بسم الله الرحمن الرحيم
وجدنا الناس قبلنا، كانوا أعظمَ أجسادًا، وأوفر مع أجسادهم أحلامًا (عقْل، الأَناةُ وضبطُ النَّفْس)، وأشد قوة، وأحسن بقوتهم، للأمور إتقانًا، وأطول أعمارًا، وأفْضَلَ بأعْمَارِهِم، للأشياءِ اختبارًا، فكان صاحبُ الدين منهم، أبلغ في أمر الدين، علمًا وعملًا، من صاحب الدين منا، وكان صاحبُ الدنيا، على مِثْلِ ذَلكَ، من البلاغَة والفَضل.
ووجدناهم، لم يرضَوا بما فازوا به، من الفَضْلِ، الذي قُسِم لأنفسهم، حتى أشركونا معهم، فيما أدركوا، من علم الأولى، والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وكفَونا به، مؤنةَ (شدّة وثقل) التجارب والفُطُن (فطَن الأمرَ: تبيَّنه وعَلِمَه، والفطن تكفيه الإشارة).
وبَلَغ من اهتمامهم بذلك، أن الرَّجل منهم، كان يُفتح له الباب من العلم، والكَلِمة من الصَّواب، وهو في البَلَدِ غير المأهول، فيكتبه على الصخور، مبادرةً منه للأجَلِ (غاية الوقت المحدَّد لشي)، وكراهية، لأن يسقط (يغيب) ذلك على من بعده.
فكان صنيعهم في ذلك، صنيع الوالد الشَّفيقِ، على ولده، الرحيم البرِّ بهم، الذي يجمع لهم الأموال والعُقَدَ (الولاية)، إرادَةَ، ألَّا تَكُونَ عليهم، مَؤُنَةٌ في الطَّلَب، وخَشْيَةَ عجزهم، إن هم طلبوا.
فمنتهى علم عالِمنا، في هذا الزَّمان، أنْ يأخذ من عِلمِهم، وغايةُ إحسان مُحْسِنِنا، أن يقتدي بسيرتهم، وأحسن ما يُصِيبُ، من الحديثِ محدثنا، أن ينظر في كُتُبهم، فَيَكُون، كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع.
غَيرَ أن الذي، نجدُ في كتبهم، هو المُنْتَخَل (نخَل قضيّة: أمعن فيها بحثًا، وتدقيقًا، محصها، وتفحّصها بتروٍّ وإمعان نظر) في آرائهم، والمنتقى من أَحَادِيثهم، ولم نَجِدْهم، غَادَرُوا شيئًا، يجد واصفٌ بَليغٌ، في صِفَةٍ لهُ مقَالًا، لم يسبقوه إليه، لا في تعظيم لله عز وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغيرٍ للدنيا، وتزهيدٍ فيها، ولا في تحريرِ (تمييزها عما تلتبس به، إِنْشَاء) صنوف العلم، وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها، وتوضيح سُبُلها، وتبيين مآخذها، ولا في وجوه الأدب، وضروب الأخلاق، فلم يبق، في جليلٍ من الأمر، لِقائلٍ بعدَهم مقال.
وقد بقيَتْ أشياءُ، من لطائفِ الأُمور، فيها مواضع، لصغار الفِطَنِ، مشتقةٌ، من جِسامِ حِكَم الأولين، وقولِهم، ومن ذلك، بعضُ ما أنا كاتبٌ، في كتابي هذا، من أبواب الأدَبِ، التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب الأدب، اعرِفِ الأُصولَ والفُصُول (أجزاء، فرع، عكسه أصل)، فإنَّ كثيرًا من النَّاس، يطلبون الفصول، مع إضاعة الأصول، فلا يكون دَرْكُهُم دركًا، ومَن أَحْرَز الأصول، اكتفى بها عن الفصول، وإنْ أَصَاب الفَصْل، بعد إحراز الأصل، فهو أفضل.
فأصلُ الأمر في الدِّين، أن تَعْتقدَ الإيمان، على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فاْلزَمْ ذلك، لزومَ، من لا غنًى له عنه طرفة عين، ومن يعلم، أنه إن حُرِمَه هلك، ثم إنْ قدرت، أن تجاوز ذلك، إلى التَفَقُّه في الدين والعبادة، فهو أفضلُ وأكمل.
وأصلُ الأمر في المعيشة، ألَّا تَنِيَ (ترك وأهمل، ضَعُف وفَتَر) عن طَلَب الحلالِ، وأن تُحسِنَ التَّقْدير، لما تُفيدُ (اسْتَفَادَ المالَ وغيرَه: حصَّلَه، اكتسبه)، وما تنفق، ولا يغُرَّنكَ من ذلك، سعةٌ تكون فيها، فإنَّ أعظم الناس في الدنيا خطرًا، أحوجُهم إلى التقدير، والملوك، أحوجُ إلى التقدير من السُّوقة (عامّة النَّاس)، لأن السوقة، قد يعيش بغير مال، والملوك، لا قوام لهم، إلا بالمال، ثُمَّ إنْ قَدَرْتَ، على الرفق واللطف، في الطلب والعلم، بالمَطالِب (الْمَسْعَى)، فهو أفضل.
وأصلُ الأمْر،ِ في إصلاح الجسَدِ، ألا تحْمِل عليه، من المآكل والمشارب والباه (الْجِمَاع)، إلا خُفافًا، وإن قدرت، على أن تعلم، جميع منافع الجسد، ومضارِّه، والانتفاع بذلك، فهو أفضل.
وأصل الأمر في الجودِ، ألا تضِنَّ بالحقوق عن أهلها، ثم إنْ قَدَرت، أن تزيد ذا الحق على حقه، وتطُولَ (الطول: الْفضل والغنى واليسر) على من لا حق له، فافعل، فهو أفضل.
وأصلُ الأمر في البَأس، ألا تُحَدِّثَ نفسك بالإدبار، وأصحابُك مقبلون على عدوهم، ثم إن قدرت أن تكون، أول حامل، وآخر منصرف، من غير تضييع للحذر، فهو أفضل.
وأصلُ الأمر في الكلام، أن تَسْلَمَ من السَّقَطِ، بالتحفُّظ، ثم إنْ قَدَرْت، على بارِعِ الصواب، فهو أفضل.
وأنا واعِظُكَ، في أشياء من الأخلاق اللطيفة، والأمور الغامضة، التي لو حَنَّكَتك سِنٌّ، كُنتَ خليقًا أن تعلَمَها، وإن لم تُخْبَر عنها، ولكِن، أحْببت أن أقدم إليك فيها، قولًا، لِتُرَوِضَ نَفْسَك، على محاسِنِها، قبل أن تجري، على عادة مساويها (المعايب والنقائص)، فإن الإنسان، قد تبتدر إليه، في شَبِيبَتِهِ المساوي، وقد يَغْلِبُ عليه، ما يبدُرُ إليه منها.
إن ابتُلِيتَ بالإمارَة، فتَعَوَّذْ بالعُلَماء، واعلمْ، أن من العُجْب (كِبْر وزهو وغرور) أن يُبْتَلى الرجل بها، فيريد أن ينتقص من ساعات نَصَبِهِ (التَّعَبِ، العَنَاءِ) وعمله، فيزيدها في ساعات دَعَتِه (يَعِيشُ فِي دَعَةٍ: فِي رَغْدِ عَيْشٍ، رَاحَةٍ، سَكِينَةٍ) وشَهْوَتِه.
وإنما الرّأيُ له، والحق عليه أن يأخذ لعمله، من جميع شُغْلِه، فيأخُذَ من طعامه، وشرابه، ونومه، وحديثه، ولهوه، ونسائه.
فإذا تقلدت شيئًا، من الأعمال، فكنْ فيه أحد رجلين، إمَّا رجلًا مُغتبطًا به، فَحَافَظَ عليه مخافة أن يَزُول عنه، وإمَّا رجلًا كارهًا، فالكاره عاملٌ في سُخرة، إمَّا للملوك، إن كانوا هم سلطوه، وإما لله تعالى، إن كان ليس فوقه غيره.
إياك إذا كنت واليًا، أنْ يكون من شأنك حُبُّ المدح والتزكية، وأنْ يَعْرِفَ النَّاسُ ذلك منك، فتكُون ثُلْمَةٍ (ثُغْرة) من الثُّلم، يَتَقَحَّمونَ (اِقْتَحَمَ، رَمَى نَفْسَهُ بِشِدَّةٍ وَقُوَّةٍ لِخَوْضِهَا) عليك منها، وبابًا، يفْتَتِحونَكَ (افتتحَ: بدأ) منه، وغِيبَة يَغْتَابونَكَ بها، ويضحكون منها.
واعلم، أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرءُ جدير، أن يكُونَ حُبُّه المدحَ، هو الذي يحمله على رده، فإنَّ الرَّادَّ له محمودٌ، والقابل له معيب.
ولتكن، حاجتك في الولاية، إلى ثلاث خصال، رضا ربك، ورضا سُلطان، إن كان فوقك، ورضا صالحِ مَن تَلي (تَخَلَّفَ) عليه، وما عليك أن تلهى عن المال والذِّكْرِ (صيت حسن، أو سيئ، يتركه الإنسانُ بعد موته، وقيل الصِّيت والشرف)، فسيأتيك منهما، ما يكفي ويطيب، واجعل الخصالَ الثلاثَ، بمكان، ما لا بُدَّ لك منه، والمال والذكر، بمكان، ما أنت واجدٌ منه بُدًّا.
إعْرِفِ، أهلَ الدِّين والمروءة، في كل كُورَة (بقعة تجتمع فيها قرى ومحال)، وقريَة وقبيلةٍ، فيكُونوا هم إخوانَكَ، وأعوانَكَ، وبطانتك وثقاتِك.
لا يُقْذَفَنَّ في رُوعِك، أنك إن استشرت الرجال، ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فإنَّك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكن تريده للانتفاع به. ولو أنك مع ذلك، أردتَ الذِّكر، كان أحسن الذِّكْرين، وأفضلها عند أهل الفضل والعقل، أن يُقال، لا يتفرد برأيه، دون استشارة ذوي الرأي.
إنك إنْ تلتمسْ رِضا جميع النَّاس، تلتمس مَا لا يُدْرَك، وكيف يتفق لك رأي المختلفين (أَمْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: فِيهِ جِدَالٌ وَنِزَاعٌ)؟ وما حاجتك إلى رضا من رِضَاهُ الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟
فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم، وذوي العقل، فإنك متى تصب ذلك، تضع عنك مؤنة (ذخيرة، عتاد) ما سواه.
لا تُمَكِّن أهل البَلاء من التَّذَلُّل، ولا تمكن مَنْ سِوَاهم، من الاجتراء عليهم، والعيب لهم، ولتعرف رعيتك، أبوابَكَ، التي لا يُنَالُ ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب، التي لا يخافك خائفٌ، إلا من قِبَلِها.
إحرص الحرص كله، على أن تكون خبيرا بأمور عُمَّالك، فإنَّ المسيء، يَفْرَقُ (باعد) من خِبْرتك، قبل أن تصيبُه عقوبتك، وإنَّ المحسن، يستبشر بعلمك، قبل أن يأتيه معروفُك.
ليَعْرِف النَّاسُ، فيما يعرفون من أخلاقِك، أنكَ لا تُعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدْوَمُ، لخوف الخائف، ورجاء الراجي.
عوِّد نفسك الصَّبْرَ، على مَنْ خالفك من ذوي النَّصيحة، والتجرُّع لمرارة قولهم، وعذلهم (لَوْمِهِم)، ولا تُسَهِّلن سبيل ذلك، إلا لأهْلِ العَقْل، والسِّنِّ، والمروءة، لئلا ينتشر من ذلك، ما يجترئ به سفيهٌ، أو يستخف له شأن.
لا تَتْرُكَنَّ مُبَاشرة جميع أمرك، فيعود شأنك صغيرًا، ولا تُلزم نفسك مباشرة الصغير، فيصير الكبير ضائعًا.
إعلم، أن رأيك لا يتَّسع لكل شيء، ففرغه للمُهم، وأن مالك لا يغني الناس كلهم، فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لا تُطيق العامَّة، فتوخَّ بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك، وإن دأبتَ فيهما، مع حاجة جَسَدك إلى نصيبه من الدعة، فأحسن قسمتهما، بين دَعَتك، وعملك.
واعلم، أنك ما شغلت من رأيك بغيرِ المهِمِّ، أزْرَى (وضع من حقه) للمُهِمِّ، وما صَرَفْتَ من مالك بالباطل، فقدته، حين تُريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص، أَضَرَّ بك في العجز (عجز عن الوفاء بالتزام) عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة، أزرى بك في الحاجة.
إعلم، أن من الناس ناسًا كثيرًا، يبلغ من أحدهم الغَضَبُ إذا غَضِب، أن يحمله ذلك، على الكُلوح (كلَح الشَّخصُ: عَبَس وأفرطَ في العبوس من ضيق أو حزن) والتقطيب، في وَجْه غيرِ مَن أغضبه، وسوء اللفظ، لمن لا ذنب له، والعقوبة، لمن لم يكن يَهمُّ بعُقوبته، وسوء المعاقبة، باليد واللسان، لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك.
ثم، يبلغ به الرضا إذا رضي، أن يتبرع بالأمر ذي الخَطَرِ(رفيع)، لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويُعطي، مَن لم يكن أعطاه، ويُكرم، من لا حق له ولا مَوَدَّة.
فاحذرْ هذا الباب كله، فإنَّه ليس أحد أسوأ حالًا، من أهل القدرة، الذين يُفرِطون باقتِدارِهِمْ (الغلبة والقوة)، في غضبهم، وسرعة رضاهم، فإنه، لو وُصِفَ بصفة، من يُتلبس بعقله، أو يتخبطه المسُّ، من يعاقِب في غضبه غير من أغضبه، ويحبو (دنا وقرب) عند رضاه غير من أرضاه، لكان جائزًا في صفته.
واعلم، أن المُلْكُ ثلاثةٌ: مُلكُ دين، وملك حزمٍ، وملكُ هوًى.
فأمَّا مُلكُ الدِّين، فإنَّه إذا أُقيم للرعية دينهم، وكان دينُهم هو الذي يعطيهم ما لَهم، ويُلْحِقُ بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، ونَزَلَ الساخط منهم، منزلة الراضي، في الإقرار والتسليم.
وأمَّا ملك الحزم، فإنه يقوم به الأمر، ولا يَسْلَمُ من الطَّعْنِ، والتَسَخُط (كرِه وغضِب)، ولن يضُرَّ طعنُ الذَّليل، مع حَزْمِ القوي.
وأمَّا مُلك الهوى، فلعبُ ساعة، ودمارُ دهر.
إذا كان سُلْطَانك، عندَ جِدَّةِ (كون الشيء جديدا) دَوْلَة، فرأيتَ أمرًا استقام بغير رأي، وأعوانًا جَزَوْا بغير نيلٍ (اسْتِحْقَاق، إِدْرَاك، بُلُوغ)، وعملًا أنجَحَ (صار ذا نجاح) بغير حزم، فلا يغرنك ذلك، فلا تَسْتَنِمْ إليه، فإنَّ الأمر الجديد، مما تكونُ له مهابةٌ في أنفُس أقوام، وحلاوةٌ في أنفس آخرين، ويستتب بذلك الأمر غير طويل، ثم تصير الشئون إلى حقائقها وأصولها، فما كان من الأمر، بُني على غير أركان وثيقة، ولا عماد محكم، أوشك أن يتداعى ويتصدع.
ولا تكُوننَّ نَزْرَ (نَزَرَ النَّاسَ: اِحْتَقَرَهُمْ) الكلامِ والسلامِ، ولا تُفَرِّطَن بالهشاشة (هشَّش فلانًا: فرّحه ونشَّطه) والبشاشة، فإن إحداهما من الكِبْرِ، والأخرى من السُّخْفِ.
إذا كنت لا تضبط أمرك، ولا تصول على عدوك، إلا بقوم، لست منهم على ثقة من رأي، ولا حِفاظٍ (وَفَاء، مَنْع) من نيَّة (عزم القلب على أمر من الأمور)، فلا تنفعك نافعة، حتى تحولهم إن استطعت، إلى الرأي والأدب، الذي بمثله تكون الثقة، أو تستبدل بهم، إن لم تستطعْ نقلهم إلى ما تريد، ولا تغُرَّنك قُوتك بهم، وإنما أنت في ذلك، كراكب الأسد، الذي يَهابُهُ من نظر إليه، وهوَ لِمَرْكَبِهِ، أهيبُ.
ليس للملك أن يَغْضَب، لأن القُدرة، من ورَاءِ حَاجَتِهِ (صاحب الحاجة أرعن)، وليس له أنْ يكْذِبَ، لأنه لا يقدرُ أحدٌ على استكراهه، على غير ما يُريد، وليس له أن يبخل، لأنه أقلُّ الناس عذرًا في تخوُّف الفقر، وليس له أن يكون حقودًا، لأن خطرَه قد عَظُمَ (صَعُب وشقَّ) عن مجازاة (مُكَافَأَةٌ، مُعَاقَبَة) كل الناس، وليتق أن يكون حلافًا، فأحقُّ الناس باتقاء الأيمان، الملوك.
وإنما يحمل الرجل على الحلف، إحدى هذه الخلال: إما مهانةٌ يجدها في نفسه، وضَرَعٌ وحاجة إلى تصديق الناس إياه، وإما عِيٌّ بالكلام، حتى يجعل الأيمان له حشْوًا وَوَصْلًا، وإما تُهمة، قد عرفها من الناس لحديثه، فهو يُنزل نفسه، منزلة من لا يُقْبَل منه قوله، إلا بعد جهد اليمين، وإمَّا عبثٌ في القول، أو إرسال اللسان، على غير رَوِيّةً (نَظَرٌ وتفكير في الأمور)، ولا تقدير.
ولا عيب على الملك، في تعيُّشِهِ وتَنَعُّمه، إذا تَعَهَّدَ الجسيم من أمره، وفوَّض ما دون ذلك، إلى الكُفاة.
كلُّ الناس، حقيقٌ حين ينظر في أمر الناس، أن يتهم نظره بعين الريبة، وقلبه بعين المَقْتِ، فإنهما يُريان الجور، ويحملان على الباطل، ويُقبحان الحسن، ويحسنان القبيح، وأحقُّ الناس باتهام عين الريبة، وعينِ المقت، الملكُ الذي ما وقع في قلبه ربا (نشأ وعلا)، مع ما يُقيض له من تزيين القرناء والوزراء، وأحق الناس بإجبار نفسه على العدل، في النظر والقول والفعل، الوالي، الذي ما قال أو فعل، كان أمرًا نافذًا، غير مردود.
ليعلم الوالي، أن الناس يَصفُون الولاة، بسوء العهد، ونسيان الود، فليُكابد نقض قولهم، ولْيُبْطِل عن نفسه، وعن الولاة، صفات السوء، التي يُوصفون بها.
ليتفقد الوالي، فيما يتفقد من أمور الرعية، فاقة الأحرار منهم، فلْيَعْمل في سَدِّها، وطُغْيان السَّفلة منهم، فليقمعْه، وليستوحش من الكريم الجائع، واللئيم الشبعان، فإنما يصُولُ الكريمُ إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
لا يحسدن الوالي مَنْ دُونهُ، فإنَّه في ذَلكَ، أقلُّ عُذرًا من السوقة، التي إنما تحسد من فوقها، وكلٌّ، لا عذر له.
لا يلومن الوالي على الزلة، مَنْ ليس بمتهم، على الحرص على رضاه، إلا لوم أدب وتقويم، ولا يعدلن بالمجتهد في رضاه، البصير، بما يأتي أحدًا، فإنهما إذا اجتمعا في الوزير، أو الصاحب، نام الوالي واستراح، وجُلِّبَتْ إليه حَاجَاتُه، وإن هدأ عنها، وعَملَ فيما يهمه، وإن غفل.
لا يُولعن (يعَلِق) الوالي، بسُوء الظَّنِّ، لقول الناس، وليَجْعل لحسن الظَّن من نفسه، نصيبًا موفورًا، يُروِّح به عن قلبه، ويُصْدِرُ به أعماله.
لا يُضيعنَّ الوالي التثبُّت، عندما يقُولُ، وعندما يُعْطي، وعندما يفعل، فإنَّ الرجوع عن الصَّمت، أحسنُ من الرجوع عن الكلام، وإنَّ العطية بعد المنع، أجملُ من المنع بعد الإعطاء، وإنَّ الإقدام على العمل بعد التأني فيه، أحسن من الإمساك عنه، بعد الإقدام عليه، وكلُّ الناس محتاج إلى التثبُّت، وأحوجُهم إليه، ملوكهم، الذين ليس لقولهم وفعلهم دافعٌ، وليس عليهم مستحِثٌّ (عجَّل).
جِماعُ، ما يحتاج إليه الوالي، رأيان: رأي يُقَوِّي سُلْطَانه، ورأيٌ يُزينه في النَّاس، ورأي القوة، أحقهما بالبداءة، وأولاهما بالأثَرَة، ورأي التزْيِين، أحْضَرُهُما حَلاوةً، وأكثرهما أعوانًا، مع أن القوة من الزينة، والزينة من القوة، لكنِ الأمر، ينسب إلى أعظمه.
إن شُغِلْتَ بصُحْبَةِ الملوك، فعليك بطول الرَّابطة (الصِلَة) في غير مُعَاتَبَة، ولا يُحدثن لك الاستئناسُ غفلة، ولا تهاونًا.
إذا رأيت أحدَهم، يجعلك أخًا، فاجعله أبًا، ثم إنْ زادك، فزدْهُ.
إذا نزلت من ذي منزلة، أو سلطان، فلا تَرَيَنَّ، أن سلطانه زادك له توقيرًا وإجلالًا، من غير أن يزيدك وُدًّا ولا نُصحًا، وأنك ترى حقًّا له التوقير والإجلال، وكن في مداراته (مُلاَيَنتَهُ، مُلاَطفَتَهُ)، والرفق به، كالمُؤْتَنف (جديد، غير مقدر من قبل) ما قَبْلَهُ، ولا تُقَدِّر الأمر بينك وبينه، على ما كُنت تعرف من أخلاقه، فإنَّ الأخلاق مُستحيلةٌ مع الملك، ورُبما رأينا الرجل، المُدِلّ (وثِقَ بمحبَّته فتجرَّأ عليه) على ذي السلطان بقِدَمِه، قد أضر به قِدَمُهُ.
إعلمْ، أنك واجدٌ رَغْبَتَك من الإخاء، عندَ أقوامٍ، قد حالتْ بينك وبينهم بعضُ الأبَّهَة (عظمة، كِبْر)، التي قد تعتري أهل المروءات، فتحجز منهم كثيرًا، ممن يُرغَب في أمثالهم، فإذا رأيتَ أحَدًا من أولئك قد عثر به الزمان، فأَقِلْه (أَقَلَّ الشيءَ: حمله ورفعه).
لا تعتذِرَنَّ، إلاّ، مَنْ يحب أن يجد لك عذرًا، لا تستعينَنَّ، إلاّ، بمن يحب أن يظفر لك بحاجتك.
لا تُحدثَنَّ، إلاّ من يَرَى حديثك مغنمًا، ما لم يغلبْك الاضطرارُ.
إذا غرست من المعروف غرسًا، وأنفقت عليه نفقة، فلا تَضْنَنْ بالنفقة، في تربية ما غرست، فتذهب النفقة الأولى، ضياعًا.
إذا اعتذر إليك مُعتذرٌ، فتلقَّه بوجه مُشرق، وبِشْر طليق، إلاّ، أن يكون ممن قطيعتُهُ، غنيمة.
إعلمْ، أن إخوان الصدق، هم، خير مكاسب الدُّنيا، زينة في الرخاء، وعُدَّة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد، فلا تُفَرِطَنَّ، في اكتسابهم، وابتغاء الوصلات والأسباب إليهم.
إذا عرفت نفسك من الوالي، بمنزلة الثقة، فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثرن من الدُّعاء له في كل كلمة، فإن ذلك شبيه بالوحشة والغربة، إلا أن تكلمه على رءوس النَّاس، فلا تأتل (تقصّر)، عمَّا عظمه ووقره.
إن استطعت ألا تصحب من صحبت، من الولاة، إلا على شُعْبَة من قرابة، أو مودة، فافعل، فإن أخطأك ذلك، فاعلمْ، أنك تعمل على عمل السُّخرة، وإن استطعت أن تجعل صُحبتَك، لمن قد عرفك منهم بصالح مروءتك قَبلَ ولايته، فافعل.
إن الوَالي، لا عِلْمَ له بالنَّاس، إلا ما قد علم قبل ولايته، فأمَّا إذا ولي، فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأنْ يُثني عليه عنده، بما ليس فيه، غير أن الأرذَال، والأنذَال، همْ أشَد لذلك تصنعًا، وعليه مُكَابرة، وفيه تَمَحُّلًا (قوة وحِيلَةِ)، فلا يمتنع الوالي، وإن كان بليغ الرأي والنَّظر، من أن يَنزل عِنْدَه كثير من الأشرار، بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة، بمنزلة الأمناء، وكثيرٌ من الغدرة، بمنزلة الأوفياء، ويُغطَّى عليه أمرُ كثير من أهل الفضل، الذين يصونون أنفسهم عن التمحُّل (احتال، التمس حيلة، سلك طرقًا ملتوية للوصول إلى الأمرِ)، والتصنع.
لا يعرفنَّك الولاةُ بالهوى، في بلدة من البلدان، ولا قبيلة من القبائل، فيوشِكَ، أن تُحْتَاجَ فيهما، إلى حكاية (ما يقص من حادثة حقيقية أو خيالية) أو مُشاهدة (مُعَايَنَة)، فتتهم في ذلك.
وإذا أردت أن يُقبل قولك، فصحح رأيك، ولا تشوبنه بشيء من الهوى، فإن الرأي يقبله منك العدو، والهوى يرده عليك الولي، وأحقُّ من احترست، من أنْ يَظُنَّ بك، خلط الرَّأي بالهوى، الولاة، فإنها خديعة، وخيانة وكُفْرٌ.
إن ابتُليت بصحبة وال، لا يُريد صلاح رعية، فاعلم، أنك قد خُيرت بين خلتين، ليس بينهما خيار، إما ميلك مع الوالي على الرعية، وهذا هلاك الدين، وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاك الدُّنيا، ولا حيلة لك، إلا بالموت، أو الهرب.
واعلم، أنه لا ينبغي لك، وإن كان الوالي غير مرضي السيرة، إذا علقت حبالك بحبله، إلا المحافظة عليه، إلا أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلًا.
تَبَصَّرْ ما في الوالي من الأخلاق التي تُحبُّ، والتي تكره، وما هو عليه من الرأي، الذي يرضى له، والذي لا يرضى، ثم لا تكابره، بالتحويل له عما يحب ويكره، إلى ما تحب وتكره، فإن هذه رياضةٌ صعبة، تحمل على التنائي (التَّبَاعُد)، والقِلَى (الْبُغْض، الحِقْد).
إعلمْ، أنك قلَّمَا تقدر على رَدِّ رجل، عن طريقته التي هو عليها، بالمكابرة والمناقضة، وإن لم يجمحْ (خَرَجَ) عن السلطة، ولكنك تقدر أن تُعينه على أحسن رأيه، وتسبب له منه، وتُقويه فيه، فإذا قَوِيَت منه المحاسنُ، كانت هي التي تَكُّهُ (تقطع) عن الْمسَاوِي، وإذا استحكمتْ منه ناحيةٌ من الصواب، كان ذلك هو الذي يبصره الخطأ، بألطف من تبصيرك، وأعدَلَ من حُكْمِكَ في نفسه، فإن الصواب يريد بعضه بعضًا، ويدعو بعضه إلى بعض، فإذا كانت له مكانةٌ، اقتلع الخطأ.
لا يكوننَّ طلبك ما عند الوالي بالمسألة، ولا تَسْتَبطِئُه وإن أبطأ، ولكن اطلب ما قِبَلَه، بالاستحقاق له، واسْتأنِ (تأنَّى فلانٌ: تمهَّل، تروّى، لم يتسرّع أو يندفع) وإن طالت الأناةُ (ضبط النفس والصبر والحلم)، فإنَّك إذا استحققته، أتاك من غير طلب، وإن لم تستبطئه، كان أعجل له.
لا تُخبرنَّ الوالي، أن لك عليه حقًّا، وأنك تَعْتَدّ عليه ببلاء، وإن استطعت أن ينسى حقك، وبلاءك، فافعل، وليكن ما تذكره من ذلك، تجديدك له النصيحة، والاجتهاد، وألا يزال ينظُرُ منك، إلى آخِرٍ، يذكِّرُه أوَّلَ بلائك.
واعلم، أن ولي الأمْرِ، إذا انقطع عنه الآخرُ، نَسِيَ الأول، وأن الكثير من أولئك، أرحامُهم مقطوعةٌ، وحبالُهم مَصْرُومة (صرَم الشَّيءَ: جزَّه وقطعه)، إلا عمن رضوا عنه، وأغنَى عنهم في يومهم، وساعتهم.
إياك أن يَقَعَ في قلبك، تَعَتُّب على الوالي، أو استزادةٌ له، فإنه إن آنست أن يقع في قلبك، بدا في وجهك، إن كنت حليمًا، وبدا على لسانك، إن كنت سفيهًا، وإن لم يزد ذلك على أن يظهر في وجهك، لآمن الناس عندك، فلا تأمنن أن يظهر ذلك للوالي، فإنَّ الناس إليه بعورات الإخوان سِرَاعٌ، فإذا ظهر ذلك للوالي، كان قلبُه هو أسرع إلى التعتب، والتعزز من قلبك، فمَحَقَ ذلك حسناتك الماضية، وأشرف بك على الهلاك، وصرت تعرفُ أمرك مُستدبرًا، وتلتمس مرضاته، مستصعبًا.
إعلم، أن أكثر الناس، عَدُوًّا مجاهرًا، حاضرًا، جريئًا، واشيًا، وزير السلطان، ذو المكانة عنده، لأنه مَنفوسٌ (محسود) عليه، بما يُنْفَسُ على صاحب السلطان، ومحسودٌ كما يحسد غيره، غير أنه يُجترأ عليه، ولا يَجترئ على السلطان، لأن من مُحاسديه، أحباء السلطان، الذين يُشاركونه في المداخل والمنازل، وهم وغيرهم، من عَدُوه الذين هم حُضَّاُرهُ، ليسوا كعدو السلطان، النَّائي عنه، المُتَكَتِّم منه (أَي يَكْتُمُهَا وَيَحْتَفِظُ بِهَا وَلاَ يُذِيعُهَا)، وهم لا ينقطع طمعُهم من الظفر به، فلا يغفلون عن نصب الحبائل.
فاعرف هذه الحال، والبس، لهؤلاء القوم، الذين هم أعداؤك، سلاح الصحة والاستقامة، ولزوم الحجة، فيما تُسِرُّ وتُعلن، ثم رَوِّحْ من قَلْبك كأنه لا عدو لك ولا حاسد.
وإن ذكرك ذاكرٌ، عند وليِّ الأمر، بسوء في وجهك، أو في غيبك، فلا يَرَينَّ منك الولي، ولا غيرُه، اختلاطًا لذلك، ولا اغتياظًا، ولا يقعن ذلك موقع ما يَكْرِثك (ساء)، فإنَّه إن وقع منك ذلك الموقع، أدخل عليك أمورًا، مُشْتَبَهَةً بالريب، مُذكرة لِمَا قال فيك العائب.
وإن اضطرَّك الأمرُ في ذلك إلى الجواب، فإياك وجواب الغضب والانتقام، وعليك بجواب الحجة في حلم ووقار، ولا تَشُكنَّ، في أن القوة والغلبة، للحلم أبدًا.
لا تُحْضِرَنَّ، عند الوالي كلامًا لا يعني، ولا يُؤمر بحضوره، إلا لعنايةٍ بِه، أو يكون جوابًا، بالشيء سئلت عنه.
لا تَعُدَّنَّ شتم الوالي شتمًا، ولا إغلاظه إغلاظًا، فإنَّ ريح العز، قد تبسط اللسان، بألفاظ، في غير سخط، ولا بأس.
جانب المسخوط (سخط عليه: غضب عليه ونقم) عليه، والظنينَ (الْمُتَّهَمُ، من لا يوثق به) به، عند الولاة، ولا يجمعنَّك وإياه مجلسٌ، ولا تُظهِرنَّ له عذرًا، ولا تُثنِيَنَّ عليه خيرًا عند أحد من النَّاس، فإذا رأيته قد بلغ من الإعْتاب (رُجوعُ الـمَعْتُوب عليه إِلى م يُرْضِـي العاتِبَ)، مِمَّا سُخِطَ عليه فيه، ما ترجو أن يلين له الوالي، واستَيْقنت أنَّ الوالي قد استيقن، بمباعدتك إياه، وشدتك عليه، فضعْ عُذْرَه عند الوالي، واعملْ في إرضائه عنه، في رفق ولطف.
وليَعْلَم الوالي، أنك لا تستنكِفُ (تمتنع) عن خدمته، ولا تَدَعْ مع ذلك، أنْ تُقَدِّمَ إليه القول، عند بعض حالات رضاه، وطيبِ نَفْسِهِ، في الاستعفاء من الأعمال التي يَكْرَهُها ذو الدِّين، وذو العرض، وذو المروءة، من ولاية القتل والعذاب، وأشباه ذلك.
إذا أصبت الجاهَ والخاصَّةَ عنْدَ الملِكِ، فلا يُحْدِثَنَّ لك ذلك تغيُّرًا، على أحد من أهله وأعوانه، ولا استغناءً عنهم، فإنك لا تدري متى تَرَى، أَدْنَى جَفْوَةٍ، فَتَذِلَّ (ضعف، وهان) لهم فيها، وفي تَلَوُّن الحالِ عندَ ذلكَ، من العار ما فيه.
ليكُنْ، مما تُحْكِمُ من أمْرِكَ، ألَّا تُسارَّ (أعلمه بسِرِّه) أحدًا من الناس، ولا تهمسَ إليه بشيء تخفيه عن السلطان، فإنَّ السِّرار، مما يخيل إلى كل مَنْ رآه، أنه المراد به، فيكونُ ذلك في نفسه حَسِيكَةً (حقد، عداوة)، وَوَغْرًا (غَيظ، ضِغْن)، وثِقلًا.
لا تتهاوننَّ، بإرسالِ الكَذْبَةِ، عندَ الوَالي أو غَيْرِه، في الهزل، فإنها تسرع في ردِّ الحق، وإبطال الصدق، مما تأتي به.
تَنَكَّب (نكب عن الشيء: عدل، مال) فيما بينك وبينَ الوالي، خُلُقًا، قد عَرَفناه في بعض الأعوان والأصحاب، في إدعاء الرجل، عندما يظهر من صاحبه، من حُسْنِ أثَرٍ، أو صواب رأي، أنه هو عَمِلَ في ذلك، أو أشارَ به، وإقراره بذلك إذا مدحه مادح، بل، وإن استطعت، أن يعرف صاحبك، أنك تنْحَلُهُ (تنسبه إليه) صوابَ رأيك، فضلًا عن أنك تدعي صوابه، وتُسْندُ ذلك إليه، وتزينه، فافعل، فإنَّ الذي أنت آخذ بذلك، أكثر مما أنت مُعطٍ، بأضعاف.
إذا سأل الوالي غيرك، فلا تكوننَّ أنت المجيبَ عنه، فإنَّ اسْتِلابَك الكلامَ، خفةٌ بكَ، واستخفافٌ منك بالمسئولِ والسَّائِلِ.
وما أنتَ قائلٌ، إذا قال لك السائل: ما إياك سألت؟ أو قال لك المسئول، عند المسألة، يعادُ له (صار إليه) بها، دونك فأجب؟
وإذا لم يَنْصُب (أسند) السائل، في المسألة لرجل واحدٍ، وعَمَّ بها جماعَةَ من عنده، فلا تبادرْ بالجواب، ولا تسابق الجلساء، ولا تواثب الكلام مواثبة، فإنَّ في ذلك، مع شَيْن التَّكلف والخفة، أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام، صارُوا لكلامِكَ خُصَماء، فيتعقبونه بالعيب والطعن، وإذا أنت لم تعجل بالجواب، وخليتَه للقومِ، اعترضت أقاويلُهم على عينك، ثم تدبَّرتَها، وفكرت فيما عندك، ثم هيأت من تفكيرك، ومحاسن ما سمعت، جوابًا رضيًّا، واستدبرت به أقاويلهم، حتى تُصيخُ (أَصاخ: استمع وأَنصت) إليك الأسماع، ويهدأ عنك الخصوم.
وإن لم يبلغك الكلامُ، حتى يُكتفى بغيرك، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك، ولا من الغَبَنِ في نفسك، فوت ما فاتك من الجواب، فإنَّ صيانَةَ (حفظ) القول، خيرٌ من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب، تصيب موضعها، خيرٌ من مائة كلمة أمثالها، في غير فُرَصِها ومواضعها، مع أن كلام العجلة والبِدارِ (بادر: أسرع، سبق)، مُوكل به، الزلل وسوء التقدير، وإن ظنَّ صاحبه، أن قد أتقن، وأحكم.
واعلم، أن هذه الأمور، لا تُنال، إلا برحب الذَّرْعِ (طاقة ووُسع)، عند ما قيلَ، وما لم يُقَلْ، وقِلةِ الإعظام، لِما ظهر من المروءة أو لم يظهر، وسخاوة (جود، كرم) النفس، عن كثير من الصواب، مخافة، الخِلافِ، والعجلة، والحسد، والمِرَاء (جِدَالَ، شكّ، ارتياب)ِ.
إذا كَلَّمَك الوالي، فأصغِ إلى كلامِهِ، ولا تشغل طَرْفَكَ عنه بنظر، ولا أطْرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفسك، واحذر هذا من نفسك، وتعهدْ ما فيه.
إرْفُقْ، بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه، واتخذهم إخوانًا، ولا تتخذهم أعداء، ولا تُنافسْهم في الكلمة يتقربون بها، والعمل يُؤمَرون به.
فإنما أنت في ذلك أحد رجلين، إِمَّا أن يكون عندك فضل، على ما عند غيرك، فسوف يبدو ذلك، ويحتاج إليه، ويلتمس منك، وأنت مُجْمِلٌ (معتدل)، وإمَّا أن لا يكون ذلك عندك.
فَما أنت مُصيبٌ من حاجتك عندهم، بمقاربتك وملاينتك، وما أنتَ واجدٌ في موافقتك إياهم، ولينك لهم، من موافقتهم إياك، ولينهم لك، أفضلُ مما أنت مُدركه، بالمنافسة، والمناظرة.
لا تَجْتَرِئَنَّ، على خلاف أصحابِكَ عند الوالي، ثِقَةً، باعترافهم لك، ومعرفتهم بفضل رأيك، فإنَّا قد رأينا، الناس يعرفون فضل الرَّجُل، وينقادون له، ويتعلمون منه، وهم أخْلِيَاءٌ (أحباء)، فإذا حضروا ذا السلطان، لم يرض أحدٌ منهم، أن يُقِرَّ له، ولا أن يكون له عليه في الرأي والعلم فضلٌ، فاجتَرَأوا عليه بالخلاف والنَّقض.
فإن ناقضهم، كان كأحدهم، وليس بواجدٍ في كل حين، سامعًا فهمًا، وقاضيًا عدلًا، وإن ترك مناقضتهم، صار مغلوبَ الرأي، مردود القول.
إذا أصبتَ عند الوالي، لُطف منزلة، لغَنَاء، يجده عندك، أو هوًى، يكون له فيك، فلا تطمحن كل الطماح، ولا تُزينن لك نفسك، المُزَايَلَة له عن أليفه، ومَوضِع ثقته، وسِرِّه قَبْلَكَ، بأنْ تقتلعه، وتدخل دونه.
فإن هذه خلةٌ من خلال السَّفه، قد يُبتلى بها الحُلماءُ عند الدنوِّ من ذي السلطان، حتى يُحدِّث الرجل منهم نفسه، أن يكون دون الأهل، والولد، لفضل يظنه في نفسه، أو نقص يظنه بغيره.
واعلم، أنه تكاد تكون لكل رجُلٍ، غالِبَةُ حديث، إمَّا عن بلد من البلدان، أو ضَرْب من ضروب العلم، أو صنف من صنوف الناس، أو وجه من وُجُوه الرأي، وعندما يغرم به الرجل من ذلك، يبدو منه السخف، ويُعرف منه الهوى، فاجتنبْ ذلك في كل موطن، ثم عند أولي الأمر خاصة.
لا تَشْكُوَنَّ، إلى وزراء السلطان ودُخلائه، ما اطَّلعت عليه من رأيٍ تكرهه له، فإنك لا تزيد، على أن تفطِّنَهم لميله، وتغريهم، بتزيين ذلك له، والميل عليك معه.
إعلمْ، أن الرجل ذا الجاه، عند الوالي والخاصة، لا محالة أنه يرى من الوالي، ما يُخالفه من الرأي، في الناس والأمور.
فإذا آثرَ أن يكره كل ما يُخالفُهُ، أو يمتعض من الجفوة يراها في المجلس، أو النَّبْوَة (جفوة) في الحاجة، أو الرد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوى إدناءه، والإقصاء لمن يَكْرَه إقصاءَه، فإذا وقعت في قلبه الكراهيةُ، تغير لذلك وجهُهُ، ورأيه وكلامُهُ، حتى يبدو ذلك للوالي وغيره، وكان ذلكَ لفساد منزلته سببًا.
فذلل نفسك، باحتمال ما خالفك من رأي الولاة، وقرِّرْها بأنهم إنما كانوا أولياءك، لتتبعهم في آرائهم وأهوائهم، ولا تكلفهم اتباعَك، وتغضب من خلافهم إياك.
إعَلم، أن الملوك يقبَلون من وزرَائهم التَّبخِيل (يُرغِب البخل)، ويَعُدُّونه منهم شفقة (خوفٌ من وقوع مكروه) ونظرًا، ويحمدونهم عليه، وإن كانوا أجوادًا.
فإن كنت مُبَخِّلًا، غششت صاحبك، بفساد مروءته، وإن كُنتَ مُسَخِّيًا، لم تأمن إضرار ذلك، بمنزلتك عنده.
فالرأيُ لك، تصحيح النصيحة على وجهها، والتماسُ المخرج، فيما تترك من تبخيل صاحبك، بأن لا يعرف منك، فيما تدعوه إليه، ميلًا إلى شيء من هواك، ولا طلبًا، لغيرِ مَا ترجُو أن يزينه، وينفعه.
لا تكونَنَّ، صُحْبَتُكَ للملوك، إلا بعد رياضة منك لنفسك، على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقديرِ الأُمور على ميلهم، دون ميلك، وعلى ألَّا تكتُمهم سِرَّك، ولا تستطلع ما كتموه، وتخفي ما أطلعوك عليه، من النَّاس كلهم، حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطُّف لحاجاتهم، والتثبيت لحُجَّتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا، إذا أساءوا، وترك الاستحسان لما فعلوا، إذا أحسنوا، وكثرة النَّشر لمحاسنهم، وحُسْن السَّتر لمساويهم، والمقاربة لمن قاربوا، وإن كان بعيدًا، والمباعدة لمن باعدوا، وإن كانوا أقرباء، والاهتمام بأمرهم، وإن لم يهتموا به، والحفظ له، وإنْ ضيعوه، والذكر له وإن نَسُوه، والتخفيف عنهم لمؤنتك، والاحتمال لهم كل مؤنة (شدّة وثقل)، والرضا عنهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك لهم بالمجهود.
فإن وجدتَ عنهم وعن صحبتهم غنًى، فأغنِ عن ذلك نفسك، واعتزلْه جهدك، فإنَّ من يأخُذُ عَمَلَهُم، يحول بينه وبين لذة الدنيا، وعمل الآخرة، ومن لا يأخذ بحَقِه، يحتمل الفضيحة في الدنيا، والوِزْرَ في الآخرة.
وإنك لا تأمن أنِفَهم (أنِفَ: عافَ، كره، امتنع) إن أعلمتهم، ولا عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم، ولا تأمن سَلْوَتَهُم (هجرْ، نسيان)، إن حدثتهم، وإن لزمتهم، لم تأمَن تبرُّمَهُم بك، وإن زَايَلْتَهُمْ (فارقتهم)، لم تأمن عقابهم.
وإنك إن تَسْتَأمِرْهُم (طلب أمرَه في شيءٍ)، حَمَلْتَ المَؤنَةَ عليهم، وإن قطعت الأمر دونهم، لم تأمن فيه مخالفتهم، وإنهم إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك، تكلفت من رضاهم ما لا تُطيق.
فإن كنت حافِظًا (حافَظ على الشَّيء: رعاه وصانه، حافظ على العهد: تمسَّك به) إن بَلوْكَ، جلدًا إن قربوك، أمينًا إن ائتمنوك، تُعَلِّمُهُم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتُؤدِّبُهم وكأنهم يؤدبونك، تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيرًا بأهوائهم، مؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إن ظلموك، راضيًا إن أسخطوك، وإلا، فالبعد منهم كل البعد، والحذر كل الحذر.
٣ - من تمام حُسْن الخلق والأدب
إبْذُلْ، لصديقِكَ دَمَكَ ومالك، ولمَعْرِفَتِكَ رَفْدَكَ (عطاءٌ ونصيبٌ وصلة) ومحْضَركَ (وجودٌ وحضور)، وللعَامَّةِ بِشْرَكَ وتَحَنُّنَكَ، ولعدوك عدلك، واضْنَنْ، بدينك وعرضك، عن كل أحد.
إنْ سَمِعْتَ من صاحبك، كلامًا أو رأيًا يعجبك، فلا تَنْتَحِلْهُ، تزينا به عند الناس، واكتفِ من التزيُّن، بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه.
واعلمْ، أن انْتِحَالك ذاكَ، مسَخْطة (ما يحمل على الكراهية والغضب) لصاحِبِك، وأن فيه مع ذلك عارًا، فإنْ بلغ ذلك بك، أن تُشير برأي الرجل، وتتكلم بكلامه، وهو يسمع، جمعْت مع الظُّلم، قلة الحياء، وهذا من سُوء الأدب الفاشي في الناس.
ومن تمام حُسْن الخلق والأدب، أن تسخو نفسك لأخيك، بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتُزيِّنَه مع ذلك ما استطعت.
لا يكوننَّ من خُلُقِكَ، أن تبتدئ حديثًا، ثم تقطعه، وتقول سوف، كأنك رَوَّأت (نظر فيه وتأمل ولم يتسرع) فيه بعد ابتدائه، وليكن ترويك فيه قبل التفوه، فإن احْتِجان (اقتطع) الحديث بعد افتتاحه، سخف.
إخْزُنْ (إحفظ) عقلَكَ وكلامَك، إلا عندَ إصابة الموضع، فإنَّه ليس في كل حين، يُحْسُنُ (يُعْلَمُ) كُلُّ الصواب، وإنما تمامُ إصابة الرأي والقول، بإصابَةِ الموضِع، فإن أخطَأكَ ذلك، أدْخَلْتَ المِحْنَةَ على عِلمِك، حتى تأتي به، إنْ أتيتَ به في غير موضعه، وهو لا بهاء، ولا طُلاوة (حُسْن، ورَوْنق) له.
لتَعْرِفِ العُلماء، حين تُجالِسُهُم، أنك على أن تَسْمَع، أحرصُ منك، على أن تقول.
إن آثَرتَ أن تُفاخر أحدًا، ممن تَسْتَأنِس إليه، في لهْوِ الحديثِ، فاجعل غاية ذلك الجِدَّ (الرَّصَانَةٌ، الرَّزَانَةٌ)، ولا تتجاوز، أن تتكلم فيه بما كان هزلًا، فإذا بلغ الجد، أو قاربه، فدعه.
ولا تخْلِطَنَّ بالجِدّ هَزْلًا، ولا بالهَزْلِ جِدًّا، فإنك إن خلطت بالجد هزلًا، هَجّنْتَهُ (هجُن الكلامُ وغيرُه: كان معيبًا مرذولاً)، وإن خلطت بالهزل جدًّا، كَدَّرْتَه (عُكِّر صفوُه).
غير أني قد عَلِمْتُ مَوْطنًا واحدًا، إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل، أصبت الرأي، وظَهَرْت على الأقران، وذلك أن يتَوَرَّدَك (يخضر) مُتَوَرِّدُ (متعطش)، بالسفه والغضب، فتجيبه إجابة الهازل المداعب، برُحب من الذَّرْعِ (طاقة ووُسع)، وطلاقة من الوجه، وثبات من المنطق.
إن رأيت صَاحبَكَ مع عدوِّكَ، فلا يُغْضِبَنَّكَ ذلك، فإنما هو أحد رجلين.
إن كان رجلًا من إخوان الثقة، فأنفع مواطنه لك، أقربها من عدوك، لشر يكفه عنك، وعورة يسترها منك، وغائبة يطلع عليها لك، فأمَّا صَديقُكَ، فما أغْناكَ (زيادة الشَّيء غِنًى) أن يحضَرَهُ ذو ثِقَتِكَ.
وإن كان رجُلًا من غير خاصَّةِ إخوانك، فبأي حق تقْطَعُهُ عن الناس، وتُكَلِّفُهُ ألَّا يُصاحب، ولا يجالس، إلّا من تهوى؟!
تحفَّظْ في مجْلِسِكَ وكلامِكَ، من التَّطاوُل على الأصحاب، وطِبْ نفسًا، عن كثيرٍ مما يَعْرِضُ لك فيه صوابُ القول والرأي، مُدارةً، لئلا يظن أصحابُك، أن ما بك، التطاول عليهم.
إذا أقبل إليك مُقبلٌ بوٌدِّهِ، فسَرَّك ألا يُدْبِرَ عنك، فلا تُنْعِمِ (تتوسع) الإقبالَ عَلَيْهِ، والتّفَتُّح لَهُ، فإن الإنسان طُبِعَ على ضَرَائِبَ (طبيعة، سجية) لؤم، فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه.
لا تُكثِرنَّ ادعاءَ العلم في كل ما يَعْرِضُ، فإنك من ذلك بين فضيحتين.
إمّا أن يُنازعوكَ فيما ادّعَيْتَ، فيُهْجَمَ مِنْكَ على الجَهالَةِ والصَّلَفِ (التَّكَبُّرُ وَالْعَجْرَفَةُ).
وإمَّا ألا يُنازعوكَ، ويُخَلُّوا الأمور في يديك، فينكشف منك التصنُّع، والمَعْجَزَة (العَجْزُ).
اسْتَحْيِ الحياءَ كلَّهُ، من أن تخبر صاحبَك أنك عالم، وأنه جاهل، مُصَرِّحًا أو مُعَرِّضًا، وإن استَطَلْت على الأكفاء، فلا تثِقنَّ منهم، بالصفاء.
إن آنست من نفسك فضلًا، فتَحَرَّجْ (تجنب الحرج، أي الإثم والخطيئة) أن تَذْكُرَهُ، أو تُبْدِيَه.
واعلم، أن ظُهُوره منك بذلك الوجه، يُقرر لك في قلوب الناس من العيب، أكثر مما يقرر لك من الفضل، واعلم، أنك إن صبرت ولم تعجل، ظهر ذلك منك، بالوجهِ الجميل المعروف.
ولا يخفين عليك، أن حرص الرَّجل على إظهار ما عنده، وقلة وقاره، في ذلك بابٌ من البخل واللؤم، وأن من خير الأعوان على ذلك السخاء والتكرُّمَ.
إنْ أحببت أن تَلْبَس ثَوْبَ الوَقارِ والجمال، وتَتَحَلَّى بحلية المودَّة عند العامَّة، وتسلُك الجَدَدَ (لأَرض المستوية)، الذي لا خَبَارَ (من الأرض مَا لَان واسترخى وَسَاخَتْ فِيهِ قَوَائِم الدَّوَابّ وَيُقَال فِي الْمثل من تجنب الخبار أَمن العثار) فيه، ولا عَثَار (زلّ، تعرقل في شيء)، فكن عالمًا كجاهل، وناطِقًا كَعَيِيّ، فأمَّا العلم، فيُرْشِدُكَ، وأمَّا قِلةُ إدّعائِهِ، فينفي عنك الحسد، وأمَّا المنطق، إذا احتجت إليه، فيبلغك حاجَتَكَ، وأمَّا الصّمتُ، فيكسبك المحبة والوقار.
وإذا رأيتَ رَجُلًا، يُحَدِّثُ حديثًا قد علمته، أو يخبر خبرًا قد سمعته، فلا تُشاركْه فيه، ولا تَتَعَقَبْهُ (شَكَّ فِيهِ) عليه، حرصًا على أن يعلَمَ النَّاسُ أنك قد عَلِمْتَهُ، فإنَّ في ذلك خِفَةً وشحًّا (شحا فِي الْفِتْنَة أمعن فِيهَا وَتوسع)، وسوء أدب، وسخفًا.
ليعرف إخوانُك والعامَّةُ، أنكَ إن استطعت أن تكُونَ، إلى أن تفعل ما لا تقول، أقربَ منك، إلى أن تقول ما لا تفعل، فعلت، فإنَّ فضل القول على الفعل، عار وهجنة، وفضل الفعل على القول، زينة، وأنت حقيقٌ فيما وعدت من نفسك، أو أخبرت صاحبك عنه، أن تحتجن (تُمسِك) بعض ما في نفسك، إعدادًا لفضل الفعل على القول، وتحرُّزًا بذلك، عن تقصير فعل إن قصَّرَ، وقلَّما يكون، إلا مقصرًا.
احفظ قول الحكيم الذي قال، لتكُن غايَتُك، فيما بينك وبين عدوك، العدل، وفيما بينك وبين صديقك، الرضا، وذلك أن العَدو خصمٌ تَضْرِبُه بالحُجّةِ، وتغلبه بالحُكّامِ، وأن الصديق ليس بينك وبينه قاضٍ، فإنما حَكَمُهُ رضاه.
إجعل عامَّة تشبُّثك (التَّعَلُّقُ، التَّمَسُّكُ)، في، مؤاخاة مَن تُؤاخي، ومُواصَلَة من تُواصِل، ووَطِّنْ (حَمِّلهَا عَلَى، هَيِّئهَا) نَفْسَك، على أنه لا سبيل لك، إلى قطيعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك، ومروءتك.
فإنما مروءة الرجل، إخوانُهُ وأخْدانُهُ (أصحابه)، فإن عَثَرَ الناس على أنك قطعت رجلًا من إخوانك، وإن كُنتَ مُعْذِرًا، نزل ذلك عند أكثرهم، بمنزلة الخيانة للإخاء والمَلالِ (فتور يعرض للْإنْسَان، من كَثْرَة مزاولة شَيْء، فَيُوجب التعب، والإعراض عَنهُ)، وإن أنتَ صَبَرْت مع ذلك، على مُقَارَّتِهِ (قر في المكان: ثبت وأقام) على غير الرضا، عاد ذَلكَ إلى العَيْبِ والنَّقيصَةِ، فالاتّئادَ الاتئادَ (اِتِّئادُ خَطَواتِهِ: سَيرهُ فِي تَأَنٍّ وَتَمَهُّلٍ)، والتثبُّتَ التثبُّت.
إذا نظرت في حال من ترتئيه لإخائِك، فإن كان من إخوان الدِّين، فليكنْ فقيهًا، ليس بمُرَاءٍ ولا حَرِيصٍ (بخيل)، وإن كان من إخوان الدُّنيا، فليكن حُرًّا، ليس بجاهل، ولا كذاب، ولا شريرٍ، ولا مَشْنُوعٍ (من شَنَعَ، شَنَعَ جَارَهُ: شَتَمَهُ، سَبَّهُ، اِسْتَقْبَحَهُ، عابَهُ، فَضَحَهُ).
فإن الجاهل، أهلٌ لأن يهرب منه أبواه، وإن الكذاب، لا يكون أخًا صادقًا، لأن الكذب الذي يجري على لسانه، إنما هو من فُضُولِ (أثار) كذب قلبه، وإنما سُمي الصديق من الصّدق، وقد يُتهم صِدقُ القَلبِ، وإن صَدَق اللسان، فكيف إذا ظهر الكذب على اللسان؟
وإن الشرير يكسبك العدو، ولا حاجة لك في صداقة تجلب العداوة، وإن المشنوع، شانع صاحبه.
تحرَّزْ، (انتبه، توقّى) من سُكْرِ السلطة، وسكر العلم، وسكر المنزلة، وسكر الشباب، فإنه ليس من هذا شيء، إلا وهو ريح جِنَّة (جنون)، تسلبُ العقل، وتُذهب الوقار، وتصرف القلب والسمع، والبصر واللسان، عن المنافع.
إعلم، أن انقِبَاضَك (إمْسَاكٍ) عَنِ النَّاس، يُكسبك العَدَاوة، وأن تَفَرُّشك (تشعّب، انبسط، وامتد) لهم، يُكْسبك صديق السوء، وفسولة (قلَّة الْمُرُوءَة وَضعف الرَّأْي) الأصدقاء، أضرُّ من بغض الأعداء، فإنك إن واصلت صديقَ السوء، أعْيَتْكَ جرَائرُهُ (جَريرة: جِناية وذنب)، وإن قَطَعْتَهُ، شانَكَ اسْمُ القَطِيعَةِ، وألزمك ذلك من يَرْفَعْ عيبَكَ، ولا ينشُرُ عُذْرَك، فإنَّ المَعايِبَ تَنْمي، والمَعَاذيرَ لا تنْمي.
إلْبَسْ للناس لباسين، ليس للعاقل بُدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءة إلا بهما، لباسَ انْقباضٍ واحتجاز، تَلبَسُهُ للعامَّة، فلا تُلْفَيَنَّ (آلَفَ: آنَسَ، عَاشَرَ) إلا مُتحفظًا، متشددًا، مُتحرزًا مستعدًّا، ولباس انبساط واستئناس، تلبسه للخاصة من الثقات، فتتلقاهم ببنات صدرك، وتُفضي إليهم بموضوع حديثك، وتضع عنك مؤنة الحذر، والتحفظ فيما بينك وبينهم، وأهل هذه الطبقة، الذين هم أهلُها، قليلٌ، لأن ذا الرَّأي، لا يدخل أحدًا من نفسه، هذا المدخل، إلا بعد الاختبار، والسَّبْر، والثِّقة، بصِدْقِ النصيحة، ووفاء العقل.
إعلم، أن لسانك أداة مُغَلَّبة (غلب: إنتصر)، يتغالب عليه، عقلك، وغضبك، وهواك، وجهلك، فكلٌّ، غالب عليه، مُستمتعٌ به، وصارفه في محبته.
فإذا غلب عليه عقلك، فهو لك، وإذا غلب عليه شيءٌ من أشباه ما سميت لك، فهو لعدوك.
فإن استطعت أن تحتفظ به، فلا يكون إلا لك، ولا يستولي عليه، أو يُشاركك عدوك فيه، فافعل.
إذا نابت (أَصَابَت) أَخَاكَ، إحْدَى النَّوائب، من زوال نعمة، أو نُزُول بَلِيَّة، فاعلَم، أنك قد ابتليت معه، إمَّا بالمؤاساة، فتشاركه في البلية، وإما بالخِذْلان، فتحتمل العار.
فالتمس المخرج، عند اشتباه ذلك، وآثِرْ مُرُوءَتك على ما سواها، فإنْ نزلت الجائحة التي تأبى نفسك، مشاركة أخيك فيها، فأجْمِل (جمل الشيء: حسنه، زينه)، فلَعَلَّ الإجمال، يَسَعُكَ (وسَعَ اللهُ عليه رِزقَه: بَسَطه وكثّره وأغناه) لقلته في الناس.
إذا أصاب أخاك فضلٌ، فإنَّه ليس في دُنُوِّك منه، وابتغائِك مودَّتَه، وتواضُعِكَ له مذلةٌ، فاغتنمْ ذلك، واعمل فيه.
إذا كانت لك عند أحد صنيعةٌ، أو كان لك عليه طولٌ، فالْتَمِسْ إحياءَ ذلك، بإماتَتِهِ، وتعْظِيمَهُ، بالتَّصْغِيرِ له، ولا تقتصرن في قلة المَن، على أنْ تقول لا أذكرُهُ، ولا أصغي بسمعي إلى مَن يذكره، فإن هذا قد يَسْتَحيْي (يستبقي للخدمة) منه، بعضُ من لا يوصَفُ بِعَقْلً ولا كَرَمٍ، ولكن، احذر أن يكون في مجالستك إياه، وما تُكلمه به، أو تستعينه عليه، أو تجاريه فيه، شيءٌ من الاسْتِطَالَة (تطاول، مَسّ)، فإن الاسْتِطَالَة تهدم الصّنِيعَةَ، وتُكدِّرُ (تعكّر) المعروف.
إحتَرسْ من سَوْرَةِ (شِدّة، حِدّة، هياج) الغضب، وسَوْرة الحَمِيّةِ، وسَوْرة الحقد، وسَوْرة الجهل، وأعدد لكل شيء من ذلك، عُدَّةً، تُجاهِدُهُ بها، من الحِلمِ، والتّفَكُّرِ والرّوِيَّةِ، وذِكر العاقِبَة، وطَلَبِ الفَضِيلة.
واعلم، أنك لا تُصيبُ الغَلَبَةَ، إلا بالجِهادِ، وأن قلة الإعداد، لموافقة (الْمُصَادَقَةُ، قَبُولِ) الطبائِعِ المُتطَلَعَةِ (مُتَرَقَّبٌ إِلَى طَلْعَتِهَا)، هو الاستسلام، وأنه ليس أحدٌ، إلَّا فيه من كل طبيعةٍ، سوءُ غَريزَةٍ، وإنما التفاضُلُ بين الناس، في مغالَبَةِ طبائعِ السوء.
فأمَّا، أن يَسْلَمَ أحدٌ، من أنْ تكونَ فيه تلك الغرائزُ، فليس في ذلك مطمعٌ، إلا أن الرَّجل القوي، إذا كابَرَها بالقمع لها كلها، كلما تَطَلَّعَتْ، لم يَلْبَثْ أن يُميتَها، حتى كأنها ليستْ فيه، وهي في ذلك كامِنَةٌ، كُمونَ النارِ في العودِ (غُصن مقطوع)، فإذا وَجَدت قادِحًا، من عِلّةٍ، أو غفلة، اسْتَوْرَتْ (أَخرجت نارَها)، كما تُسْتَوْرَي العودِ عند القَدْحِ، ثم لا يبدأ ضَرُّها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النار، إلا بعودِها، التي كانت فيه.
ذَلِّلْ نفسك، بالصَّبرِ على جارِ السُّوء، وعَشِيرِ السُّوء، وجليسِ السوء، فإنَّ ذلك، ما لا يكادُ يُخْطِئُك.
واعْلَمْ، أن الصبرَ صبران، صبرُ الرجل على ما يكره، وصبرُه عمّا يُحب، فالصبرُ على المكروه، أكثرهما، وأشْبَهُهُما، أن يكون صاحِبُهُ مُضْطَرًّا.
واعلَمْ، أن اللِئّامَ، أصْبَرُ أجسادًا، والكِرَام، أصبرُ نفُوسًا.
وليس الصبرُ الممدوح، بأن يكُون جِلْدُ الرَّجُل، وَقَاحًا (صلب)، أو رِجْلُهُ قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإنما هذا من صفات الحمير.
ولكن، أن يكُون للنَّفْسِ غَلُوبًا، وللأمور محتملًا، وفي الضُّرِ مُتَجَمّلًا (صبَر ولم يظهر على نفسه الأسى)، ولِنَفْسِهِ، عِنْدَ الرّأيِ، والحِفَاظ (الذب، صِيَانَة، بَقَاء)، مُرْتَبِطًا (مُتَعَلِّق)، وللحَزمِ مُؤْثِرًا، وللهَوَى تارِكًا، وللمَشقَةِ التي يرْجو عاقِبَتِها، مُسْتَخِفًّا، وعلى مُجاهَدَةِ الأهْوَاء والشَّهَوَاتِ، مُوَاظِبًا، ولِبصرِه بِعَزْمِهِ مُنَفَّذاً (مَقْضِيًا).
حَبِّبْ إلى نفسك العلم، حتى تألَفَه، وتلزَمَه، ويكُونَ، هو لهوَكَ، ولذَّتَك، وسَلْوتَكَ، وبُلغَتَكَ، واعلم، أن العلم علمان، علم للمنافع، وعلم لتزكية (تطهير، نماء) العقل، وأفشى (فشا: ذاع، شاع وكثُر) العلمين، وأجداهما أن ينشط له صاحبه، من غير أن يُحَضَّ عليه، علم المنافع، وللعلم الذي هو ذكاء العُقُول، وصِقالُها، وجلاؤها، فضيلة منزلةٍ، عند أهل الفضل، في الألباب (العقل).
عَوِّدْ نفسَكَ السَّخاء، واعلم أنهما سَخَاءان، سَخاوَةُ نَفْسِ الرجل بما في يديه، وسَخَاوَتُهُ، عمَّا في أيدي الناس.
وسخاوة نفس الرجل بما في يديه، أكْثَرُهُما، وأقربَهُمُا، من أن تدخل فيه المُفاخَرَة، وتركه ما في أيدي الناس، أمْحَضُ (أَخْلَصَ) في التكرُّم، وأنَزَهُ من الدَّنَسِ، فإن هو جَمَعَهُما، فَبَذَلَ وعَفَّ، فقد استكمل الجودَ والكرمَ.
لِيَكُنْ، مما تَصْرِفُ به الأذى، والعذابَ عن نفْسِكَ، ألا تكونَ حسودًا، فإنَّ الحَسَدَ، خُلُقٌ لئيم، ومن لُؤمِه، أنه يُوَكَّلُ بالأدنى، فالأدنى من الأقارِبِ والأكْفاء والخُلطاء.
فليَكُنْ، ما تقابلُ به الحسد، أن تعلم، أن خير ما تكون، حين تكون مع من هو خير منك، وأنه غُنْمًا لك، أن يكون عَشيرُكَ وخليطك، أفضل منك في العلم، فتَقْتَبِسَ من علمه، وأفضل منك في القوة، فيَدْفَعَ عنك بقوته، وأفضل منك في المال، فتُفِيدَ من مالِه، وأفضل منك في الجاه، فتصيب حاجتَكَ بجَاهِهِ، وأفضل منك في الدِّينِ، فتَزْدَادَ صلاحًا بصلاحه.
لِيَكُنْ، مما تنظر فيه، من أمر عدُوِّكَ وحاسدك، أن تَعْلَمَ، أنه لا يَنفَعُكَ أن تُخبر عَدُوَّك، أنك له عدو، فتُنْذِرَهُ نَفْسَكَ، وتُؤذِنَهُ بِحرْبِكَ، قَبْلَ الإعْدَادِ والفُرْصَةِ، فتَحْمِلَهُ على التّسَلُّحِ لك، وتُوقِدَ نارَهُ عليك.
واعْلَمْ، أن أعظم خَطَرك، أن تُري عَدُوَّك، أنك لا تتخذه عدوًّا، فإنَّ ذلك غِرَّةٌ له، وسبيلٌ لك، إلى القدرة عليه، فإنْ أنت قدَرْتَ، فاستطعت اغتفارًا لعداوته، عنْ أن تكافِئَ بها، فهُنالك استكملتَ عظيمَ الخَطَرِ، وإن كنت مكافئًا بالعداوة والضرر، فإياك أنْ تكافئ عداوة السر، بعداوة العلانية، وعداوة الخاصَّة، بعداوة العامة، فإن ذلك هو الظلمُ والعارُ.
واعْلَمْ، مع ذَلك، أنه ليس كلُّ العَدَاوةِ والضَّرَرِ، يُكافَأُ بمثله، كالخيانة، لا تكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة، ومن الحيلة في أمرك مع عدوك، أن تصادق أصدقاءه، وتؤاخِيَ إخْوَانَه، فتدخل بينه وبينهم، في سبيل الشقاق والتجافي، فإنه ليس رجُلٌ غير ذو طَرْقٍ (ضعف العقل)، يمتنع من مُؤَاخَاتِكَ، إذَا التَمَسْتَ ذلك منه، وإن كان إخوان عدوك، ذوي طرق، فلا عدو لك.
لا تدع، مَعَ السُّكوت عن شتم عدوك، إحصاء معايبه، ومثالبه (عُيُوب)، واتباع عوراته، حتى لا يشذ عنك من ذلك صغيرٌ ولا كبيرٌ، من غير أن تُشِيعَ (أشاع الخبرَ: نشرَه وأذاعه، أعلنه وأفشاه) عليه، فيتقيك به، ويستعِدَّ له، أو تذكره في غير موضعه، فتكون كمستعرض الهواء، بِنَبْلِهِ (سِهام، نبَل الهدفَ: رماه بالسِّهام)، قبل إمكان الرمي.
لا تتخذ اللعنَ والشتم على عدوك سلاحًا، فإنه لا يجرحُ في نفس، ولا في مال، ولا دين، ولا منزلة.
إن أردتَ أن تَكُون داهِيًا، فلا تُحِبَّنَّ أن تُسَمَّى داهيًا، فإنه من عرف بالدهاء، خَاتَلَ (خادع) علانية، وحذره الناس، حتى يمتنع منه الضعيف، وإنَّ من إرْبِ (الدهاء والفطنة) الأريبِ، دفن إربه ما استطاع، حتى يُعرف بالمسامحة في الخليقة، والاستقامة في الطريقة، ومن إرْبِهِ، ألا يُؤارِبَ (غالبه فِي الدهاء وَنَحْوه) العاقلَ المُسْتقيمَ الطريقَةَ، الذي يطلع على غامض إربه، فيَمْقُته عليه.
إن أردت السلامة، فأشْعِرْ قلبك الهيبة للأمور، من غير أن تَظْهَرَ منك الهيبة، فيفطن الناس لهِيبَتِك، ويُجَرِّئُهُم عليك، ويدعو ذلك إليك منهم، كُلَّما تَهَاب.
فَاشْعَبْ (أشعب الشَّيءَ: أصلحه ولأم صَدْعَه) لمداراة ذلك، من كتمان المهابة، وإظهار الجراءة والتهاوُن، طائفة من رأيك.
وإن ابتليت بمجازاة عدُوٍّ محالف (ما لزم شيئا فلم يفارقه)، فالزم هذه الطريقة، التي وصفتُ لك، من استشعار الهيبة، وإظهار الجراءة والتهاون، وعليك بالحذر في أمرك، والجراءة في قلبك، حتى تملأ قلبك جراءة، ويَسْتَفْرِغَ (إستفرغ مجهوده في كذا: بذله كله فيه) عَمَلُكَ الحِذْرَ.
إنَّ من عدُوك، من تعمل في هلاكه، ومنهم، من تعمل في البُعد عنه، فاعرفهم على منازلهم.
ومن أقوى القُوَّة لك على عدوك، وأعز أنصارك في الغَلَبَة، أن تُحصي على نفسك العيوب والعورات، كُلَّما أحصيتها على عدوك، وتنظُر عند كل عيب تراه، أو تسمعه لأحدٍ من الناس، هل قارفت مثله، أو ما شاكله؟
فإنْ كُنت قارفت منه شيئًا، فأحصه فيما تُحصي على نفسك، حتى إذا أحصيت ذلك كله، فكابر عدوك، بإصلاح عيوبك، وتحصين عوراتك، وإحراز (حفظ) مَقَاتِلِك.
وخُذْ نفسك بذلك، مُمْسيًا مُصبحًا، فإذا آنست منها دفعًا لذلك، أو تهاونًا به، فاعْدُدْ نَفْسَك، عاجزًا، ضائعًا، جانيًا معورًا (معور من الأشياء: ما لا حافظ له) لعدوك، ممكنًا له من رميك.
وإن حصَلَ من عيوبك، بعضُ، ما لا تقدر على إصلاحه، من أمر قد مضى، يعيبك عند الناس، ولا تراه أنت عيبًا، فاحفظ ذلك، وما عسى أن يقُول فيه قائل، من حسبك، أو مثالب آبائك، أو عيب إخوانك، ثم اجعل ذلك كله نصب عينيك.
واعلم، أن عدوك مريدك بذلك، فلا تغفل عن التهيؤ له، والإعداد لقُوَّتك وحجتك، وحيلتك فيه سرًّا وعلانية.
فأما الباطل، فلا تروعن به قلبك، ولا تستعدن له، ولا تشتغلن به، فإنَّه لا يهُولُكَ ما لم يقع، وإذا وقع، اضمحل.
إعلم، أنه قلَّما بُدِهَ (بده بأمر: بدأه به) أحد بشيء، يَعْرفُه من نفسه، وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس، فيعيره به مُعيرٌ عند السلطان أو غيره، إلا كاد يشهد به عليه وجهه، وعيناه ولسانه، للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتوره، عند تلك البداهة، فاحذر هذه، وتصنع لها، وخد أهبتك، لِبَغتَاتِها.
إعلم، أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأضرها بالعقل، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغَرَام بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن، أنه لا ينفك يأجِمُ (مَلَّ) ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النِّساء أشباهٌ، وما يُرَى في العيون، والقلُوب، من فضل مجهولاتهن على معروفاتهن، باطل وخُدْعَةٌ، بل كثير مما يَرْغَبُ عنه الرَّاغِبُ مما عنده، أفضلُ مما تتوق إليه نفسُهُ، وإنما المترغبُ عما في رحله منهن، إلى ما في رحال الناس، كالمترغب عن طعام بيته، إلى ما في بُيُوت الناس، بل النساء بالنساء، أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة، أشدُّ تفاضلًا وتفاوتًا، مما في رحالهم من النساء.
ومن العجب، أن الرجل الذي لا بأس في لبه، يرى المرأة من بعيد، متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه، الحسن والجمال، حتى تعلق بها نفسه، من غير رؤية، ولا خبر مخبر، ثم لعله يَهْجُمُ منها، على أقبح القبح، وأَدَمِّ الدمامة، فلا يعظه ذلك عن أمثالها، ولا يزال مشغوفًا بما لم يَذُق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظنَّ أن لها شأنًا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشَّقَاءُ.
ومن لم يَحْمِ نفسه، ويظْلِفْها (ظَلَّفَهُ عَنِ السُّوءِ: أَبْعَدَهُ)، ويَجِلَّهَا (عظَّم، ضد حَقَّرَ)، عن الطَّعام والشراب والنساء في، بعض ساعات شهوته وقدرته، كان أيسَرَ ما يصيبه من وبال أمره، انقطاعُ تلك اللذات عنه، بخمود نار شهوته، وضعف عوامل جسده.
وقلَّ من تجدُ، إلا مخادعًا لنفسه، في أمر جسده، عند الطعام والشراب، والحِمْيَة والدواء، وفي أمر مروءته، عند الأهواء والشهوات، وفي أمر دينه، عند الريبة والشبهة والطمع.
إن استطعت أن تُنْزِل نفسك، دون غايتك، في كل مَجلس، ومقَامٍ ومَقالٍ، ورأي وفعل، فافعل، فإن رفع الناس إياك، فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك، وتقريبَهم إياك، في المجلس الذي تباعدت عنه، وتعظيمهم من أمرك، ما لم تُعَظِّم، وتزيينَهُمْ من كلامك ورأيك، ما لم تُزَيِّنْ، هو الجمال.
لا يُعجبنك العالم، ما لم يكُن عالمًا، بمواضِعِ مَا يَعْلَمُ.
إن غُلِبْتَ على الكلام وقتًا، فلا تُغلَبَنَّ على السكوت، فإنَّه لعله يكون المِرَاء (جدال ونزاع، مخاصمة في الحق بعد ظهوره)، واعرفْهُ، ولا يمنعنك حذر المراء، من حُسْن المناظرة والمجادلة، واعلم، أن المُمارِيَ، هو الذي لا يحب أن يَتَعَلم، ولا يُتَعَلم منه.
إعلم، أن فضل الفعل، على القول، زينةٌ، وفضل القول على الفعل، هُجْنَةٌ.
إذا تراكمت الأعمال عليك، فلا تلتمس الرَّوْحَ (استراحة، راحة)، في مدافعتها، بالرَّوْغانِ (أنْ يَذْهَبَ هَكَذَا وَهَكَذَا) منها، فإنه لا راحة لك، إلا في إصْدَارِها (إِنْجازِها)، وإنَّ الصبر عليها، هو يُخففها، وإنَّ الضجر منها، هو يُرَاكِمُها عليك.
فتَعَهَّدْ من ذلك في نفسك، خَصْلَةً، قد رأيتها تعتري بعض أصحاب الأعمال، أن الرَّجُل يكون في أمرٍ من أمره، فيرد عليه شغل آخر، ويأتيه شاغلٌ من النَّاس، بِكِرْهِ تأخيرِه، فيُكَدّرُ ذلكَ بِنَفْسِهِ تَكْدِيرًا، يفسد ما كان فيه، وما ورد عليه، حتى لا يحكم واحدًا منهما، فإن وَرَدَ عليك مثلُ ذلك، فليكن معك رأيك، الذي تختار به الأمور، ثم اختر أَوْلَى الأمرين بشغلك، فاشتغل به حتى تفرغ منه، ولا يعظمن عليك فَوْتُ ما فَاتَ، وتأخير ما تأخر، إذا أعملت الرأي مُعْمَلَهُ، وجعلت شُغْلَكَ في حَقِه.
إجعل، لنَفْسِك في كلِّ شيء، غايةً، ترجو القُوَّة، والتمام عليها، واعلم، أنك إن جاوزت الغاية في العبادة، صرت إلى التقصير، وإن جاوزتها في حَمل العلم، صرت من الجهال، وإن جاوزتها في تكلُّف رضا الناس، والخِفَّةِ (الطيش، زوال التعقل) معهم في حاجاتهم، كنت المُصْنِع المحشودَ (يجتمع عليه ليخدم).
إعلم، أن بعض العَطِيّةِ، لؤم، وبعض البَيانِ، عِيٌّ، وبعض العلم جهل، فإنِ استطعت ألَّا يكون عطاؤك خَوَرًا (تَلاَشٍ، ضعف، انكسار)، ولا بَيَانُك هذرًا، ولا علمك جهلًا، فافعل.
إعلم، أنه ستمر عَليْكَ، أحاديثُ تعجِبُك، إما مليحة، وإما رائعةٌ، فإذا أعجبتك، كنت خليقًا بأن تحفظها، فإنَّ الحِفْظَ، مُوَكَّلٌ بما راع (راعه الأمر: أعجبه)، وسَتَحْرِصُ على أن تَعْجَبَ منها الأقوام.
فإنَّ الحِرْصَ على ذلك، التّعَجّب (عجب الشَّيْء فلَانا: استهواه واستماله) من شأن الناس، وليس كلُّ معجب لك، معجبًا لغيرك.
وإذا نَشَرْت ذلك مرة أو مرتين، فلم تره وقع من السامعين، موقعه منك، فازدجر عن العَوْد، فإنَّ العَجَبَ من غير عجيب، سخف شديدٌ، وقد رأينا من الناس، من يَعْلَقُ الشيء، ولا يقلع عن الحديث به، ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود، ثم يعود.
إياك والأخبار الرَّائِعَةَ (البارزة)، وتحفَّظْ منها، فإنَّ الإنسانَ من شأنه الحرصُ على الأخبار، لا سيما ما راعَ (نما وزاد) منها، فأكثرُ الناس من يُحَدِّثُ بما سمع، ولا يبالي ممن سمع، وذلك مفسدةٌ للصدق، ومَزْرَاةٌ (مُخجِل، مُؤسِف) بالرَّأي، فإن استطعت ألا تخبر بشيء، إلا وأنتَ به مُصَدّقٌ، وألا يكون تصديقك إلا ببرهان، فافعلْ.
ولا تَقُلْ كما يقول السفهاء، أُخْبِرُ بما سمعت، فإن الكذب، أكثر ما أنت سامع، وإن السفهاء، أكثر مَن هو قائلٌ، وإنك إنْ صِرْتَ للأحاديث واعيًا، وحامِلًا، كان ما تَعي، وتحِمل عن العامة، أكثر مما يَخْتَرِعُ المُخترِعُ، بأضْعافٍ.
انظر مَنْ صَاحبْتَ من النَّاس، من ذي فضل عليك بسُلطان ومنزلة، ومن دون ذلك من الخلصاء، والأكفاء والإخوان، فوَطِّنْ نفسك في صُحبته، على أن تقبل منه العفو، وتسخو نفسُك عما اعْتاص (اشتد وخفي وصعب)، مما قِبَلَهُ، غير معاتب، ولا مستبطئ، ولا مستزيد، فإن المعاتبة مقطعةٌ للود، وإن الاستزادة من الجشع، وإن الرضا بالعفو، والمسامحة في الخلق، مُقَرِّبٌ لكَ كلَّ ما تتُوق إليه نفْسُك، مع بقاء العِرْضِ، والمودة، والمروءة.
إعلم، أنك ستُبْتَلى من أقوام، بسفه، وأن سفه السفيه، سيَطْلِعُ لك منه، فإن عارضته، أو كافأته، بالسفه، فكأنك قد رضيت ما أتى به، فاجتنبْ أن تحتذي مثاله، فإن كان ذلك عندك مذمومًا، فحقق ذمَّك إياه، بترك معارضته، فأمَّا أن تذمه وتمتثله، فليس ذلك لك.
لا تُصَاحبَنَّ أحدًا، وإن استأنست به، أخا قرابةٍ، أو أخا مودةٍ، ولا والدًا، ولا ولدًا، إلا بِمُرُوءة، فإنَّ كثيرًا من أهل المروءة، قد يحملهم الاستِرْسَال، أو التبذُّل (تَدَنَّى في سلوكه وخُلُقه)، على أن يصحبوا كثيرًا من الخلصاء، بالإدْلالِ (على غرَّة) والتهاوُن، ومن فَقَدَ من صاحبه، صُحبَةَ المروءَة، ووقارها، أحدث له في قلبه، رِقّةَ شَأنٍ، وخِفَةُ مَنْزِلة.
لا تلتمسْ غلبة صاحبك، والظَّفَرَ عليه، بكُلِّ كلمة ورأي، ولا تجترئن على تقريعه، وتبكيته بظفرك إذا استبان، وحجتك إذا وضحت، فإنَّ أقوامًا يحملهم حب الغلبة، وسَفَه الرَّأي في ذلك، على أن يتعقبوا الكلمة بعد ما تُنْسَى، فيلتمسوا فيها الحجة، ثم يستطيلوا بها على الأصحاب، وذلك ضعفٌ في العقل، ولؤمٌ في الأخلاق.
لا يعجبنك، إكرامُ من يكرمك، لمنزلة أو سُلطان، فإنَّ السُّلطة، أوشك أمور الدنيا زوالًا، ولا يعجبنك إكرامهم إياك للنسب، فإن الأنساب، أقل مناقب الخير، غناء عن أهلها، في الدِّين والدنيا، ولكن، إذا أُكرمت على دين أو مروءة، فذلك فليعجبك، فإنَّ المروءة لا تزايلك في الدنيا، والدِّين، لا يزايلك في الآخرة.
إعلم، أن الجبن مَقْتلَةٌ، وأن الحِرْصَ، مَحْرَمَةٌ، فانظر فيما رأيت، أو سمعت، أمَنْ قُتل في القتال مُقبِلًا أكثر، أم من قُتل مُدبِرًا؟ وانظر، أَمَنْ يطلب إليك بالإجْمَالِ (الاحسان) والتكرُّم، أحقُّ، أن تسخو إليك نفسك بِطَلِبَتِهِ، أمْ مَنْ يَطْلُبُ إليك بالشَّرَه؟
إعلم، أنه ليس كلُّ من كان لك فيه هوًى، فذَكَرَهُ ذَاكِرٌ بسوء، وذَكَرْتَهُ أنت بخير، يَنْفَعُهُ ذلك أو يضُرُّهُ، فلا يَسْتَخِفّنَّك ذكرُ أحَدٍ، من صَديقٍ أو عدُوٍّ، إلا في موْطِن دَفع أو محاماة، فإنَّ صديقك، إذا وثق بك في مواطن المحاماة، لم يحفل بما تركت مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيلُ لائمة، وإن الأحزم في أمر عدوك، ألا تَذْكُرُه، إلا حيث يضره، وألا تعد يسير الضر، ضرًّا.
إعلم، أن الرجلَ قد يكون حليمًا، فيحملُه الحِرصُ، على أن يُقَالَ جليدٌ (قوي شديد صبور)، والمخافة، أن يقال مَهينٌ (قليل التمييز ضعيف الرأي)، على أن يتَكَلفَ الجهل، وقد يكون الرجل زميتًا (وقِرَ ورَزَنَ وَقل كَلَامه)، فيحمله الحرص، على أن يُقال لَسِنٌ (فصيحا بليغا)، والمخافَةُ، من أن يُقال عييٌ (عجز في نطقه فلم يتمكن من إظهار مراده من كلامه)، على أن يقول في غير موضعه، فيكون هذِرًا (خلط وتكلم بما لا ينبغي)، فاعرف هذا وأشباهه، واحترسْ منه كله.
إذا بَدَهَكَ أمرَانِ، لا تَدْرِي أيُّهمَا أصْوَبُ، فانظُر أيُّهما أقرَب إلى هواك، فخالفه، فإن أكثر الصواب، في خلاف الهوى.
ليجتمع في قلبك، الافتقارُ إلى الناس، والاستغناء عنهم، فيكُون افتقارُك إليهم، في لين كلمتك، وحُسْنُ بِشرِك، ويكُون استغناؤك عنهم، في نزاهة عرضك، وبقاء عزك.
لا تجالس إمْرَأً، بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل، بالعلم، والجافي (جَافَى صَاحِبَهُ: عَامَلَهُ بِجَفَاءٍ، أَعْرَضَ عَنْهُ، عَادَاهُ)، بالفقه (الْفَهم والفطنة)، والعَيِّ، بالبيان، لم تزد على أن تضيع عقلك، وتُؤْذي جليسك، بحملك عليه، ثقل ما لا يعرفُ، وغمِّك إيَّاه، بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح، من مخاطبة الأعجمي، الذي لا يفقه.
واعلم، أنه ليس من علم، تذكره عند غير أهله، إلا عادوه، ونصبوا له، ونقضوه عليك، وحَرَصُوا على أن يجعلوه جهلًا، حتى إنَّ كثيرًا، من اللهو واللعب، الذي هو أخف الأشياء على الناس، ليحضره من لا يعرفه، فيثقل عليه، ويغتم به.
ليعلم صاحبُكَ، أنكَ حَدِب (حدب عليه: عطف عليه) على صاحبه، وإيَّاك، إن عاشرك امرؤ، ورافقك، ألَّا يرى منك، بأحد من أصحابه وأخدانه، رأفة، فإنَّ ذلك، يأخُذُ من القلوب مأخذًا، وإنَّ لُطفك، بصاحِبِ صاحِبِك، أحسَنُ عندَه موقعًا، من لطفك به، بنفسه.
اتَّق الفَرَح عند المحزون، واعلم، أنه يحقد على المُنْطَلَقْ (الضاحك، المشرق)، ويَشْكُرُ لِلمُكتَئِب.
إعلم، أنك ستَسْمَع من جُلسائك، الرَّأيَ والحديث، تُنْكِرُه وتستجفيه، من محدث عن نفسه، أو عن غيره، فلا يكونَنَّ منك التكذيب، ولا التسخيف، لشيء مما يأتي به جليسك، ولا يُجرِّئنَّك على ذلك، أن تقول، إنما حدث عن غيره، فإنَّ كل مردود عليه، سيمتعض من الرَّد.
وإنْ كَان في القَوم، مَنْ تكره أن يستقر في قلبه، ذلك القول، لخطأ تخاف أن يُعْقَدَ عليه، أو مَضَرَّة تخشاها على أحدٍ، فإنَّك قادرٌ على أن تنقض ذلك في سر، فيكون أيسرَ للنقض، وأبعد للبِغْضَةِ.
واعلم، أن البِغْضَةَ خوفٌ، والموَدَّةَ أمْنٌ، فاستكثرْ من المودَّة صامتًا، فإنَّ الصمت يدعوها إليك، وناطقًا بالحسنى، فإنَّ المنطق الحسن، يزيد في ود الصديق، ويَسَلّ (ينتزع) سَخِيمَة (حِقْد، ضَغينة) الوَغْر (عداوة).
واعلم، أن خفض الصوت، وسكُونَ الرّيحِ (الوقار، والثبات)، ومشي القصد، من دواعي المودة، إذا لم يُخالط ذلك بَأوٌ (عظمة)، ولا عُجْبٌ، أمَّا العُجْبُ، فهو من دواعي المقت، والشنآن.
تعلمْ، حُسن الاستماع، كما تتعلم، حسن الكلام، ومن حسن الاستماع، إمهال المتكلم، حتى يقضي حديثه، وقلة التلفُّت (صرف إليه) إلى الجواب، والإقبال بالوَجْهِ، والنظر إلى المتكلم، والوعيُ لِما يقول.
واعلم، أن المستشارَ ليس بكفيلٍ، والرَّأي، ليس بمضمون، بل الرأي كله غَرَر، لأن أمور الدنيا، ليس شيءٌ منها بثقة، ولأنه، ليس شيءٌ من أمرها، يُدركه الحازم، إلا وقد يُدركه العاجز، بل رُبَّما أعيا الحزمة، ما أمكن العجزة.
فإذا أشار عليك صاحبُك برأي، فلم تجدْ عاقبته على ما كنت تأمل، فلا تجعل ذلك عليه لومًا، وعذلًا، تقول: أنتَ فعلت هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنت، ولا جَرَم لا أُطيعُك، فإنَّ هذا كله ضَجَرٌ (تبرّم)، ولؤم وخفة.
وإن كُنت أنت المشير، فعَمِلَ برأيك، أو تَرَك، فبدا صوابُك، فلا تمنن، ولا تكثرن ذكره، إنْ كَان في نجاح، ولا تَلُم عليه، إن كان استبان في تركه ضررًا، تقول: ألم أقُل لك؟ ألم أفعل؟ فإنَّ هذا مجانبٌ، لأدب الحكماء.
إعلم، فيما تُكلم به صاحبك، أن مما يهجن صواب ما تأتي به، ويُذهب بهجته، ويُزري بقبوله، عجلتك في ذلك، أن يفضي إليك بذات نفسه.
ومن الأخلاق السيئة على كل حال، مغالبة الرَّجل على كلامه والاعتراض فيه، والقطع فيه.
ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها، إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ، حديثًا تعرفه، ألَّا تُسابقه إليه، وتفتحه عليه، وتُشاركه فيه، حتى كأنك تُظْهِر للنَّاس، بأنك تُريد أن يَعْلَمُوا، أنك تعلم من مثل الذي يعلم، وما عليك أن تُهَنّئَهُ بذلك، وتفرده به؟ وهذا الباب من أبواب البُخل، وأبوابه الغامضة كثيرة.
وإذا كنت في قوم، ليسوا بُلغاء، ولا فصحاء، فدع التطاوُل عليهم، في البلاغة، أو الفصاحة.
إعلم، أن بعض شدة الحذر، عونٌ عَليْكَ، فيمَا تَحذَرُ، وأن بعض شدَّة الاتقاء، تدعو إليك، ما تتقي.
إن رأيتَ نَفْسَك، تصاغَرَتْ إليها الدنيا، ودعتك إلى الزهادة فيها، على حال، تَعَذّرٍ منها عليك، فلا يغرنك ذلك من نفسك، على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة، ولكنها ضَجَرٌ (تبرُّم)، واستحذاء (طلب عطاء)، وتغير نفس، عند ما أعجزك من الدنيا، وغضب منك عليها، مما الْتَوَى (صعُب وعسُر) عليك منها، ولو تَمَّمْتَ على رفضها، وأمسكت عن طلبها، أوشكتَ أن ترى من نفسك، من الضجر والجزع (خاف، إضطرب، لم يصبر على ما حل به)، أشدَّ من ضجرك الأول بأضعاف، ولكِنْ، إذا دعتك نفسك إلى رفض الدُّنيا، وهي مُقبلة عليك، فأسرع إجابتها.
إعرف عورتك، وإياك، أن تُعَرِّض (صَار هدفا) بأحد، فيما شاركها (شابهها)، وإذا ذُكِرَتْ من أحد خليقته، فلا تناضل عنه، مناضلة المدافع عن نفسه، فتُتَّهم بمثلها، ولا تلح كل الإلحاح، وليكُن ما كان منك، من غير اختلاط (اِلْتِبَاس)، فإنَّ الاختلاط، من مُحقِّقَات الرَّيب، وإذا كُنت في جماعة قوم أبدًا، فلا تَعُمن، جيلًا من النَّاس، أو أمَّة، بشتم ولا ذم، فإنك لا تدري، لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك، ولا تعلم، ولا تَذُمّنّ مع ذلك، اسمًا من أسماء الرجال، أو النِّساء، بأنْ تقول: إنَّ هذا لقبيحٌ من الأسماء، فإنَّك لا تدري، لعل ذلك موافقٌ لبعض جلسائك، في بعض أسماء الأهلين، والحرم، ولا تستصغرن من هذا شيئًا، فكله يجرح في القلب، وجرحُ اللسان، أشد من جرح اليد.
إعلم، أن النَّاس، يخدعون أنفُسَهم، بالتَّعْرِيض (تَلْمِيح) والتَّوقيع (توهم الشيء) بالرِّجال، في التماس مثالبهم ومساويهم، وكل ذلك أبينُ عند سامعيه، من وَضَحِ الصّبحِ، فلا تكوننَّ من ذلك في غرور، ولا تجعلنَّ نفسك من أهله.
وإني مُخبرك، عن صاحِبٍ، كان أَعْظَم الناس في عيني، وكان رأسُ ما أعْظَمَهُ عِنْدِي، صِغَرَ الدُّنيا في عينه.
كان خارجًا من سُلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد.
كان خارجًا من سُلطان فَرْجِهِ، فلا يدعُو إليه مؤنة (ثقل، شدة)، ولا يَستخِفّ (حمله على الخلاعة) له رأيًا ولا بَدَنًا.
كان خارجًا من سلطان الجَهَالة، فلا يُقْدِمُ، إلا على ثقة، أو منفعة.
كان أكثرَ دهره صامتًا، فإذا قَالَ، بَذَّ (سبق) القائلين.
كان يُرى مستضعفًا، فإذا جاء الجِدُّ، فهو الليث عاديًا.
كان لا يدخل في دعوى، ولا يشترك في مِراءٍ، ولا يُدْلي بحجة، حتى يجد قاضيًا عدْلًا، وشُهُودًا عدولًا.
كان لا يلوم أحدًا، على ما قد يكون، العُذْرُ في مِثْلِهِ، حتى يَعْلَمَ، ما اعْتِذَارُه.
كان لا يَشْكُو وجعًا، إلا إلى من يرجو عنده البرء (الشفاء والعافية بعد سقم)، ولا يصحب إلا من يرجو عنده النَّصيحة.
كان لا يتبرم، ولا يتسخط، ولا يتشهى، ولا يتشكى، ولا ينتقم من الوالي، ولا يغفل عن العَدُوِّ، ولا يخصُّ نفسه، دُون إخوانه، بشيء من اهتمامه، بحيلته، وقُوته.
فعليك بهذه الأخلاق، إن أطقت، ولن تطيق، ولكنَّ، أخذ القليل، خير من ترك الجميع، وبالله التوفيق.