلا تَهَتَّكَن (تفتضح، تقطع)، عنك شيئا، وَصَلت الطاعة، حباله، واتعظ، بمن عاند الملوك، في آماد الدهور، وانظر، إلى ما آلت إليه، حالهم، فإن لك في ذلك، معتبرا، ولك فيه، منظرا.
قال الذئب: وما هذان المعدنان، اللذان حذرت شأنهما، وعظمت أمرهما؟
قال الثعلب: هما المال، والرجال، وهما من الملوك، وهما للملوك، دونك، وقد كان يقال: من غالب الملك الحاذق، الأريب (مَاهِرٌ، عَاقِلٌ، متبصر)، المصنوع له (المعمول، المُسدى له)، الذي لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، فإن حينه، يحدوه، وقال بعض الحكماء: معاداة الملوك، كالسيل بالليل، لا تدري كيف يأتيك، ولا كيف تتقيه.
فإما أتيت الملك، حتى تضع يدك، في يده، سلما، وإما، أن تتخذ، وَزَرا (الملجأُ، والمعتَصَم، يُتحصّن به) تلجأ إليه، أو مُدَّخَلا (نفق، أو مسلك، يمكن الاختفاء، فيه)، فتحرُز (حرُز الرَّجلُ: امتنع وتحصَّن) نفسك فيه.
فإنه كان يقال: ليس للعدو، الذي لا يطاق، ولا تمكن الفرصة فيه، إلا الهرب منه، فلا أعرفك، مترددا في أمرك، ومتحيرا، حتى تؤخذ بحَطْمك (ضعف، وهن)، فتندم، فلا تقال (عده قليلا) من ذنبك، وقد قيل: إنْ أرَدْت المُحَاجَزَة فَقَبْلَ الْمُنَاجَزَة (المحاجزة: الممانعة، والمناجزة: من النَّجْز وهو الفَنَاء، معناه انْجُ بنفسك قبل لقاء مَنْ لا تقاومه) .
واعلم، أن الرجال ثلاثة: حازمان، وعاجز، فأحد الحازمين، من إذا نزل به الأمر، من البلاء، لم يدهش، ولم يذهب قلبه شعاعا (طَارَتْ نَفْسُهُ، خَوْفاً وَفَزَعاً، خَفَّتْ هِمَّتُهُ)، ولم يغرب رأيه، عن حيلته، التي يرجو بها المخرج، من ورطته، وأحزم من هذا، المتقدم، ذو العدّة، الذي يعرف الأمر، قبل وقوعه، وأما العاجز، فالذي لا يزال في التردد، والتحير، حتى يهلك.
قال له الذئب: ليس الأمر كله، كما وصفت، وانما الحاجة في الحرب، إلى النَّجْدَة (الشجاعةُ في القتال).
قال الثعلب: إن النجدة، يدركها الزلل (الخطإ)، من خطإ الرأي، وقد يجزي (كَفَى، أَغْنَى) الرأي، بلا نجدة، ولا يجزي البأس شيئا، يستغني فيه، عن الرأي.
قال الذئب: اكتب له، بتجديد الخلاف، عليه، فإن الصِّدْقُ، يُنْبئ عَنْكَ، لاَ الْوَعِيدُ (إنما ينبئ عدوَّكَ، عنك، أن تصدقه في المحاربة، وغيرها، لا أن توعِدَه، ولا تنفذ، لما توعد به).
فكتب الثعلب إليه:
بسم الله الرحمان الرحيم
صلى الله، على سيدنا محمد، النبي الكريم
أما بعد، فقد قرأت كتابك، بما كشف، عن ضميرك، وبين، عن ضعف حُوَّلِيٌّك (حيلتك)، تأمر، بالمسير إليك، والوقوف، بين يديك، أو، الاذن بحربك، والترقب لكيدك.
فطالما أجريت، على غوايتك (ضلال، ضياع، فساد)، وتمتعت بظَلالتك (ظَلالة: ما أظل)، مغترا السلامة، آمنا لعواقب الندامة، تستفتح، بالأماني أمورك، وتشد، بالآمال خديمك (هُوَ خَدِيمُهُ: عَامِلٌ، تَحْتَ تَصَرُّفهِ، يَشْتَغِلُ بِأمْرِهِ).
وقد عوذتك (حصَّن) الأيام، حيف (ظُلم، جوْر) دولها، وأَجْرتك (جَعَلَتهُ يَسِير، على طَرِيقِ)، حبل غرورها (كل ما يغر الإنسان، ويخدعه، من مال، أو جاه، أو نحوهما)، وأغفلتك، عن نصب خدعها، وألبستك، حلل متعها (مباهجها)، واستخفك (استخفّ الشّيء: عدَّه، أو وجده، خفيفًا)، مَهل (المَهَلُ: التَّقدُّمُ في الخير) الزمان، وأعجبك، كثرة الخَوَل (الخَوَلُ: عطيّة الله، من النِّعَم)، والأعوان، حتى ظننت، أن صرعتك، حرام على الدهر، وأن يومك، منسي إلى الحشر.
كأنك، لم تر، أولي العناد (الْخِلاَف، اللِّجَاج، التمادي في الفعل، المزجور عنه ومنه) الظاهر، والعز القاهر، وذوي التحاشد، والتناصر، قد طغوا، فبغوا، وبؤسوا، فاجترؤوا، وأوسعوا، فأفسدوا، فكيف قطع، الدهر آمالهم، وضعضع، أركانهم، وهدم، بنيانهم، وفرق، جماعتهم، وصدع، شملهم، وفلل (كسر، هزم)، حدهم، وأسلمهم، إلى مصارع خزيهم، ونوازل، النقم بهم، تضربهم يد الأمن، بسيف الاغترار، وترميهم الطمأنينة، عن قوس العِثار (الشَّرّ، ما عُثِر به)، ويجيء الزمان عليهم، بشقاء الأقدار، فدحرجتهم، من الأيام، الثقة، وتغيرت لهم، من الزمان، المِقَة (المحبة)، فصاروا إلى الهون، بعد القوة، وإلى الذلة، بعد العزة.
وتلك عاقبة، من أضاع الحق، وغَمَطَ (أنكر، جَحَدَ) النعمة، واستشعر النَّخوَة (العظمةُ والتكبر)، واشتمل بالعجب، آفة العقل، وادَّرعَ للحاجة، بقوى الهوى.
فتحسبني، عود المنكسر (هان أمرُه)، وهشيم المحتظر (المحتمي بالهشيم، وهو الضعيف، اليابس، المتكسر)، كلا، بل عصبت بالساعد الأشد، ودهيت بالخصم الألد، ورميت، بالحجر المَصَد (الذي يذلل)، شوكة، طعنكم الله بحدها، فلا ينتعش، شابكها، ولا يخبو، لظاها، بها، شَجِيّ (همّ وغمّ) العتاة، المتكبرون، والظلمة الجبارون مثلك.
فارْقَ على ظَلْعِك (اصعد بقدر ما تُطيق)، أيها النمر، فإنا، لن تحمل أبداننا، ذل سلطانك علينا، ولن نظلم أنفسنا، بحكمك فينا، وليس لك عندنا، إلا حد السيوف، وملاحم الزحوف، ومطاولة (مغالبة) الأبطال، ومنازلة الأقران، ظلك (شخصك) منا، خافق (منحط،) البنود (العلم)، وشمك (رائحتك) منا، سهك (صدأ) الحديد.
فإن رجعت عن التهور، بحسن التدبير، فذلك أحجى (أجدر) بك، وإلا، فإني بما أدنت به، أدين.
فلما ورد الكتاب، على النمر، أقلقه، وآلى (أقسم)، ليسقين الأرض، دمه، وأنهض لمحاربته، نمرا، يقال له، الوثّاب، ابن المنتهش (من إِنتَهَشَ)، قد جرسته (حَنَّكته) الحروب، ونَجَّذَتْه (أحكمَتْهُ) الوقائع، له صولة في العدو، وهيبة في صدور الرعية، وأمره بالإقدام عليه، ومناجزته (نازله، وقاتله) القتال، وقدم إليه، كتابه، يرعبه فيه، ويملأ صدره، ويفت عضده:
بسم الله الرحمان الرحيم
صلى الله، على سيدنا محمد، النبي الكريم
أما بعد، يا ابن اللكيعة (لكيع: لئيم، حقير)، وعبد العصا، أبِالحرب، تخوفنا، ونحن فَلَق (صبح)، جوانها (سوادها)، ومراضع، ألبانها، ومثير (إِثارة)، عجاجها (غُبار) ورهجها (الْغُبَار، والسحاب الرَّقِيق)، وخائضو، أغمارها ولججها (سوادها، صخبها)، وسحائب (معظم) الدماء، بسيوفنا تنهل (نهل: شرب وروي)، وبروقها (برَقَ: لمع، تلألأ)، من صفائحنا (صفح السَّيْف: عرضه)، تنكل (نكل به: صنع به صنيعا، يحذر غيره، إذا رآه).
فنحن أبناء الحُتُوف (الهلاكُ)، وفضلات (ما بقي من) السيوف، ما نجم (طلع وَظهر) قرن فتنة، إلا حددناه، ولا سعى علينا، فيها باغ، الا أبرناه (أهلكناه)، معاقلنا السلاح، ولقاؤنا الكفاح (لقيته كفاحا: أي مواجهة).
إذ الموارد (موضع ورود الماء)، حياض (مجتمع الماء) الحِمَامُ (قَضَاءُ الموتِ، وقَدَرُه)، ومياهها، كؤوس السِمام (سَّمُّ)، نحمل إليها، ونَهِل (نهِل الشَّخصُ: شرِب، حتّى روِي).
فلو رأيت، رَحَى (حَوْمَةُ) الرَّدَى (الهَلاكَ)، تدور (دارَت رحى الحرب: اشتعلت واشتدَّت؛ دارَت عليه رحى الموت: نزل به الموت)، ودماء الأبطال، تفور، والقرن، إلى القرن، يثور، حين لا يسمع فيها، إلا العويل، والهدير، والزفير، اذا لما وَأَلَت (لَجَأَ)، إلى عَصَر (ملجأُ) يحصنك، ولا لجأت، إلى وَزَر (ملجأُ) يعصمك، و لعضضت، على أناملك بالندم، ولات ساعة مندم.
فأيقن، أيها المغرور، السَادِر (التَائِه) في غيه، بيوم، قد أظلك، تبدو كواكبه، وتحف بك مواكبه، كما قال فيه الشاعر:
تبدو كواكبه، والشمس طالعة
لا النور نور، ولا الظلام اظلام
وذلك يوم عليك، أوله الدنيا، وآخره الآخرة، فأين حينئذ، من الله الهرب، وهو الطالب، وفى يده المطلوب.
أفعلينا تطلق، عِقال (المانع للبعير، من السير) الفتنة، وتوقد، نار الحرب، احتراسا للحتف المورود (المدخول فيه)، واكتسابا، للأمر المُوَفّى (وفَّى الشّخصَ حقَّه: أعطاه إيّاه، تامًّا)، مكابرة، لأمر الله، تبارك وتعالى، في قضائه، واحتراسا، لمجاري أحكامه، قد سول لك الشيطان، أماني، كلمع السراب، وهيهات منها الشراب.
وقد جردت لك، وثاب، بن المنتهش، الحامي للحقيقة، والذاب (ذَبَّ: دَفَعَ عَنْ وَحامَى) عن الحفيظة (حمية، محارم، مقدسات)، الطالب لوثرنا (طيب العيش، سعة)، والحافظ على أمرنا، يخترقك بسيفه، ويقترشك (يقطعك) بطرفه، ويلقيك في الهوة، فانظر في موضعك، فإنك إنما تقع، على دمك، فإن أبيت، فلليدين وللفم (كلمة يقولها الشامت بعَدُوه، تَعْساً لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ)، والسلام.
فلما ورد الكتاب، على الذئب، ملأ صدره، رعبا، وأيقن، أنه ملاق، حربا، فقال للثعلب: يا أبا الصباح، ماذا ترى؟
قال الثعلب: إن الرأي، مثل الشجرة، تؤتي أكلها، كل حين، موقوت، فإذا فرّطت جناها، أضعت حظك منها.
وقد كان لك، عن المكروه، مَنْدُوحَة (غِنىً)، إذ كان الرأي، غير مشكل (أَمْرٌ صَعْب)، فأما الآن، فأيقن أنك ملاق، فشمر، للحرب عن ساق.
وقد أرى، سلاحك جميعا (معْزوم عليه)، وبدنك، ضليعا (قويُّ)، وجثمانك، ثابتا، وجأشك، رابطا، فالق وثابا، بجدك (إجتهاد) وحدك، ولعله، أن يكون قد أظلك.
فما افترقا، حتى رأيا الغبرة، طالعة، فخرج إليه الذئب، فالتقيا، فقال له وثاب: علام، بقتل الاصحاب، بيننا؟ هلم إلى المبارزة، فإنها عدل في الحكومة، وفصل في الخصومة.
فقال الذئب: إن بين النفوس، فضلا، وليس ما دعوت إليه، يعد، عدلا.
قال وثاب: ليس يثبت الفضل، بادعاء الفضل، ولا القول، بغير الفعل، فأرنا من ذلك، لنفسنا، ما يكون مصدقا، لقولك، وشاهدا، لحكمك.
فتغاورا (أغار بعضهم، على بعضهم الآخر)، فضربه وثاب، بكفه، فمزّق، إهابه (جلد)، ونهشه الذئب، ففرا (شَقَّ)، أوداجه (جمع ودج، وهو العرق، في العنق)، فسقط ميتا، وأنفض عسكره.
وحمل (حمَل فلانٌ على نفسه: جَهَدها) الذئب، مضروبا، وقيرا (مَشْقُوق)، فما لبث، أن برأ، وصلح، حاله.
وأتى الخبر، النمر، فأفظعه قتل وثاب، وانفضاض عسكره، فجهز جيشا آخر، أمر عليه نمرا، من ثقات أصحابه، يقال له، خدّاش بن عضاض، معروفا، بالنجدة (الشجاعةُ في القتال) والبأس، كامل العدة، والسلاح، وقدم إليه، كتابا إلى الذئب، نسخته:
بسم الله الرحمان الرحيم
صلى الله، على سيدنا محمد، النبي الكريم
أما بعد، فإنك لم تَمِرْ (تَمِرَتْ نفسُه بكذا: طابت)، بقتل وثاب، صَّوْبُ (المطر، بقَدْر ما ينفع، ولا يؤْذي) سحاب، ولا استدررت (اسْتَدَرَّت الريحُ، السَّحابَ: أنزلت منه المطر) به، عذب شراب، بل مريت (مَرت الرِّيحُ السَّحابَ: أنزلت منه المطر) به، سوط عذاب، وكأس سَلَعٍ (شجر مُرّ ٌ، ينبت في اليمن)، وصّاب (شجرٌ مُرٌّ، به عصارة بيضاءُ، كاللَّبن، بالغة المرارة، إذا أصابت العينَ، أتلفتها).
لو قد رأيت، حلق (سلاح، درع) الحديد، مضاعف التشديد (هو التشدد، في فعل الشيء)، وخوافق (خَفَقَتِ الشيءُ: اضطرب وتحرَّك) البنود (البَنْدُ: العَلَمُ الكبير)، محفوفة بالجنود، وبوارق السيوف، تضحك إلى الزحوف، وتفتَّر (تفتَّر الشَّيءُ: فتَر، سكن بعد حِدّة)، عن الحتوف (الحَتْفُ: الهلاكُ)، والقنا (رمح)، يتحطم، واليَلَب (الدُّرُوع، الفُولاذُ من الحديد)، يتهشم (يتكسر)، والأسنة (جمع سِنان، نَصْلُ الرُّمْحِ)، ترعُف (رَعَف: سال وسبَقَ)، والقلوب، ترجف ، والفرائص (فَرِيصَةٌ: اللَّحْمَةُ، بَيْنَ الْجَنْبِ، وَالصَّدْرِ، وَالْكَتِفِ، وَهُمَا فَرِيصَتَانِ. يُقَالُ: اِرْتَعَدَتْ فَرَائِصهُمْ، لأَنَّ هَذِهِ اللَّحْمَةُ، تَرْتَجِفُ، فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، وَالْفَزَعِ)، ترعد، والسواعد، تَخْضَد (خضد الشيء: انكسر)، والهام، تَتَفَلَّق (تَفَلَّقَ فِي العَدْوِ: بَالَغَ فِيهِ، وَجَاوَزَ الْمُعْتَادَ)، والرقاب، تتعلق، إذا لاستبدلت، بفرحك ترحا، وبسرورك برحا (شدائدَ ودواهي)، وباغتباطك ندامة، وبتفريطك ملامة، وبجذلك (فَرح) إبلاسا، وبطمأنينتك أنحاسا (تمكَّن الأمرُ، من نفسه).
واعلم أيها المغرور، أن للباطل، دَّوْلَة (الدَّوْلَةُ: الاستيلاءُ والغَلَبَة) يٌبْصِرها، حيف (ظلم) الدهر، وتسلُّط، الايام بالقهر، وتنكبها (كَانَ عَوْناً لها)، غلبة الانذال، وحجج الجهال، ويحوطها، حُسَّاد النعم، وسقاط الهمم، ويحمي عنها، أولو الخمول، وذوو الضعف، في العقول.
حتى إذا ظن، ساداتها، وقاداتها، أن قد اسْتَغْلَظ (اكتمل) سوقها (ملكها)، وخيّلت (أَوْشَكَت) بَرْوَقها (جنس نبات؛ ما يكسو الأرضَ، من أوّل، خُضرة النبات)، وقام عمودها (عمود الأمر: قوامه، الذي لا يستقيمُ، إلاّ به)، واستحكم سريرها (سرير: نعمة وبحبوحة)، ونطق صموتها، وتمرّد (تكبر، وجاوز الحد) هيّنها (الحقيرُ)، واستجمع كيدها، وتَأَرَّب (اِشْتَدَّ) عقدها، تاحت له، يد الحق، فحصدت هشيمه، وخَضَدت (قطعت، كسرت) جميمه (الكثيرُ، المجتمِعُ، من كلِّ شيءٍ)، واختلبت (خلَب: سَلَبَ) بَرقه (لَمعه)، وصرفت وَدقه (الوَدْقُ: المطرُ، شديدُه، وهيِّنه)، وردت كيده، وأوهت (أضعَفَت) أَيده (قوّة، وقدرة، وشِدّة)، وكسرت عموده، وأوهنت شديده، وأخرست ناطقه، وطمست شارقه.
وتلك مُعَقِّبات (جمع مُعَقِّبَةُ، عَقَبَ: خلفَ)، إليها تصير، فغلبة الباطل، تمحيص لأولي الألباب، واختبار عقول، ذوي الآداب، وظهور أهل الحق، نقمة في المجرمين، وعقوبة للمذنبين.
وقد وجهت للقائك، خدّاش بن عضاض، منازل الاقران، وأخا الحرب، العوان، متّزرا بالحزم، ومتيقظا بالعزم، يقدمه النصر، ويتبعه الظفر، لا يبقي، ولا يذر، حتى يعصبك، عَصْبَ السَّلَمَةِ (وهي شجرة، إذا أرادوا قَطْعها، عَصَبُوا أغصانَها، عَصْباً شديداً، حتى يصلوا إليها، وإلى أصلها، فيقطعوه)، ويُحِلّك، دار النقمة، خارجا، من سعة العَطَن (فُلَان، وَاسع العطن، واسِعُ الصَّبْر، وَالْحِيلَة، عِنْد الشدائد، سَخِيٌّ، كثيرُ المالِ)، إلى ضيق الاسر، ومن عز القدرة، إلى ضَيم (ظُّلم، أَو إِذلال) القهر، ومن خلاء الضَرَعَ (ذُلَّ) ، إلى خشوع العبودية، ومن جزل (الجَزْل: الكثير، العظيم، من كلِّ شيء) الغنى، إلى خضوع الاستكانة (خاضع بصورة مُذِلّة).
قد أسلمتك جرائرك (الجَريرة: الجِنايةُ، والذَّنْبُ)، وأَوبَقَتك (أَهْلَكَتك)، جرائمك، تَتَلَهَّف (حَزِن وتحسّر)، على فَرْطَانك (فَرَّطَ في الشيء: قَصَّرَ فيه، وضيَّعَه، حتى فات)، وتُحاول، قبول التوبة، ضرعا، وأني، لك بإقالة العثرة (أقال عثرته: دفع عنه، شرَّ ما يحدُث له، من زللٍ)، بعد سوء الصرعة (صرعته الْمنية)، فلا أبعد الله (أبعده عن الخير)، غيرك، والسلام.
فلما ورد، الكتاب، على مكابر، دعا بالثعلب، فاستشاره، وقال: أنا والله، ما أفْلَتّ، من وثاب، الا، بجُرَيْعَةَ الذَّقْنِ (وهي كناية، عما بقى، من روحه، يريد، أن نفسه، صارت في فيه، وقريباً منه، كقرب الجرعة، من الذقن)، وخدّاش، من قد عرفت، ثابت القدر، بعيد الأثر، رابط الجأش، شديد البأس، وإني لأراني، بلقائه مغرورا، وبالنكول (نكل: رجع عن) عنه، جديرا، فما ترى؟
قال الثعلب: ليس الغرر (التَّعريض للهلاك، أو للخطر)، ان لا يثق المرء، في الحرب، بالظفر.
قال الذئب: ان لم يكن الاقدام، على غير الثقة، غررا، فما الغرر؟
قال الثعلب: بإضاعة النظر.
قال الذئب: أو ليس قد قالت الحكماء: ركوب الغرر خطأ.
قال الثعلب: صدقت، ولكن، لكلمتهم هذه، عبارة مُجْمَلَة (مُجْمَلُ القَوْلِ: مُوجَزُهُ، خُلاَصَتُهُ)، تحتها معنيان، فأحدهما، إن كان عن الْهَوْل (الأَمرُ الشديد)، مَنْدُوحَة (من هذا الأمر، مندوحة: يمكنك تركه، والميل عنه)، فركوبه خطأ، وإلا، فركوبه صواب.
قال الذئب: فما موضعه في الخطإ، وموضعه، في الصواب؟
قال الثعلب: إذا كنت راكبا، هولا، لاجترار نفع، دونه مَقْنَع (ما فيه كفاية)، أو لدفع ضرر، له مدفع، فدفعه خطأ، وإذا كنت دافعا به، أعظم منه، أو مضطرا إليه، غير مزحزح عنه، فمدفعه صواب.
قال الذئب: قد فهمت ما قلت، غير واحدة، فأين الذي أعظم، من هول الحرب، وهولُها الموت؟
قال الثعلب: دخول النار، ولا لزوم، العار.
قال الذئب: فصف لي، الحرب.
قال الثعلب: الحرب، بدن، له طبيعتان، مختلفتان، وخلق واحد، يقوى، ويضعف.
فطبيعتاه: علة (ما يتعلل به) الخصمين، وخلقة (طبيعة) الرجاء، وعلة الخصمين، من اختلاف الأمر، بين الفريقين.
وخلقه، أن كل فريق منهما، رام، أن يدرك بغيته.
ولو اتفق الخصمان، ماتت الحرب، ولو زال عن أحدهما، رجاء الظفر، سلم الآخر.
قال الذئب: قد زعمت، أن بدن الحرب، يثبت، على اختلاف طبيعته، ولسنا نجد، الآن، بدنا يثبت، إلا على ائتلاف الطباع، وتمازجها، فكيف وقع تشبيهك، بضد معناك؟
قال الثعلب: انه ليس، بضد، ولكن، إنه ليس حياة، بدن الانسان، باتفاق طبائعه، في معنى واحد، ولكنه، بترك تغالبها، وهي مقيمة، على اختلافها، وإن زال التغالب (التنازع) عنها.
فاِسْتَخِرْ الله (استخار اللهُ تعالى: سأله، أن يوفِّقه، إلى اختيار، ما فيه مصلحته، وأن يُعجِّله له)، واستعمل قول، لبيد (بن ربيعة)، شعرا:
وَاِكذِبِ النَفسَ، إِذا حَدَّثتَها
إِنَّ صِدقَ النَفسِ، يُزري (يعيب) بِالأَمَل
فلم يستتما، ما هما فيه، الا وخدّاش، قد طلع، بالعساكر.
وخرج الذئب، فلما تراءيا، دعا للبراز، فمشى إليه النمر، وهو يقول:
أنا خدّاش، وأبى عِضاض (صَبُورٌ عَلَى الشٍّدَّةِ)
وفى يميني، قاطع رضاض (رضَّ الشَّيءَ: كسرَه، دقَّه وضربه بشدة)
له صفاء وله بياض
كأنه برق الثَّرَى (النَّدى) الومّاض (اللماع)
في الهام من آثاره عضاض
صينت به الاحساب والأعراض
فمشى إليه، مكابر، مرتجلا، وهو يقول:
أنا أبو الفرا، وابن المنتهش
وفى يميني، ضارب القبس (النار)
كأنه، بَرْقٌ يماني، في الغلَس (ظُلمة، آخر الليل، إذا اختلطت، بضوء الصَّباح)
يُفَلِّق (أتى بالأمر العجيب) الهام (مُتَحَيِّرٌ) ويُودي (يهلك) بالنفس
فهو لأرواح العداة مختلس
صينت له الاعراض من ليل دنس
فضربه خدّاش، بكفه ضربة، فخلع يده، ونهشه مكابر، فألقى حشوته، فخر النمر، ميتا، وحمل الذئب، مغشيا عليه، فلم يزل يعالج، حتى برئ.
وبلغ النمر، قتل خدّاش، وتفرق عسكره، فسقط ما في يده، وظنَّ، أن ذلك سبب، لزوال ملكه، ففزع إلى وزرائه، وأهل نصيحته، وكانوا ثلاثة، فنعى إليهم، أخاهم خدّاشا، واستشارهم.
قال، أحد الوزراء، الثلاثة: أرى عدوكم، قد درِب (درِب على الأمر:ِ اعتاده، وأُولع به، حتَّى أصبح، حاذقًا بصنعه) في أكلكم، ووَلَغ (ولَغ الكلبُ الإناءَ: شرِب ما فيه، بطَرَفِ لسانِه، أو أدخل فيه) في دمائكم، فوجهوا إليه، جمعا كثيفا، وقائدا حازما، يناجزه القتال، ولا يتركه، للمُطال (لكثير المطل، والتأخر).
قال الوزير الثاني: أرى، أنَّ دَوَاءَ الشَّقِّ، أنْ تَحُوصَهُ (الْحَوْصُ: الخياطةُ؛ يضرب، في رَتْق الفَتْق، وإطفاء، النائرة)، بل أرى مُواعَدته (وعَد فلانًا الأمرَ: منّاه به، قال، إنه يعطيه له، أو ينيله إيّاه)، حتى تفنى مدته، فإني لا آمن، أن يهزم لكم، جيشا آخر، من جيوشكم، فيقارعكم، على أبوابكم، فاتركوه، ما ترككم.
قال الوزير الثالث: انكم، إن أنهضتم إليه، بعضكم، فما آمن، ان يكون، كاللذين قتلا منكم، وفى ذلك عليكم، ما أعوذ بالله، منه لكم.
وإن وادعتموه، واجررتموه رسنه (رسن الدابة: تركها ترعى، كيف شاءت)، وأطغيتموه زمنه، وسَوَّغتموه (أَعْطاهُ إِيَّاهُ) وطنه، والمال الذي احتجنه (اخْتص نفسه به)، اِستدَّت (اسْتدَّ: استقام وانتظَم) شوكته، واستجمعت مكيدته، واستعجل أمره، وبعد في الأرض أثره، فاِنْقَصَّت (اِنْقَطَعَت) الأَطْراف (الأَعْضاء)، وظهر في رعيتكم الخلاف.
وأرى، أن ينهض الملك، إليه بنفسه، في قواده، وشيعته وانصاره، وأرباب دولته، فإنه لا يقوم لحرب الملوك، إلا الملوك، وفى النفقة عليه، ربح عظيم، وفي الامساك عنه، خسران مبين، وفي اجتثاث أصله، نبات فرعكم، وفى قتاله، حياة لكم.
فأخذ الملك، برأيه، ونهض إليه، في عدده، وعتاده، وأنصاره وقواده.
وبلغ الخبر الذئب، فملئ رعبا، وفزع إلى الثعلب، فقال: يا أبا الصّباح، قد بلغك هذا الخطب الفادح، واحتجت إلى رأيك، فأشر به، فلمثل هذا، كُنْتُ أُحْسِيْكَ، الحسى (أي لمثل هذا، كنت أربيك، لتدفع شرا،ً أو تجلب خيراً).
قال الثعلب: قد كنت استشرتني، في أول هذا الأمر، فلم ادَّخرك نصيحة، وكرهت لك، مثل هذه العاقبة، وحذرتك، وبال الصرعة، فعصيتني، وغويت، حتى انكشف، بالخلاف قناعك، وانقطع به، عذرك.
وأشرت عليك، بلقاء أكافيك، ومدافعة نظرائك، من أعدائك، وأطعتني، ورشدت.
ثم قد أظلك، من هذا الملك، ما لا طاقة، لك به، فإن استطعت، أن تبتغي نفقا في الأرض، فتدخل فيه، أو سلما في السماء، فتصعد إليه، فافعل، فإنك، غير، قرن له، ولا، بذي يد، تحويه، وأنت بظفره، إن قاتلك، لم ترتفع منه، جراحك، ولم يقم به، مَجالك (لم يبقَ له مجال، في هذا الأمر).
فتنحّ، عن سَنَنِه (طَرِيقِه)، وغيب شخصك، عن عينه، فإن أطعتني، لم يكن موضعك، للأمير بدار، ولا محلة قرار، فإذا انصرف عنك، فعد إليه، وأقم، على ما أنت عليه.
وإياك، وحيرة الشك، وطمع الرجاء، فإنهما، أقوى أسباب، البلاء.
فعزم الذئب، على الهرب، ثم رأى، أن يستثبت، في رأيه، فدعا، ذئبا من إخوانه، فعرض عليه، ما أشار به الثعلب، فسفّه رأيه، وفنّد مشورته، وقال: لئن هربت، لما تنال به (نَالَ مِنْ عِرْضِهِ: شَتَمَهُ، سَبَّهُ)، من إضاعتنا، أكثر، أكثر، مما يناله (نَالَ مَطْلُوبَهُ: بَلَغَهُ، أَدْرَكَهُ)، عدّونا، منا.
ونحن بهذه الجزيرة، كريش منشورة، ما لنا، جحر ينجينا، ولا منفسح، في الأرض، يسعنا، وان الطلب، ليدركك وإيانا، والتفتيش عنا، يظهرنا، وسيجد الثعلب، أدنى جحر، فلا يعرف له، خبر، ولا يسقط له، على أثر.
وقد قال بعض الحكماء: إذا لقى، اللاقي عدوه، في المواطن، التي يعلم، أنه هالك فيها، إن قاتل فيها، غيره، أو لم يقاتل، فهو حقيق، أن يقاتل، كرما وحفاظا.
ولكني، أرى قتاله، حزما، وأمضى الرأي فيه، عزما، فليست الحرب، بمُظاهَرة (تتجمهر في الساحات؛ إعلان رَأْي، أَو إِظْهَار عاطفة، فِي صُورَة جماعية) الأبدان، ولا بكثرة الأعوان، ولكنها، بمَنافِذ (نفَذ: أثّر تأثيرًا عميقًا؛ خرجَ منه، إلى الجهة الأخرى) البصائر، والصبر، عند الفواحش (الفاحش: الكثير، الذي جاوز الحد، وكان فيه ضرر)، والعَصّ (عَصَّ الشَيْءُ: صَلُبَ، اِشْتَدَّ) فيه، للأبصار (أولو الأبْصار: ذوو الرؤية، والإدراك، أصحاب العقول)، والتسليم، للأقدار.
فأخذ الذئب، برأيه، واطَّرح، رأي الثعلب، وظهر للحرب.
١٨ - فَهَــلا تَــلا (حــم) قَبْــلَ التَّقَـدُّمِ
فلما دنا، للقتال، كمن له، النمر، كمينا، حتى إذا التقوا بالسلاح، وقعت في الفريقين الجراح، خرج الكمين، على الذئاب، من ورائها، ومال النمر، عليها، فكان مكابر، أول مقتول.
واستلجم (أَلبسه اللِّجام؛ لجام: أداة من حديد، ونحوه، توضع في فم الدابة، ولها سيور، تمكن الراكب، من السيطرة عليها) النمر، عسكره، واحتوى عليه، وأسر كل ذئب فيه، وأخذ الثعلب، معها أسيرا، فأمر بضرب أعناقهم، وأكل لحومهم.
حتى إذا وصل السيف، إلى الثعلب، صاح بأعلى صوته: عندي، نصيحة للملك.
فتمثل النمر، ببيت، قيل، في محمد، بن طلحة، شعرا:
يُذَكِّــرُنِي (َذَكَّرَه بالشيءَ) حَـامِيمَ (حم) وَالـرُّمْحُ شَـاجِرٌ (تَشَاجَرَ القومُ: تَخالفَوا وتنازعوا)
فَهَــلا تَــلا (قَرَأَ) حــم قَبْــلَ التَّقَـدُّمِ
فدعا به، فقال: يا خبيث، ما نصيحتك هذه؟ وطالما غششتنا، وسعيت في الفتنة علينا، وجريت، بالبغي في الفتنة، لهلاكنا.
قال الثعلب: أيها الملك، ملكت، فاسمح، وإن أحببت، أن تزداد سعة، في ملكك، وبسطة في حديثك، فاستبقني.
قال له النمر: إني لأحب، ما ذكرت، فأَمِّن لي به.
قال له الثعلب: إن أفضل المكنون (المستور، البعيد عن الأعين)، بصالح القلوب، وأنفع الأموال، اتخاذ الموالي، وعندي لك، خمس خصال، احداهن، خير من كثير المال.
قال النمر: وما هي؟
قال الثعلب: نصيحة، لا يدركها، فضيحة، وأمانة، لا تُشَوّ (تصبها) بها، خيانة، وطاعة، لا تقدح (قَدَحَ النَّارَ مِنَ الزَّنْدِ: أَخْرَجَ النَّار، مِنْهُ) فيها، معصية، وخدمة، لا تخالطها، سآمة، ورأي، لا يتعقبه، الخطأ.
قال النمر: هذه عِدات (عِدَة: وَعْد) وقد يخلف الواعد، والمُصدّق بما لم يعلم به، مخدوع.
قال الثعلب: ففي الامتحان، اختبار، وفي التَصَفُّح (تَصَفُّحُ الأَحْوَالِ: تَأَمُّلُهَا، تَعَرُّفُها)، اعتبار.
قال النمر: أجل، ولكن، في المراخاة عنك، إضاعة الفرصة، منك، وقد قال الحكيم: صناعة (كلُّ عِلم، أَو فنّ، مارسَه الإنسان، حتى يمهر فيه، ويصبح، حرفة له) الأيام، الهَلَبَ (هَلَبَ فلانًا: نال منه)، وشَّرْطُ (ما يوضع، ليُلتزم) الزمان، الآفات (آفَةٌ: كُلُّ ما يصيب شيئًا، فيفسده)، ثم التفت إلى وزرائه، فقال: ما تأمرون؟
قال أحدهم: هذا عدو، وقد كان شغل، بعداوتكم، عقله، وثنى، على بغضكم، رحله، وطوى عليه، كشحه (طوى كَشْحَه على الأمر: أضمره، وستره، وأخفاه؛ استمرّ عليه)، فكيف تطمئنون، إلى نصيحته؟
لقد اجتهد، في نقض، ما أبرمتم، وسعى، في حلّ، ما عقدتم، وإنما يريد بهذه، من خديعة، لتزول قدمه، عن مقام، عقوبته، وقد مسّه، من ألم جراحكم، وذل، الأسر فيكم، ما لا يصلح، معه قلبه، ولم يؤمن غشه.
فالرأي لكم، أن تقتلوه، وتطمئنوا، بالراحة منه، وقد قالت الحكماء: العاقل، لا يرحم، من يخافه.
قال الوزير الثاني: ما أرى قتله، إذ ليس بذي سلاح، فيتقى، كيده، ولا ذي قوة، يخاف أيده، وإنه، لأوحد بهذه الجزيرة، ما له بها، من عشيرة، وهو، من ضعف البدن، على ما ترون، ومن الذلة، على ما تعلمون.
ولئن قتلتم، ثعلبا، تخوّفا منه، ورهبا (رَهِبَ جانِبَهُ: خافَهُ) له، ليكونن، ضعفا من أموركم، وصغرا، من همتّكم، فليسعه عفوكم، يعظم به، أجركم، ونَحْوه (نحا فلانًا عنه: أبعده، وصرفه) عن أبصاركم، يفتح عن قلوبكم (باح بسره).
قال الوزير الثالث: إنه ليس يمنع العاقل، عداوة عدوه، من مقاربته، التماس ما عنده، إذا طمع في رَفْع (كَفّ، إزاحَة)، مخوف، واحتراز (أحرز، ملك)، مرغوب.
وقد مَيَّزت (فرَّق بين)، بين الحظ من الثعلب، في المَنّ عليه، وبين قضاء الوطر (قضى منه وَطَرَه: أَي، نال منه، بُغْيتَه)، من العقوبة له، بدمه، فرأيت، ما فرط من فعله، لا يعدله، الانتقام منه، بقتله، وعاجل الاستماع (الاسْتِماعُ إلى الشُّهودِ: تَسْجِيلُ أَقْوالِهِمْ، والإنْصاتُ إِلَيْهِمْ)، بالتّطولّ (تفضَّل عليه) عليه، ممكن فيه، فهَبْ، لحرمة مسألته، العفو عنه، والانتظار (الانتظار قد يكون في الخير، والشر) منه، فقد قال المتمثل: إذَا ارْجَعَنَّ شَاصِياً (ارتفعت، يداه، ورجلاه)، فَارْفَعْ يَدا (إذا سقط الرجل، وارتفعت رجلهُ، فاكْفُفْ عنه، يريدون، إذا خَضَع لك، فكفّ عنه).
فأجاب الوزير الأول، فقال: إنه، ربّ عداوة باطنة، ظاهرها صداقة، وهي أشد ضررا، من العداوة الظاهرة.
والعاقل، يفي لمن صالح، بما جعل له، ولا يثق، بما جَعَل لنفسه بمثل ذلك، من عدوه، ولا يؤثر، على البعد عنه، والاحتراس منه، ما استطاع شيئا.
ومن كان، أصل أمره، عداوة، ثم أحدث صداقة، لحاجة، حملته على ذلك، فإنه، إذا ذهب الأمر، الذي أحدث ذلك، صار إلى أصل أمره، كالماء، الذي يسخن بالنار، فإذا رفع عنها، عاد باردا.
وقد كان يقال: الضعيف أقرب إلى أن يسلم من القوي إذ هو قد احترس منه، ولن يعتريه، ما يعتري القوي، إذا اغتر، بالضعيف، واسترسل إليه، ولا أعلم، ترك العقوبة، إلا عجزا، أو ضعفا.
قال الوزير الثاني: ان القادر، من قدر على الشرّ، والعاجز، من لم يقدر، على أن يبغي، دفع ذلك.
فلا أعز، ولا أثبت أركانا، ولا أبذخ بنيانا، من إيتاء المكارم، واكتساب المحامد، وذلك، أن عز التعظيم، بالفعل الجميل، باق في القلوب، ومخلّد، في غابر الزمان.
ومن تحصّن بالجود، وتجِر بالمعروف، واستعار الحُلّة (الثوب، الجيد، الجديد)، ربطتها وسربالها (كلّ ما يُلبس، من قميص، أو دِرْع، ونحوهما)، ظفر، بما نواه، وربح، ثواب الله.
قال النمر: فإني قد رأيت، ان أعفو عنه، ولكن، امتحنوه، في مقامكم هذا، واختبروا عقله، بما تسمعون، من صحة حجته، وبيان عبارته، فإن رأيتموه، موضعا لصحبتنا، فألزموه أبوابنا، وإن لم يكن لها أهلا، فادفعوه عنها، وسائلوه، بحيث أسمع.
فاستقبله الوزير الأول، بوجهه، فقال له: أخبرني عن الانسان، وحاله، ونقصانه، وكماله؟
قال الثعلب: معنى الانسان، العقل، إذا رزقه، استحق اسم الانسان، وإذا عدمه، فقد نقص، ولا يلزمه، إلا اسم الصورة، فإن لحق بعضا، وقصر بعضا، فهو انسان، ناقص.
قال الوزير الأول: فأخبرني، عن العقل، أهو شيء، إذا نال الانسان، أدناه، فقد بلغ أقصاه، أم الناس، في نيله، مستوون، أم متفاضلون؟
قال الثعلب: بل، متفاضلون.
قال الوزير الأول: فكيف دُعي، ذو الحظ اليسير منه، باسم ذي الحظ الكبير، فقيل لهما عاقلان، وهما في العقل، متباينان، فهل يقع اللقب الواحد، على ذوي الدرجات الشتى؟
قال الثعلب: نعم، وليس ذلك، بخطأ من القائل، لأن هذه الدرجات الشتى، من جنس واحد، واللغة، تضيق عن هذا، وما أشبهه أن تدعو، كل ذي درجة، من درجات الجنس الواحد، بلقب، غير لقب الآخر، ولو كلفت اللغة، ذلك، لطال الكلام، في غيره، لتوزع المعنى المستوجب، للاسم، ولكنها، شملت كلها، باللقب الواحد، ودعت المختلفين فيه، باسم واحد.
قال الوزير الأول: فكيف يعرف، الناقص من الزائد، وقد جمعهما، اسم واحد؟
قال الثعلب: بالتمييز، وكشف المعرفة.
ومثل ذلك في اللغة، ما يُدعى به أهل صناعة، من الاسم الواحد، وهم في تلك الصناعة، متباينون في التفاوت، إذ يقال، بناة، ونجارون، وتجار، وخياطون، ولكل واحد منهم، على صاحبه في الصناعة، فضل، أو عليه له، فضل.
فالناس كلهم، مستوون، فيما يلحقهم، من النقص في العقل، وهم فيما أتوا منه، متفاضلون، أحدهم فيه، أكثرهم حظا، منه.
قال الوزير الأول: كيف مرّت هذه الغاية، ومنع، ذوو العقل، بلوغها؟
قال الثعلب: لأن الغاية كمال، والكمال، صفة لا تصح، إلا للخالق، ولا يستوي، الخالق والمخلوق، في صفته، تعالى الله عن ذلك.
قال الوزير الأول: فهل تحيط المعرفة، بمقدار عقل الانسان، حتى إذا أراد، واصف أن يصفه، لم يجاوزه حده، إلى زيادة، ولم ينقص عنه، إلى نقصان؟
قال الثعلب: إن ذلك، ثبات (ثَبَتَ الخَبَرُ: تَأكَّدَ، تَحَقَّقَ) المعرفة، وقد يوجد الانسان، ثابت المعرفة بشيء، وغير ثابتها، بشيء آخر، وخلال ذلك، دَرَج (جمع دَرَجة) كثيرة، فلا يقدر، على إحصاء (أحْصَى الشَّيءَ: عدَّه، وأحاطَ به)، ما ثبت فيه، معرفة المرء، مما لا يثبت، إلاّ الخالق.
غير أن، قلوب، أولي الألباب، وموازين معرِفَتِها، لا يُزَن بها أحد، بعد اختباره، وصحة الفهم له، إلا، كادت تضعه، في موضع، يغببها (غبَّب فلانٌ في الأمر: اقتصد، لم يبالغ فيه)، العدل منها، والقلوب في ذلك، بما طوّقته من الفهم، فضل على الألسن، بما طوّقته، من النطق، وان كانت، تراجمة (جمع تُرجُمان) القلوب، اسم.
الا ترى، أن قائلا، لو اجتهد في وصفه، لما أتى على كُنْه (هذا أمر، لا يُدْرَك كنهُه: بعيد الغور، عصيّ، على الفهم)، معرفة قلبه، وليس ذلك، لكلال (إعياء)، من اللسان، يلزمه عيبه، ولكن، الفهم عن المنطق (الكلام، لغة)، سبب، نَصَفه (بلغ نصفه).
قال الوزير الأول: وما سبب ذلك؟
قال الثعلب: سبب ذلك، ان اللسان رسول، والقلب، مرسل، ولا يقوم، الرسول، مقام، المرسل.
قال الوزير الأول: أخبرني، على قدر ما أوتي، كل امرئ، من العقل، أعَرَضٌ، اكتسبه بالتوفيق له، أم خلة، فطر عليها، كامنة في جوهره؟
قال الثعلب: بل صنعة، موجودة، في ضَّرِيبَته (الطبيعةُ والسَّجِيَّةُ).
قال الوزير الأول: فما موضع، اللائمة، للجاهل؟
قال الثعلب: لو كان الجهل، موجودا، لا عقل معه، لسقطت اللائمة.
ولكن، يكون للمرء، جزء من العقل، فيلزمه من اللوم، بقدر ما أضاعه، بذلك الجزء، فإن كلفه، مكلّف، أكبر من طاقة عقله، فقد ظلمه.
فهذا كثير من الناس، أن يؤنب أهل النقص، بأكثر من مقدار، ما يلزمهم، وإنما يؤتي اللائم، في ذلك، من قلة معرفة، بمقدار، ما يسعه عقل الملوم، فيكلفه فوق طاقته.
ألا ترى، ان الذنوب، إذا أصابها (نالها) مصيب (اسم فاعل من أصابَ)، كشفت الحكام (القضاة) عن وجهها، فميزت الجهل، من غيره.
فحكمها في العمد، وهو ارتكاب الذنب، مع المعرفة به، العقوبة عليه، وفي الخطاء، وهو ارتكاب الذنب جهلا، إزالة العقوبة، إذ ليس عن عمد القاذف، وتسقط مع ذلك، عنه الملائم.
قال الوزير الأول: فهل بالعقل، حاجة إلى شيء، يكون بمقارنته، أحسن منه، بمفارقته؟
قال الثعلب: نعم، به إلى العلم، أعظم حاجة، فقد يكون الانسان، مطبوعا على عقل، ولا علم عنده، فيكون، مثله كمثل العطل (قَوْسٌ عُطُلٌ: لا وَتر عليها، وقد عَطَّلها)، لا نفع عندها، إن بان (انفصل) عنها، وترها، فإذا اجتمعا، بلغت المراد، منها.
قال الوزير الأول: فصف لي، ذات كل واحد، منها، على حدته؟
قال الثعلب: أما العقل، فإنه قَائِمٌ، لكل محمود، وجُنّة (سُترَة)، من كل مَدْفوع ، حياةُ النفس، وراحةُ البَدَن، مُدّته (مقدارٌ من الزَّمان)، إلى السرور، وأيامه، إلى السلامة، جامع شمل المناهب (الغنائم)، راجِع فَوْت (الفائت)، كل ذاهب، كَنَف (حاط وصان وباب نصر) الرحمة، ومفتاح للهدى، إتاحةً المودّة، للصائبين (صَائِبٌ فِي رَأْيِهِ: مُوَافِقٌ لِلصَّوَابِ، سَدِيدٌ)، والساقط بالظن، عن اليقين، وزارع الخير، ومثمر الفطنة، وحامي الهوى، عن مراتع (مرتع : بؤرة) الهلكة، لا يخبو نوره، ولا يكبو، زنده، يجنيك ثمر العافية، ويقيك، محذور العاقبة، يستصحب الصُّنْع (الرِّزْق) ، ويرّب (رَبَّ: حَفِظَ ونمَّى) التوفيق، مفتاح الخيرات، ومعدن الصالحات، عليه، مُعوَّل (اعتمد عليه) المحروم، وفيه عوض، من المعدوم.
وإنما العلم، قياس الدين ،وشعار المتقين، وحلّة العاقل، وميزان العادل ، وحكمة الهدى، ولسان أولي النهى، مَسلاة (ملهاة، ما يبعث على السُّلُوّ، والنِّسيان) المحزون، وفاكهة الحكيم، وروضة، يرتفع منها الفهم، ومستراح، لثقل الهم، عِلْق (من كل شيء: النفيس، الثمين) نفيس، وصاحب في الغربة، وأنيس في الوحدة، كنفه مألوف، وحمله خفيف، لا يعيب الإقتار (إقتار: كان في ضيق)، من حمله، ولا يزين المال، من جهله ، المتّجر به، يربح ، والطالب به، ينجح ، لا يضع (يرفع، يصلح) منه، جهله، ولا ينقص منه، بذله، ذائِد (مُدافِع) الجوارح، عن الذنوب، وحارس الأعراض، من العيوب، لا تَمَلّه، الأسماع ، جُنّة (وقاية)، عند معترك الحجج، ودرجته، أرفع الدرجات، قلب العاقل، به بهيج، وصدر الجاهل، به حرج، سلطانه منصور، ومخالفه مَثْبور (مخبول، لا عقل له)، يزداد طالبه، كل يوم، نشاطا، وبما يَحوِي (حوَى على الشَّيءِ: استولى عليه، وملكَه، وأحرزه) منه، اغتباطا، ذخيرة الدنيا، والآخرة.
قال الوزير الأول: فما يوصف به، العقل والعلم، معا؟
قال الثعلب: إذا اجتمعا في إمرئ، فالحِلْمُ خلته، وبه اغتباط، عرضه، والحذر جنته، وبه يتقي، مكروهه، والعزم سيفه، وبه يقطع، حيرة شكه، والظن سهمه، وبه يصيب، ما غاب عن عينه، والخير عادته، وبه يدفع، لجاجة سرفه، والحزم لجامه، وبه يقوم، مركب هواه، والصدق لسانه، وبه يحصم (حَصَمَ الشيءَ: دَقَّه)، من ناواه، والصمت حُلَله، وبه يردع، خطأ منطقه، والرجا مطيته (ما يُرْكب)، وبه يبلغ، نجح حاجته، والتَّأَسِّي (التَّصَبُّرَ) شعاره، وبه يصون، بدنه ، والصبر حصنه، وبه يمتنع، من ندامة عجلته، والقناعة عيره (ما جُلِبَ عليه الطَّعامُ، من قوافل الإبل، والبغالِ، والحميرِ)، وبه يطأ (يدوس)، عنق حِرصه (جَشَعُهُ، شَرَهُهُ)، والحياء قناعه، وبه يرد، مقت قحته (وَقحَ الرَّجلُ: قلَّ حياؤه، واجترأَ على اقتراف القبائح، ولم يعبأْ بها)، والشكر وسيلته، وبه يمتري (يصلح)، من يرى النعم عنده ، والأمانة أمره، وبه يتقي، سوء الظن عن نفسه، والعفة سلطانه، وبه ينال، شرف عزه، والإنصاف شيمته، وبه يزيل، مضرة مَطْله (مَطَلَهُ حَقَّهُ: سَوَّفَهُ، وَتَمَاطَلَ بِالوَفَاءِ بِهِ، مَرَّةً، بَعْدَ أُخْرَى)، والرضا ميدانه، وفيه يجري، إلى راحته، ويحسم به، سلطان غضبه، والفكر عيناه، وبه يقلّب، عن التدبير، وينظر في عواقب الأمور، ويقيس ما كان، على ما يكون.
قال الوزير الأول: أرأيت من سلِمه (سَلِمَ: بَرِئَ، خلا) الاختيار، فظهر منه، بعض ما يكون، من خلال المحكوم عليه به، هو موصوف، بفضيلته؟
قال الثعلب: لا، حتى يعلم، أنه مختار، تلك الحال الزكية، على خلافها، وذلك، أن الحمد، إنما يقع، على من جعل الاختيار، بين الأمرين، فاختار أفضلهما، وأسناهما.
وليس من صنعت خلقه، على مثال (مِثَالُ ذَلِكَ: شِبْهُ ذَلِكَ)، بأهل إلى حمد، يستوجبه، وإن كان منال (ما يُحرَز ويُحقَّق) خير، الا ترى، انه لا موضع، لحمد الشمس، من نورها، ولا القمر، في ضيائه، إذ ذلك فيهما تركيب، ولهما لازم، ولا يقدر، ان يأتيا، بغيرهما.
وكل حليم، لم يذق مرارة الذل، ولم يطعم، حلاوة الغلبة، ولم يتجرع، غيظ الضيم (الظُّلم)، فليس بحليم، وكل جواد، لا يخاف الفقر، فيعرف قدر المال، ولا ذلة الفاقة، فيستمسك بعزة الغنا، فليس بجواد، وكل شجاع، لا علم له، بألم الجراح، وقدر الحياة، وما يحول من دونه، من لذيذ العيش، فليس بشجاع، وكل صبور، ليس له على الصبر، مندوحة (غِنىً)، ولا إلى الوله، سبيل، فليس بصابر، وكل مبتدئ نعمة، عن رغبة، أو رهبة، لا عن تفضل، لاكتساب حمد، أو أجر، فليس بمنعم، وكل قانع، لا يجد مضطربا، ولا من العدم موئلا، فليس بقانع، وكذلك، كل ذي خلة، من الخير والشر، لا يقدر أبدا، على التحول عنها، إلى ضدها، اضطرارا، فلا موضع لحمده، ولا لذمه.
فاقبل عليه، الوزير الثاني، وقال: سمعنا ما وصفت، من الخلال المحمودة، والآداب المرضية، في أولي العقل، غير أنا نجد، بعض ذوي الجهل، يشركهم، في كثير منها، حتى يجتمع، المتضادان، في اسم الخلة الواحدة، فيقال، لكل واحد منهما، عند السعة بالعطية، جواد، وعند الاحتمال للمكروه، والصبر عن الأذى، حليم، وعند بذل النفس، في البأس، شجاع، وعند طلاقة اللسان، والفصاحة بالكلام، بليغ، وعند الرضا باليسير، قنوع، وعند السكوت، صموت، وعند النظر والتثبت، متأن، وعند اتخاذ النعم، منعم ، وفى أشباه هذه الصفات، فكيف يميز، العاقل فيها، من الجاهل؟
قال الثعلب: صدقت، فيما وصفت، غير أن، العاقل والجاهل، لا يجتمعان، في خلة من هذه الخلال، إلا باسمٍ، على ألسن العوام، فأما المعنى، فهما فيه، مختلفان، لا يلتبس حالهما، على ذي حَجًى (حَجِيّ: جدير، خليق).
وذلك، أن لكل خلة، مما ذكرت وتركت، من الخلال المحمودة، حدَّا، لا يقف عليه، إلا العاقل، ولا يتجاوزه، إلا الناقص.
فمن فهم ذلك الحد، لم يَدْعو (يُنادي)، باسم تلك الخلة، الا، من وقف عليه، ولم يتجاوزه، إلى النقص، فإن مال به عن ذلك، مميل، وسمه (ميَّزه) باسم الدرجة، التي مالت به.
وإنما، يؤتي العوام، عند صفاتها إذا وصفت، من قلة المعرفة بحدود درجات تلك المنازل، فيجتمع، ذوو المذاهب المختلفة، بالاسم الواحد، فحكم السامع، لتلك الصفة، واقع على خطإ، ويقينه على خطر، وظنه، إلى غير صواب.
فأَولُ ذلك، العِلمُ، وحَدُّهُ، العمل بما نيل منه، وبه، يستحق المرء اسمه. وإن أُكثِر من جمعه، بل هو، بإسم الشقاء، أولى، لطول نصبه (نصب الشَّيْء: أَقَامَهُ وَرَفعه)، ودؤوب تعبه، معملا جوارحه، فيما لا ينفعه، وذلك، من عمل به، جائرا عن قصد سبيله، فهو بالمنزلة الأولى، ويلحقه اسم الضلال، والضلال، فرع الجهل.
ثم، الحلم، وحَدُّهُ، استعماله عند صيانة العرض، من أهل الضَّعَة (الانحطاطُ، واللُّؤُمُ، والخِسَّةُ، والدناءةُ)، والخمول، والتعفف، عن مكافأة الاكفاء، على جرائمهم، تكرما عليهم، وسموا بالنفس، عن المجازاة، بالإساءة إليهم، وبذلك يستحق، اسم الحلم، فإن تجوز به هذان الحدان، كان اسم العجز، أولى به، وأخو العجز، ذليل مهين.
ثم، الجود، وحَدُّهُ، السماح (الإِذْن)، بفَضْل (الإحسانُ) المال، في موضعه، بُعْد (سعة) الكَفَاف (ما كان مِقدارَ الحاجة، من غير زيادةٍ، ولا نقصان)، وذلك، استحقاق اسم، السخاء، فإن سمَح (جاد وأعطى) به، من غير حد، فهو مغبون (خَائِبٌ)، فإن وضعه، في غير موضعه، فهو مبذر، وإن جاد بكَفافه، فهو مسرف، وأخو السرف، بغيض عدم، ومن أعدم، فلا مرؤة له، ومن لا مروءة له، فلا حياء له، ومن لا حياء له، فلا دين له، ومن لا دين له، فالموت خير له.
ثم، الإقدام في البأس، ولا تجده، يجاوز، احدى ثلاث منازل، إما الدنيا، ينافس أهلها، فيها، وإما الآخرة، يحرز نصيبه، منها، أو حَميّة (أَنَفةً، إبَاءًا)، عند الغضب.
فأما الأولى، فلا تجد تاجرا، يبدل سلعته، بأدنى من قيمتها، الا جاهلا، والمقتحم في الحرب، باذل نفسه، دون قيمتها، لطلب دنيا، وذلك، من الخسران، المبين، فاسم الخزي، أولى به.
والثانية، في طلب الآخرة، والباذل لنفسه، مستوف، ثمن ما بذل، اذ الثمن باق، والمبذول فان، وتلك الشجاعة.
والثالثة، الغضب عند الحَميّة، والغضب هَوَجٌ (هوِج فلانٌ: حَمُق، وطاش، وتسرَّع)، فلا يُدعى صاحبه، إلا به، إلا، ان يكون منتصرا، بعد ظلم.
ثم، دَرب اللسان، والشرف في الكلام، فحَدُّهُ، الإيجاز في القول، والاصابة في المعنى، وتلك البلاغة، فإن أخطأ، كان اسم، الهَذَرُ (سَقَطُ الكلام، الذي لا يُعبأ به)، أولى به.
ثم، طول السكوت، فإن يكن اعتبارا (نَظرا)، فهو صمت العاقل، وإلا، فهو عيّ (عجز) الجاهل.
ثم، الرضا باليسير، فإن يكن، احتسابا بالأجر، ونزاهة، من مكسب السوء، فهو قناعة، والا، فهو حمق، والاستكانة، يبعثها، قلة الحيلة.
ثم، التثبت، وطول النظر، إن يكون نذيرا، للمحذور ونظرا في العواقب، فهو تأن، ورفق، والا، فهو حيرة، وشتات، في الرأي.
وكذلك، إمضاء التدبير، إن يكن ذلك، عن معرفة، بحيث، لا تَزَلّ القدم فيه، وتثبت، فهو عزم، وصَريمة (إحكام الأمر والعزيمة فيه)، والا، فهو عجلة المخطئ، والمخطئ فيها، غير محمود.
ثم، الطَّوْلُ (الفضلُ، والغنى، واليسر، والقدرة) بالمِنّة (الإحسانُ، والإِنعام)، والكريم، يزرع النعمة، في قلبه، ويغذوها (يطعمها)، بشكره، ويربيها، بتذكر مواقعها، من خلده، مستعظما، لصغيرها، مستكبرا لقليلها، أبدا، حتى يموت، بموته، وكذلك، اصطناع المعروف، واكساب الأجر، واللئيم، لا يجد للنعمة، حِساً في جوارحه، إلا، ريثما، يجد من حلاوتها، بين لهواته، فإن تجاوزت، حلقه، نسيها، وإن خطر، بباله ذكرها، استصغر عظيم، ما أهدى إليه، منها، فاستثقل كثيرها، وظن، أن الذي نال منها، بحق، واجب له، فذلك، فساد المعروف، وامتهان النعم، وخسران المبذول.
ثم، الغنى والقدرة، فخلتهما، على العاقل، التواضع، وخفض الجناح، وخلتهما، على الجاهل، التيه والاستكبار.
ثم، النُسك، والعاقل، يتزين به، ارتضاء ما في فضله، فهو يتَزيَّدَ (تزيَّد: تكلّف الزيادة)، رغبته فيه، والجاهل يَتَحِلّ (يدعي) به، رياء، وسمعة وحيلة، لبعض الأسباب، أو لعائِد.
ثم، الاعتذار من الذنب، وهو من اللبيب، إقرار به، واستغفار منه، وهو من الركيك (ضَعيفٌ في عَقْلِهِ، أَوْ رَأْيِهِ)، إنكار له، ونصرة لخطئه، فذلك، معتذر بالاعتتاب (إعتتب: رجع عن أمر، وتخلى عنه، وانصرف إلى غيره؛ تصرف باستقامة، واعتدال)، منيب للإحسان، وهذا، زائد في التعنت، ومصر، على الاساءة.
ثم، الرضا، فهو للعاقل، بنيان مُوطَّد (مُثَبَّتٌ)، لا تهده، خواطر الظنون، وعود صلب، لا يقدح فيه، سعي الوشاة، وستر كثيف، لا يهتكه، حسدة النعم، وهو من الجاهل، كظل الغمام، أو كريشة، في فلاة من الأرض، تخفق الرياح بها، كل وجه.
ثم، المشورة في الرأي، فالعاقل، يستشير، عارضا للآراء، على رأيه، وقائسا، بعضها ببعض، حتى يقع اختياره، على أسدّها، وأولاها بالصواب، طريقا، والجاهل، يستشير، مترددا في أمره، فبما يسمع من الآراء، لا يزداد الا حيرة، وسماع قُلَّب (مُتَقَلِّبٌ، لاَ يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ)، وقِيل (مَا يَقُولُهُ النَّاسُو هَبَاءً) رأي، حتى يَزِلّ (يقع) به المحذور، ويلحقه، المكروه.
فاقبل عليه، الوزير الثالث، فقال: أحسبك، عاشرت خلقا، فصف لنا، ما اختبرت، من أخلاق من عاشرت، من أولاد الدنيا، وما بنوا عليه، من الرغبة فيها، والمجانبة لها.
قال الثعلب: كلٌّ، بَلَوْتُه (اِخْتَبَرَهُ)، على شاكلته، وعرفت، هَدْيه (سيرة وهيئة وطريقة) وطريقته، وتصفّحت، فنون مذاهبه، فوجدت لهذه الناس، جواهر، قلّ منهم، من يُحْدِثُ (راجع، اِبْتَدَعَ) في جواهره، غير أن، العرض (ما ليس جوهرا ثابتا) المركب، في خليقته، إلا يكن، مُتَكَلِّفا (فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الصَّنْعَةِ، وَالْحَذْلَقَةِ)، لا ينبؤ (نَبَأَ: خَرَجَ، ظهر)، بغير كلفة، ولا يَسَع (احتواه وضمه) ما يتحمَّل (حمَله، والتزم بأدائه)، من خِلاف تهجينه (جَعْلُهُ هَجِيناً).
والناس، لعيونهم، أشد تصديقا منهم، لقلوبهم، ولو رُفِع لأبصارهم، بعض ما تسره، نفوسهم، ثم دعا إليه داع، ودونه مهالك جمة، لكان، من يتورط تلك المهالك، وهو يعرفها، أكثر ممن يصد، عنها، فالأبصار سامية، إلى ذي السير، الحسن، والرواء الجميل، والشارة الظاهرة، والرياض الزاهرة، فلا عجب، لمن رأى ظاهر ذلك، وجهل باطنه، فوصل أسباب الطمع، إليه.
ولكن العجب، لمن فهم الباطن، فعلم، أن تزوده منه، سم ناقع (قَاتِلٌ)، فأكذب علمه، وصدق عينه، ولما مال، بذي الغشاء، بصره، وطمح به، نحو كل محيلة (مهارة)، بدُرّة (شيء ثمين، أو نفيس)، يمتري (يستخرج) فيضة (طفح، فاض) درها، اذا أقبلت، ويتربص (ينتظر) علالتها (بقيتها)، إذا أدبرت، لا يزداد عن ريّ، الا ظمأ، ولا عن ظمأ، إلا وَلَهاً، ثم، لعله يكون، في محل من شهواته، قد اذقته الحُتُوف (حَتْف: هلاك، موت)، وشرب بكأس المَنُون (الموت)، فخسر الأولى، والآخرة، لا يعظ الثاني، ما صاب الأول.
وكان هذا التغلب (القهر)، شامل أهل الدنيا، الا امرِئٍ، وهب الله له، غزير عقل، ثم أيده بالتوفيق، فنكث (حَلَّ) كنانته (جَعْبة صغيرة، من جلد أو نحوه، لوضع السِّهام)، ليسبرها (ليخبرها)، فعجم (عَجَمَ الشيءَ: عضَّهُ، ليعلمَ صلابتَةُ، من رخاوته) سهامها، عوداً عودا، فنزع بقدح (قطعةٌ من الخشب، تُعرَّض قليلاً، وتُسَوَّى، وتكون في طول الفِتْر، أو دونَه، وتُخَطُّ فيه حزوزٌ، تميِّزُ كل قِدْح، بعددٍ من الحزوز، وكان يستعمل في المَيْسِر، وقد يكتب على القِدح: لا أو نعم، أو يُغْفل، لِيُقْرَعَ به، ويُستقْسَم) منها، لم يزوِّره (زَوَّرَه: زخْرَفَهُ ومَوَّهَه) خطرات الشهوات، فيطيش (طاش السهمُ : مال وانحرَف)، ولم يقدح به كواذب الآمال، فيضعف، فحفزه (دفعه من خلف) من وتره، بهمة، لم تقصد بها، دناءة، وعزم، لم يؤخره ارتياب، فلم يَعِد (تهدّد شَرّاً)، إذ رمى، أن صاب مقتل الدنيا، فغادرها، عرضة بلاء، وصريعة قلى (بغض)، ولم يلتسق (لزق، لصق)، بقلبه حبها، فبكى عليها، ولا استهوته برونقها، فيحن إليها، فهي لديه، كالميتة، لا يصيب من حطامها، الا عن اضطرار، وغير باغ، ولا عاد في بُلغة (ما يكفي لسدّ الحاجة، ولا يفضُل عنها)، حتى يدعى، إلى مأدبة القرون الخالية، فيجيب.
وأما الآخرون، فأخياف (الأخياف من النَّاس: الضروب الْمُخْتَلفَة الْأَخْلَاق، والأشكال)، شتى ضرائبهم (طبائعهم)، قد مَنَع كل واحد منهم، بالسر الحاجب له، عن معرفة نفسه له، وفهم فضيلته (مَزِيَّتُهُ)، عن غيره، فهو يحتسب (يطَلَبُ الأَجْر)، بالفضل عليه، ولو أَلِفَوا (اِعْتَادوا) للجهل، المرض، ولو صحت عقولهم، لخربت الدنيا، فلما فطرهم عز وجل، أشتاتا، فضل بعضهم على بعض، في الدرجات، وساوى بينهم، في الموت.
وقد كشفت خصائل الأقوام، فوجدت، مودة الجاهل، وعداوة العاقل، أسوة في الخطر، ووجدت الأنس بالجهل، والوحشة من العقل، سببين في العيب، ووجدت، ظن العاقل، أوقع بالصواب، من يقين الجاهل، ووجدت غش العاقل، أقل ضررا، من نصح الجاهل، ووجدت العاقل، أحفظ، لما يستكتم، من الجاهل ، ولم أجد، لكذوب حياء، ولا لحريص، غناء، ولا لشره، أمانة ، ولا للئيم، رحمة، ولا لذي همّ، سمعا ولا بصرا، ولا لبخيل، صديقا، ولا لمستظرف، عهدا، ولا لحسود، راحة، ولا لقنوع، عدما، ولا لفاسق، حرمة، ولا من الناس، سالما، ولا لمرارة من الخلق، مسيغا (ساغ الشَّيءُ: طاب وهَنُؤ)، ولا من نفسه، منصفا، ولا راضيا، عن زمانه، ولا عدلا، إذا خالف الهوى.
قال الوزير الثالث: فصف العاقل؟
قال الثعلب: العاقل، موفق، للرشد، في كل أمره، ولا تلقاه، الا ناصحا للولاة، موَقَرا للرؤساء، منقادا لفقهاء، موفيا للإخوان، متحرزا (تَحَرَّزَ مِنْهُ: تَوَقَّاهُ) من الأعداء، غير حاسد للأصحاب، ولا مخادع للأخيار، ولا متحرس (تحرَّسَ منه: احترس، توقّاه) بالأسرار، ولا شاغب على الناس، ولا بلاح (الذي يلوم، الآخرين، ويعيبهم) للمستلطف، ولا مرح في الولاية، ولا بخيل في الغناء، ولا ذليل في الفاقة، ولا جالح (جالحَهُ: كاشَفهُ؛ كابَرَهُ وشادَّهُ) في الغضب، ولا منقاد للهوى، ولا مكذب بالقضاء، ولا متكل عليه، ولا متكلف ما لا يطيق، ولا يسعى إلاّ لما يدرك، ولا يَعِدّ إلا بما يقدر عليه، ولا ينفق إلا ما يقدر أن يستفيد به، ولا يطلب من الجزاء، الا بقدر ما عنده، من العناء، ولا يفرح لما يقال فيه، الا بما يرى نفسه، أهلا له، علما منه، إن تكلف ما لا يطاق، سفه، وأن السعي، لما لا يدرك، عياء نفسه، وأن وعد ما لا ينجز، فضول (ما لا فائدة فيه)، وأن الانفاق، من غير الفائدة، خَرِق (الخَرِقُ: مَن لا يُحسِن عمله)، وأن طلب الجزاء، بغير العناء، سخافة، وأن بلوغ المنزلة، بغير استحقاق، إشفاء على الهلكة.
قال الوزير الثالث: فصف الجاهل؟
قال الثعلب: هو أن تراه، يتناقض في كلامه، ويعجب بحديثه، ويعلو صوته، بضحكه، ويوقع الظن، في غير موضعه، ويسترسل بالمزاح، إلى غير أهل الثقة، ويعرض عن العلم، ويجيب، إلى غير فهم، ينصرف إلى الرأي، في غير كنهه (الكُنْهُ: جوهرُ الشيءِ، وحقيقتُه)، ويجانب الفقهاء، ويماري (مارَى الشَّخصُ: نازعَه، وخالفه) الحكماء، ويكثر اللّجاج، ويظلم في المعاشرة.
فإن نزع به، مركب السوء، ونابه (رجع إليه) العرق اللئيم، مال به، الحرص على الشر، كل ميل، فكثرت أمانيه، وبخل، بما في يديه، فإن سبقته يده، بفلتة برّ، كدرها بالمنّ، وأحدث لها تيها (تكبر)، على المبرور.
وإن استغنى، بَطَر، وإن افتقر، استكان، يفرح بالتافه، واليسير، ويَذَلّ، للطمع الحقير، يريق (رَيَّقَ: سَقَى) في اللؤم فطنته، ويحوطه حذره، في التمسك، بما ظفر به من مال، والتخليص، لما دَبَّ (وقع) عنه، من نَشَب (المال)، أنفذ وأبلغ، من سائس الحرب، التي يريق فيها، دمه، ودماء أصحابه، بألطف التدبير، وأخفى الفطن، وأشد الحذر، وأوضح النظر، يرى، أن أحدا، لا يستوجب النعمة، سواه، فالحسد، يحمله، على استصغار، ما حمله غيره، واستعظام ما في يده، وهو يتمنى، بعضه، وهو مجتهد، في الازدياد، اليه.
قال الوزير الثالث: فقد يوجد، ذو الحظ من العقل، إن اجتمع له كثير، من محمود الاخلاق، ولا يخلو، من نقص ما وصفت به، ذا النقص، من مذمومها.
قال الثعلب: قد أعلمتك، أن أحدا، لا يَكْمُل، في كل الخلال، حتى لا يأتيه، عيب من بين يديه، ولا خلفه، ولكن، ذا اللب، اذا خالطه، بعض المساوئ، كان له من عقله، ساتر، يحجبه عن أعين الناس، فإن لم يقد على ما سِتْرُهُ، أحسن مداراة نفسه، حتى ينصرف عنه، قبح الاسم، منه، إلى ضده.
فيقال، للجبن منه، حذر، وللبخل منه، تقدير، وللمسبة (عار) فيه، انتصار، وللحرص، اكتساب، وللعيّ، صمت، وللفظاظة، قوة، ولإفراط العقوبة، تأديب، وللغضب، عز، وللجزع، رِقَّة، ولسوء الظن، حذر، وللعجلة، عزم، وللعصبية، أنفة، وللخطإ، قضاء، وللظلم، اقتدار، وللاغترار، تفويض (صفة تجعل صاحبها أهلاً للقيام بمهمة)، وللمهانة، خشوع، وللهذر، بلاغة، ولترك المشورة، استغناء.
وحسن هذه الأسماء، كلها، منصرف في الجاهل، إلى قبحها، فإن استُعمل، الجاهل، طلبا للعلم، طُلب منه، ما لا يعرفه، وإن استعمل الجود، بذّر، وإن استعمل الشجاعة، قتل نفسه، وإن استعمل البلاغة، هَذِر (هَذِرَ كَلاَمُهُ: كثُرَ فيه، الخطأُ والباطلُ)، فآذى جليسه، وإن استعمل القناعة، ترك الاكتساب، وأفضى، إلى المسألة، وإن تحلى بالمروءة، خامره المَلاَل (فتورٌ، يعرض للإِنسان، من كثرة مزاولةِ، شيءٍ)، فمل الحبيب، فضلا على غيره، وإن استعمل الظنّ، اتهم نفسه، وإن استعمل النصيحة، تَنَزَّعَ (تسرع) فيها، إلى ما لا يحتاج إليه، وإن استعمل الأُنس، استرسل، إلى كل من بلغ، من الناس، وإن تكلف الصبر، تعرض للبلاء، وإن حظى بالطاعة، عصى ربه، وإن أخذ نفسه، بالشكر، شَكَر، على غير معروف، وإن استعمل الاحتمال، رأى العَسف (الظُّلْمُ، الْجَوْرُ)، وأقام على الظلم، وإن تدبر، أفسد، أكثر ما يصلح، وإن تأنّى (تروّى)، أمسك، عما به، يَعنَى (يتعب)، وإن استشار، شاور الأشرار، وإن أظهر السرور، أكثر الضحك، وإن نصب، لعدوه، حبالة، علقها عنقه، وإن اِسْتَشْعَرَ (لَبِسَ) الحذر، أعمله، في أكثر مما يكرهه، فكان كطائر، كان أكله السمك، فنشب بسمكة، في حبالة صياد، فلم يزل يضطرب، حتى تخلص، فكان بعد ذلك، لا يرى سمكة، إلا ظن، أنها حبالة، منصوبة، فترك الصيد، حذرا، حتى مات، هزلا وضرا.
قال الوزير الثالث: فأخبرني، عن الأحمق الداهي، من أين أتاه، الدهاء والمكر، وهو موصوف، بالنقص؟
قال الثعلب: لن تجد منه ذلك، الا، في دقائق (خَفاياها، وَقَضاياها الصَّعْبَةَ) الأمور وسَفسافها (السَّفْسَافُ : الرديء الحقيرُ، من كل شيءٍ، وعملٍ)، وذوات الدناءة، منها.
ولم يؤت الأحمق، من التدبير، المستبطن للدهاء، ولطلب الحيلة، شيئا، الا، وذو الحجى (حجِي فلانٌ: كان، ذا عقل)، فيه أقوى، سببا، وأبلغ مراما، وأوفر، فيما يريد، فيه، حظا، ولكن، شرف همة اللّبيب، وكرم طبعه، يحجبانه، عن استعمال فهمه، فيما نظر فيه، الاحمق، ونطق، بحيرته، وكثيرا، ما تجد ذلك، في شرار الناس، وسقاط الاماء (لأَمَةُ: المَمْلوكةُ، خِلاف الحُرَّة).
وقد قال بعض الحكماء: عرفت كل شيء، ما خلا، الرعناء (أَرعَنُ: أَحْمَقُ، أَهْوَجُ)، فلا تحسبن، ذلك من الاحمق، فضلا، فيه قصر عنه، المقدم في اللب، عليه، ولكنه، لما أعلمتك.
قال الوزير الثالث: فما الدليل، على شاهد المرء، من عقله، قبل ابتلاء، خبره، وتصفّح، أيامه؟
قال الثعلب: ضد، ما ذكرنا، من شاهد الجاهل، غير أنه، ليس يقع، بالشاهد الحسن، حكم، على غائب العقل، كما يقع، بالشاهد القبيح، حكم، على الجاهل، وذلك، ان خلال الفضل، قد يتكلّفها، من ليس أهلها، ولا يتكلف، خلال النقص، من لم يطبع عليها.
فلربما رأيته في المجالس، وحيث تضعه المحافل، حليما، وقورا، صموتا، فإن، أعطي له، لسانا، سمعت له، بيانا، يقيم به، الأمور، ويشاركه، أهل الحكمة، في التدبير، فإذا قام عن مجلسه، وأفضى، إلى تدبير نفسه، رجعت منه، إلى عقدة ضعيفة، وقوة موهونة، ورأيٍ مُعتَلّ (بِهِ عِلَّةٌ)، وجَنَاب (ناحية) من الخير، معطّل.
قال الوزير الثالث: فإن أتاه، الحلم، والوقار، والعبارة واللسان؟
قال الثعلب: يكون، قد سمع مجالس الأخيار، وفضائل الأبرار، فتكلف من ذلك، في وقت عقله، مقدار، ما يتزين به، ويصير فيه، على مفارقة، مقدار سجيته، كالمستعير ثوبا، يتجمل به، عند ذوي حشمة، فإذا فارقهم، رد الثوب، على أهله.
فأقبل عليه الملك، فقال: أيها الثعلب، من صغرت الدنيا، في عينه؟
قال الثعلب: من كرمت، عليه نفسه.
قال الملك: فمن أعظم، الناس قدرا؟
قال الثعلب: من لا يبالي، بالدنيا، عند من، كانت.
قال الملك: أي الأعمال، أفضل؟
قال الثعلب: اجتناب المحارم.
قال الملك: أي الناس، أعلم؟
قال الثعلب: أشدهم، لله، خشية.
قال الملك: فأي الناس، شرّ؟
قال الثعلب: العالم، إذا فسد.
قال الملك: فمن لا علم له؟
قال الثعلب: من لا نية له.
قال الملك: فمن لا مال له؟
قال الثعلب: من لا رفق له.
قال الملك: فمن أحق الناس، بالرحمة؟
قال الثعلب: عالم، لا يجوز عليه، حكم جاهل.
قال الملك: فمن أحق الناس، بالرجاء؟
قال الثعلب: من لا يُرَجي.
قال الملك: فمن الموفق، للخير؟
قال الثعلب: الراضي باليسر، مع سلامة، الدّين.
قال الملك: فمن المتعرِّض، للشر؟
قال الثعلب: الراضي بالكثير، مع فساد، الدين.
قال الملك: فمن المعاود، للحسنة، الزائد، عليها؟
قال الثعلب: المُرَبِّح بها، والمستغل، لها.
قال الملك: فمن أخدم الناس، للدنيا؟
قال الثعلب: الحريص، لطول الأمل.
قال الملك: أي شيء، لأمور الناس، أخوف؟
قال الثعلب: الإصرار، على الذنب.
قال الملك: فمن أين، يطلب الرزق؟
قال الثعلب: من حيث، تَكَفَّلَ (اِلْتَزَمَ) به، العبد.
قال الملك: فمن أين، لا يطلبه؟
قال الثعلب: من طَالِب مثله، لا ضمان عليه، إن وعده، أخلفه، وان ضمن له، خاس (خانه) به.
قال الملك: فمن أَوْلى، الناس بالحذر؟
قال الثعلب: من تتابعت عليه النعم، وهو مقيم، على المعاصي.
قال الملك: فمن أعظم الناس، رزية (مُصِيبَةٌ)؟
قال الثعلب: من ضيع النفس، وأخطأه العقل.
قال الملك: فما ألذ شيء؟
قال الثعلب: الإفضال، على الاخوان.
قال الملك: فمن الصافي، له، لسان الثناء؟
قال الثعلب: من صفا، من الخنا (الفُحْش).
قال الملك: فمن القصير، الهمّة؟
قال الثعلب: الراضي بالفاني العاجل، من الباقي، الآجل.
قال الملك: فصف لي الدنيا.
قال الثعلب: الدنيا، والدة الموت، وناقضة المُبرَم (الذي لا رجوع، عنه)، ومرتجعة العطية، وكل من فيها، يجري، لما لا يدري، وكل مستقرّ فيها، غير راض بحاله، وذلك دليل، على أنها، ليست بدار قرار.
غرّارة غير مأمونة، من استرسل إليها، أهانته، ومن قلاها (قَلاه: كَرِهَهُ، غايَةَ الكَرَاهَةِ، فَتَركَهُ)، أكرمته، تُحَوِّج، من بانت عنه، وينالها، من لم يكن، يرجوها.
طالبة مطلوبة، فمن طلب الآخرة، طلبته الدنيا، حتى توفيه، رزقه فيها، ومن طلب الدنيا، طلبه الموت، حتى يخرجه، منها.
دار فناء، ومنزل قَلْعَة (ما يُجتَثُّ، من أَصله)، رغب عنها، السعداء، ورغب فيها، الأشقياء، فغناها فقر، وعلمها جهل، وخُطُوبها (الخَطْبُ: الحالُ والشَّأْن) صُرُوف (صُرُوفُ الدَّهْرِ: نَوَائِبُهُ، وَشَدَائِدُهُ)، وأيامها دُوَل (مرة لهذا، ومرة لهذا)، وإن إمرءا، آخره الموت، لحريّ، أن يزهد، في أوله.
قال الملك: فمن العارف بها؟
قال الثعلب: من لا يفرح، لرخاء، ولا يحزن، لبلاء.
قال الملك: فصف لي، صاحب الدنيا؟
قال الثعلب: من هو، في جميع أموره، في حرب ومكايدة.
يكايد الشيطان، في دينه، والدنيا، في حرفته، والأخلاق، لتستقيم، والاهواء، لتَنْفَلِحْ (تتشقق)، والادواء (داء، الجمع، أدْوَاءٌ)، لتندفع، والجهالة، لتُمتحن، والآمال، لتُنال، والمكروه، ليزول.
وبعض ذلك، عن بعض، شاغل، والمشتغل عنه، ضائع، والمضيع مفسد، والمفسد فاسد، ولا سبيل، إلى إحكام جميع ذك، كلّه، والحكيم (الحكم)، من أضاع من ذلك، ما نبا (شذَّ؛ لم يوافقه، أو يناسبه)، لحفظ، ما بنا.
قال الملك: فما الصّلاح؟
قال الثعلب: أن يكون، التواضع للمرء، أحب إليه، من التماس الشرف، وما قلّ من الدنيا، أحب إليه، مما كثر، منها، ويكون، الزائد، والناقص في الحق، سواء عنده، ويحكم للناس، كما يحكم، لنفسه.
قال الملك: فأي الاشغال، أحق بالتقديم؟
قال الثعلب: شغل، عظيم الآخرة، على شغل، صغير الدنيا.
قال الملك: فصف لي، صاحب الأيام؟
قال الثعلب: كان يقال، من اعْتَدَلَ (يَقِفُ، مَواقِفَ لَيِّنَةً) يوما، فهو مغبون (خَائِب)، ومن كان عنده، شر يومه، فهو محروم، ومن لم يعرف، الزيادة من نفسه، فهو منقوص، ومن كان، في نقصان، فالموت، خير له.
قال الملك: فما الحزم، في العمل؟
قال الثعلب: الحرث للآخرة، كأن الموت، في غد، والحرث في الدنيا، كأن العيش، للأبد.
قال الملك: فما أحق الأشياء، بالتعجب؟
قال الثعلب: فمن رجا، فلم يعمل، وخاف، فلم يكفّ.
قال الملك: فصف لي، الدهر؟
قال الثعلب: هو ثلاثة أيام، فأمس حكيم، وهو مؤدب، ترى فيه حكمته، واليوم، صديق مودّع، كان عنك، طويل الغيبة، أتاك، ولم تأته، وهو سريع الظعن (الارتحال)، عنك، وغدا، وهو عنك، طويل الغيبة، لا يأتيك، ولا تأتيه، لا تدري، أتكون من أهله، أم لا.
قال الملك: فما الموجود؟
قال الثعلب: المقدّم، للآخرة.
قال الملك: فما المغنوم؟
قال الثعلب: ما بقي من الدنيا، مما، عبر منها.
قال الملك: فمن أضلّ الناس؟
قال الثعلب: من وَكَلَ (اِسْتَسْلَمَ)، إلى نفسه.
قال الملك: فما أحقّ، شيء، بارتضاء؟
قال الثعلب: اختيار الله، فان، ما يرى المرء، مما يحب، فيما يكره، أكثر مما يرى، فيما يحب.
قال الملك: فما أفضل، ما أعين، به المرء، على الدنيا؟
قال الثعلب: الغنى.
قال الملك: فما أفضل، ما أعين، به المرء، على الآخرة؟
قال الثعلب: الفقر.
قال الملك: فأين مكان، العبر؟
قال الثعلب: عند كفر، النعم.
قال الملك: فأين مجاري، العبر؟
قال الثعلب: في القبور، تحت المَدَر (الطِّين، اللَّزِجُ، المتماسك)؟
قال الملك: فما الخير، الذي، لا شرّ معه؟
قال الثعلب: الشكر مع العافية، والصبر، عند المصيبة.
قال الملك: ففيم النجاة؟
قال الثعلب: في ترك، ما تحب، إذا كرهه، الله، عز وجل.
قال الملك: فما أربع، من كن فيه، أو واحدة منهن، فهو من صالحي، من هو منهم؟
قال الثعلب: من كان له، عقل، يرشده، أو دين، يُسدِّده (قوّاه ووفَّقه)، أو حَسَب يصونه، أو حياء يقناه.
قال الملك: فما أحلى، شيء؟
قال الثعلب: الطاعة.
قال الملك: فمن يصبر، عليها؟
قال الثعلب: من استعظم، لمعصية.
قال الملك: فما أمرّ، شيء؟
قال الثعلب: الحق.
قال الملك: فمن يصبر، عليه؟
قال الثعلب: من عرف، فضله.
قال الملك: فما أقوى، ما استفز به، الشيطان؟
قال الثعلب: عزة السلطان.
قال الملك: ففيم الكمال؟
قال الثعلب: في ثلاثة، الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير، في المعيشة.
قال الملك: فمتى يكون، القلب واعيا، ما استودع، من المواعظ؟
قال الثعلب: إذا صحا، من حب الدنيا، فإذا علقه، لم ينفعه، وكان كالبدن، إذا سقم، لم ينجع فيه، طعام، ولا شراب، ولا نوم، ولا راحة.
قال الملك: فما الزهد؟
قال الثعلب: صرف النفس، عن محبوب الشهوات.
قال الملك: فمن شر الأبناء؟
قال الثعلب: من دعاه التقصير، إلى العقوق.
قال الملك: فمن شر الآباء؟
قال الثعلب: من دعاه البر، إلى الإفراط.
قال الملك: فمن الذي، لا يصلحه، اختباره لنفسه؟
قال الثعلب: من لا يصلحه، أدب ربه.
قال الملك: فمن الغريب؟
قال الثعلب: من لا أخا، له.
قال الملك: فمن المستوحش؟
قال الثعلب: من لا جليس، له.
قال الملك: فهل لنعمة، كاره؟
قال الثعلب: نعمة الفاجر.
قال الملك: بم يرجع، به، سائل الكريم؟
قال الثعلب: الغبطة، والسرور.
قال الملك: بم يرجع به، سائل اللئيم؟
قال الثعلب: الغضب، والخسران.
قال الملك: بم يسترعى (طلَب منه، أن يحفظه، ويتعهده)، الشريف؟
قال الثعلب: تقوى الله.
قال الملك: فبم، يسود المرء؟
قال الثعلب: بأربع، العلم، والأدب، والفقه، والأمانة.
قال الملك: فما شر الدنيا، والآخرة، وخيرهما؟
قال الثعلب: ذلك في أربع، في الكفر، والفقر، والغنى، والتقى.
قال الملك: فأي شيء، أحب إلى الناس، من العطاء؟
قال الثعلب: الكلمة الطيبة، والوجه البَسِط.
قال الملك: فبم، يكون، الحمد والمجد؟
قال الثعلب: لا حمد، الا بفعال، ولا مجد، الا بمال.
قال الملك: فما خير الجلساء، والاصحاب؟
قال الثعلب: من يستفاد، منه، الخير في الدّين، فمن لم يكن كذلك، فلتنبذ، صحبته.
قال الملك: فصف لي، الايمان؟
قال الثعلب: ما لا دونه، غنى، ولا بعده، فقر.
قال الملك: ففيم، يتعزى العاقل؟
قال الثعلب: فيما ينزل به، من المكروه، وذلك، بأمرين: أحدهما، السرور، بما يناله، والآخر، رجاء الفرج، مما نزل به، ويجزع الجاهل، في مصيبته، بأمرين: أحدهما، استكثاره، والآخر، ما هو أشد، منه.
قال الملك: فما أدنى، ما يستوجب، معطي النعمة، على نائلها، منه؟
قال الثعلب: ألا يتوصل، بها، إلى معصية.
قال الملك: فما الشيء، الذي هو، في بعض الناس، أقبح منه، في بعض؟
قال الثعلب: كان يقال، خمسة أشياء، تقبح من خمسة، الحرص، من القَرَاء (الضِّيَافَة)، والحدة، من الأمراء، والبخل، من ذوي الأموال، والفحش، من ذوي الاحساب، والشره، من ذوي الامتنان.
قال الملك: فصف لي، النعم، والذنوب؟
قال الثعلب: نعم الله، أكثر، من أن يؤدي شكرها، الا، ما أعان عليه، وذنوب ابن آدم، أكثر، من أن يسلم منها، الا، ما عفي عنه.
قال الملك: فمتى تكون، الصنيعة، أحسن؟
قال الثعلب: إذا كانت، عند ذي حسب، أو دين.
قال الملك: بم، يصيب الظن؟
قال الثعلب: ان لم يكتنفه، العقل الراجح، فهو في الخطأ، سائح، أو بارح (مستمر).
قال الملك: فبم، يعرف الرجل؟
قال الثعلب: بما، أكثر منه.
قال الملك: فيم، تذهب، هيبة الرجل؟
قال الثعلب: في كثرة، ضحكه.
قال الملك: فما يخرجه، إلى الاستخفاف، به؟
قال الثعلب: كثرة، مزاحه.
قال الملك: فما يكثر، سقط منطقه؟
قال الثعلب: كثرة، كلامه.
قال الملك: وما، في كثرة كلامه؟
قال الثعلب: قلة، حيائه.
قال الملك: وما في قلة، حيائه؟
قال الثعلب: موت قلبه.
قال الملك: وما، في موت قلبه؟
قال الثعلب: رِقَّةُ (ضعْفُ) دينه.
قال الملك: فأين موضع، السلامة؟
قال الثعلب: موضع السلامة، في الصمت.
قال الملك: فأين عاقبة، الندامة؟
قال الثعلب: في كثرة الكلام، وفي ذلك، قال الشاعر:
يَمُوتُ الفَتَى، مِنْ عَثْرَةٍ، من لِسَانِهِ
وَلَيْسَ يَمُوتُ، المَرْءُ، مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ، بالقول، تَرْمِي بِرَأْسِهِ
وَعَثْرَتُهُ، بِالرِّجْلِ، تَبْرَا عَلَى مَهْلِ
قال الملك: فمن الجواد، بالعطيّة؟
قال الثعلب: الموقن، بالخلف.
قال الملك: كيف ينزل الصبر؟
قال الثعلب: على قدر المصيبة.
قال الملك: كيف تنزل، المعونة؟
قال الثعلب: على قدر المؤونة (ما يُدَّخَرُ، منه).
قال الملك: بم يصفو، ود الأخ؟
قال الثعلب: ثلاثة، يوسع له، إذا جلس إليه، ويبدؤوه، بالسلام، ويدعوه، بأحب أسمائه، إليه.
قال الملك: فما أفضل، أعمال البرّ؟
قال الثعلب: انتظار الفرج.
قال الملك: كيف الدنيا، بعدنا؟
قال الثعلب: مثلها، بعد غيرنا.
فأعجب النمر، ما سمعه، من كلامه، ورأى، من حسن عقله، وجودة، منطقه وألفاظه، ونفوذ رأيه، وثبوت حجته، فأمر له، بجائزة، سَنِيَّة (ذا رِفْعةٍ، وقَدْرٍ)، وأمره، بالمقام، في جواره، وبقرب داره، فكان يرتئيه، في خطب، إن فدح، وأمر، إن سنح، ويعمل برأيه، ومشورته، إلى أن، هلك.
الحمد لله رب العالمين