بسم الله الرحمن الرحيم
أمَّا بعد، فإنَّ لكل مخلوق حاجةً، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلًا.
والله وَقَّتَ للأمور أقدارَها، وهيأ إلى الغايات سُبُلها، وسبَّب الحاجات ببلاغها.
فغايةُ الناس وحاجاتُهم، صلاح المعاش والمعاد(الآخرة)، والسبيل إلى دركها، العقلُ الصحيح، وأمارَةُ (علامة) صحة العقل، اختيارُ الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم (العلم).
وللعقول سجياتٌ (طبائع) وغرائزُ، بها تقبل الأدب، وبالأدب، تنمي العقول وتزكو.
فكما أن الحبة المدفونة في الأرض، لا تقدر على أن تخلع يُبْسها، وتُظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض، بزهرتها وريعها (راع: نما وزاد وظهر طلعه وثمره)، ونضرتها ونمائها، إلا بمعونة الماء، الذي يغور إليها في مستودعها، فيُذهب عنها أذى اليبس والموت، ويُحدث لها بإذن الله، القوة والحياة، فكذلك سليقة (سجية) العقل، مكنونةٌ في مغرزها من القلب، لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها، حتى يعتملها الأدبُ، الذي هو ثمارها، وحياتها، ولقاحها.
وجل الأدب بالمنطق، وجل المنطق بالتعلم، ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه، إلا وهو مروي متعلم، مأخوذ عن إمام سابق، من كلام، أو كتاب، وذلك دليل، على أن الناس، لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها، إلا من قبل العليم الحكيم.
فإذ خرج الناسُ، من أنْ يكون لهم عملٌ أصيلٌ، وأن يقولوا قولًا بديعًا، فليعلم الواصفون المخبئون، أن أحدهم، وإن أحْسَنَ وأبلغ، ليس زائدًا، على أن يكون، كصاحب فصوص (ما يُركّب في الخاتم من الأحجار الكريمة)، وجد ياقوتًا، وزبرجدًا، ومرجانًا، فنظمه، قلائدَ، وسُمُوطًا (قلادة من خرز أو نحوه منظوم في خيط واحد) وأكاليلَ، ووضع كل فص، موضعه، وجمعَ إلى كل لون، شَبَهَه، وما يزيده بذلك حسنًا، فسُمِّي بذلك صانعًا رفيقًا، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها، ما يُعْجب الناس، من الحلي والآنية، وكالنحل، وجدت ثمراتٍ، أخْرَجَها الله طيبة، وسلكت سبلًا، جعلها الله ذللًا، فصار ذلك، شفاء وطعامًا، وشرابًا منسوبًا إليها، مذكورًا به أمرها، وصَنعتها.
فمن جرى على لسانه، كلامٌ يستحسنه، أو يُستحسن منه، فلا يعجبن، إعجاب المخترع المبتدع، فإنه إنما اجتناه، كما وصفنا.
ومن أخذ كلامًا، حسنًا عن غيره، فتكلم به في موضعه، وعلى وجهه، فلا تَرَيَنّ (يقع) عليه في ذلك ضؤولة (ضعفا ونقصا، تضاءل الرجل)، فإنَّه مَنْ أُعينَ، على حفظ قول المصيبين، وهُدي للاقتداء بالصالحين، ووُفق للأخذ عن الحكماء، فلا عليه أن يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس بناقصه في رأيه، ولا غامطه (ناكره) من حقه، أن لا يكون، هو استحدث ذلك وسبق إليه.
وإنما إحياء العقل، الذي يتم به ويستحكم، خصال سبع: الإيثار (تَفْضِيل الْمَرْء غَيره على نَفسه) بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك، موضعه قولًا وعملًا.
أما المحبة، فإنها تبلغ المرء، مبلغ الفضل في كل شيء، من أمر الدنيا والآخرة، حين يؤثر بمحبته، فلا يكون شيء، أمرأ (أنفَع)، ولا أحلى عنده منه.
وأما الطلب، فإن الناس، لا يغنيهم حبهم ما يحبون، وهواهم ما يهوون، عن طلبه وابتغائه، ولا تُدْرَك لهم بُغْيَتُهُمْ (الضالة المبغية)، ونَفَاسَتُهَا (ذُو قِيمَةٍ ورفع) في أنفسهم، دون الجد والعمل.
وأما التَثَبُّتْ والتَخَيُّرْ، فإن الطلب، لا ينفع إلا معه وبه، فكم من طالب رُشْدٍ، وَجَدَهُ والغَيَّ معًا، فاصطفى منهما، الذي منه هرب، وألغى، الذي إليه سعى، فإذا كان الطالب، يحوي غير ما يريد، وهو لا يشك في الظفر، فما أحقه، بشدة التبيىن، وحسن الابتغاء.
وأما اعتقادُ الشيء بعد استبانته، فهو ما يُطلب، من إحراز الفضل بعد معرفته.
وأمَّا الحفظُ والتَّعَهُّدُ، فهو تمام الدَّرْكِ، لأن الإنسان، مُوَكَّلٌ به النسيانُ والغفلة، فلا بُدَّ له، إذا اجتبى صواب قولٍ أو فعل، من أن يحفظه عليه ذهنُه، لأوانِ حاجته.
وأمَّا البصر بالموضع، فإنما تصير المنافع كلها، إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله، حاجة شديدة. فإنّا، لم نوضع في الدنيا موضع غنًى وخفض (في خَفْض من العيش: في سعة وراحة)، ولكن بموضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يُمسك أرماقنا (بقية الروح أو الحياة)، من المأكل والمشرب، بأحوجَ منا، إلى ما يُثبت عقولنا، من الأدب، الذي به تَفاوُتُ العُقُول. وليس غذاء الطعام، بأسرع في نبات الجسد، من غذاء الأدب، في نبات العقل، ولسنا بالكد في طلب المتاع، الذي يُلتمس به، دفع الضرر والغلبة، بأحقَّ منا، بالكد في طلب العلم، الذي يُلتمس به، صلاح الدين والدنيا.
وقد وضعتُ في هذا الكتاب، من كلام الناس المحفوظ، حروفًا، فيها عونٌ على عمارة القلوب وصقالها (صقل: أَزَالَ صَدَأ، هَذَّبَ، اِعْتَنَى بِتَرْبِيَة، منح خبرة)، وتجلية أبصارها، وإحياءٌ للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليل، على محامد الأمور، ومكارم الأخلاق، إن شاء الله.
الواصفون، أكثر من العارفين، والعارفون، أكثر من الفاعلين.
فلينظر امرؤ، أين يضع نفسه، فإن لكل امرئ، لم تدخل عليه آفةٌ، نصيبًا من اللب (العقل) يعيش به، لا يُحِبُّ، أن له به من الدنيا ثمنًا. وليس كل ذي نصيب، من اللب، بمستوجب، أن يُسمَّى في ذوي الألباب، ولا أن يوصف بصفاتهم.
فمَنْ رَامَ (رغِب)، أنْ يَجْعَل نفسه، لذلك الاسم والوصف أهلًا، فليأخذْ له عتاده، وليُعدَّ له طول أيامه، وليؤْثِرْهُ، على أهوائه، فإنه، قد رام أمرًا جسيمًا، لا يصلح على الغفلة، ولا يُدْرَك بالْمَعْجِزَة (الضعف)، ولا يصير على الأثَرَة (المَنْزِلة). وليس كسائر أمور الدنيا، وسلطانها، ومالها وزينتها، التي قد يُدْرِك منها المتواني، ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز، ما يخطئ الحازم، وليَعلم، أن على العاقلِ أمورًا، إذا ضيعها، حكم عليه عقلُه، بمقارنة الجهال.
فعلى العاقل، أن يعلم، أن النَّاس مُشركون مستوُون، في الحب لما يُوَافِقُ، والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلةٌ، اتفق عليها، الحمقى والأكياس (كَيْس: فِطنة وعقل، حُسْن التَّأنِّي في الأمور)، ثم اختلفوا بعدها، في ثلاث خصال، هن جِماعُ (ما جَمَع عَدَدًا، هذا الكتاب جِماع مقالات كثيرة) الصواب، وجِماع الخَطَإِ، وعندهن، تَفَرَّقَت العُلماء والجهال، والحزَمة (ضبط أمره وأتقنه وأخذ فيه بالثقة) والعجزة.
ومن ذلك، أَنَّ العاقل، ينظر فيما يُؤذيه، وفيما يَسُرُّه، فيعلم، أن أحق ذلك بالطَّلب، إن كان مما يُحَبُّ، وأحقه بالاتقاء، إن كان مما يُكْرَه، أطوله، وأدومه، وأبقاه، فإذا هو، قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة، على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع، الذي تصلح به الأنفس والأعقاب، على حاضر الرأي، الذي يستمتع به قليلًا، ثم يضمحل، وفضل الأكلات، على الأكلة، والساعات على الساعة.
ومن ذلك، أن ينظر، فيما يؤثر من ذلك، فيضع الرَّجاء والخوف فيه مَوْضِعَهُ، فلا يجعل اتقاءه، لغير المخوف، ولا رجاءَه، في غير المدرَك، فيَتوقى عاجلَ اللذات، طلبًا لآجلها، ويحتمل قريبَ الأذى، توقيًا لبعيده، فإذا صار إلى العاقبة، بَدَا له، أن فراره كان تورطًا (وقَعَ فِيهِ وَلَمْ يَسْتَطِعِ النَّجَاةَ)، وأن طلبه، كان تنكبًا (التَّنَكُّبُ عَنِ الشَّيْءِ: العُدُولُ، التَّنَحِّي).
ومن ذلك، هو تنفيذ (مُبَاشَرَة) البصر(العلم) بالعَزْمِ، بعد المعرفة، بفضل الذي هو أدْوَمُ (دائِمَ)، وبعد التثبُّت، في مواضع الرجاء والخوف، فإن طالب الفضل، بغير بصر، تائهٌ حيران، ومبصر الفضل، بغير عزم، ذو زَمَانَةٍ (مرض يَدُوم) محرومٌ.
وعلى العاقل، مُخَاصمة نفسه، ومحاسبتها، والقضاء (العدالة) عليها، والإثابة (أثاب: كافأ وجازى) والتنكيل بها.
أمَّا المحاسبة، فيحاسبها بما لها، فإنَّه لا مالَ لها، إلا أيَّامُها المعدودة، التي ما ذهب منها، لم يُستخلف، كما تُستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل، لم يَرْجِعْ إلى الحق، فيتنبه لهذه المحاسبة، عند الحَوْلِ (سنة كاملة) إذا حال (أي عند العام إذا مضى)، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر، فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه، وما اكتسب عليها، في أمر الدين، وأمر الدنيا، فيجمع ذلك في كتاب، فيه إحصاءٌ وجدٌّ (رصانة واجتهاد)، وتذكير للأمور، وتبكيت (تَأْنِيب) للنفس، وتذليل لها، حتى تعترف وتُذعن.
وأمَّا الخصومة، فإن من طباع النفس، الآمرة بالسوء، أن تَدّعي المعاذير، فيما مضى، والأماني، فيما بقي، فيَرُدَّ عليها معاذيرَها، وعِلَلَهَا، وشُبُهاتِها (ما الْتبس أَمرُه).
وأمَّا القضاء، فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك، على السيئة، بأنها فاضحةٌ، مُرديةٌ موبقةٌ (مَهْلِكة)، وللحسنة، بأنها زائنةٌ، منجيةٌ مربحة.
وأمَّا الإثابة والتنكيل، فإنه يَسُرُّ نَفْسَه، بتذكر تلك الحسنات، ورجاء عواقبها، وتأميل فضلها، ويُعَاقِبُ نفسه، بالتذكر للسيئات، والتبشع بها، والاقشعرار منها، والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب، أشدُّهم لنفسه بهذا أخذًا، وأقلهم عنها فيه فَتْرَةً (إغفالا وضعفا وانكسارا).
وعلى العاقل، أنْ يذكرَ الموت في كل يوم وليلة مرارًا، ذكرًا، يُباشر (يتولَّى) القلوب، ويقذع (يمنع) الطماح (الفخر، الكبر)، فإنَّ في كثرة ذِكْرِ الموت، عصمةً من الأشَر (الأكثر سوءًا وفسادًا)، وأمانًا بإذن الله، من الهلع.
وعلى العاقل، أن يُحْصِيَ على نفسه، مساويها في الدين، وفي الرأي، وفي الأخلاق، وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره، أو في كتاب، ثم يُكثر عَرْضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويُوَظَّفُ ذلك عليها توظيفًا، من إصلاح الخلة، والخلتين والخلال، في اليوم، أو الجمعة أو الشهر.
فكلما أصلح شيئًا، محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابتٍ اكْتأَبَ.
وعلى العاقل، أن يتفقد محاسنَ النَّاس، ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك، مثلَ الذي وصفنا، في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل، أن لا يُخَادن (خادن فلانًا: صادقه وصاحبه في أموره ظاهرها وباطنها)، ولا يُصَاحب، ولا يجاور من الناس، ما استطاع، إلا ذا فضل في الدين، والعلم والأخلاق، فيأخذ عنه، أو مُوافقًا له على إصلاح ذلك، فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن، له عليه فضلٌ.
فإن الخصال الصالحة من البر، لا تحيا ولا تنمَى، إلا بالموافقين والمؤيدين، وليس لذي الفضل، قريب ولا حميم، أقرب إليه، ممن وافقه، على صَالح الخصَال، فزاده وثَبَّتَه.
ولذلك، زعم بعض الأولين، أن صُحبة بليدٍ، نشأ مع العُلماء، أحب إليهم، من صحبة لبيب، نشأ مع الجهال.
وعلى العاقِلِ، أن لَا يَحْزَنَ على شيء، فاته من الدنيا أو تولى، وأن يُنْزِلَ ما أصابه من ذلك، ثم انقطع عنه، مَنْزِلةَ ما لم يُصِب، ويُنْزِل ما طلب من ذلك، ثم لم يدركه، منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظه من السرور، بما أقبل منها، ولا يبلغن ذلك سُكْرًا ولا طغيانًا، فإن مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاوُن، ومن نسِيَ وتهاون خسر.
وعلى العاقل، أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه، ويجرئهم عليها، حتى يصيروا، حرسًا على سمعه وبصره ورأيه، فيستنيم (إستقر، سكن) إلى ذلك، ويُريح له قلبه، ويعلم، أنهم لا يغفلون عنه، إذا هو غفل عن نفسه.
وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوبًا على نَفْسِهِ، أن لا يشغله شُغلٌ، عن أربع ساعات: ساعة، يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة، يُحاسب فيها نفسَهُ، وساعة، يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته، الذين يصْدُقونه عن عيوبه، وينصحونه في أمره، وساعة، يُخلي فيها بين نفسه، وبين لذتها، مما يحِلُّ ويَجْمُلُ، فإن هذه الساعة، عوْنٌ على الساعات الأُخَرِ، وإن استجمام القلوب وتوديعها (وَدَعَ: صان، حفظ)، زيادةُ قوة لها، وفَضْلُ بُلْغَةٍ.
وعلى العاقل، أن لا يكون راغبًا، إلا في إحدى ثلاث: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ (الآخرة)، أو مَرَمَّةٍ (مَتَاع، إصلاح) لِمَعاشٍ، أو لذة، في غير مَحْرَّم.
وعلى العاقل أنْ يجعل الناس، طبقتين متباينتين، ويلبس لهم، لباسين مختلفين.
فطبقةٌ من العامة، يلبس لهم، لباس انقباض وانحجاز، وتحفُّظ في كل كلمة وخطوة.
وطبقة من الخاصة، يخلع عندهم، لباس التشدُّد، ويلبس لباس الأنسة، واللطفة والبذلة والمفاوضة، ولا يدخل في هذه الطبقة، إلا واحدٌ من ألف، وكُلُّهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء.
وعلى العاقل، أن لا يستصغر شيئًا، من الخطأ في الرَّأي، والزلل في العلم، والإغفال في الأمور، فإنَّ من استصغر الصغير، أوشك أن يجمع إليه صغيرًا وصغيرًا، فإذا الصغير كبير، وإنما هي ثُلَمٌ (شَقٌّ أو جرحٌ)، يَثْلِمُهَا العجز والتضييع، فإذا لم تُسَد، أوشكت أن تنفجر بما لا يُطاق.
ولم نرَ شيئًا قطُّ، إلا قد أُتِيَ، من قبل الصغير المتهاون به، وقد رأينا الملك يُؤْتَى، من قِبل العدو المحتقَر به، ورأينا الصحة تؤتى، من الداء الذي لا يُحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق، من الجدول الذي يُستخف به.
وأقلُّ الأمور احتمالًا للضياع، المُلك، لأنه ليس شيء يضيع، وإن كان صغيرًا، إلا اتصل بآخرَ، يكون عظيمًا.
وعلى العاقل، أن يجبن عن المضي، على الرأي، الذي لا يجد عليه موافقًا، وإن ظن، أنه على اليقين.
وعلى العاقل، أن يعرف، أن الرأيَ والهوى، متعاديان، وأن من شَأنِ النَّاس، تسويف (الْمُمَاطَلَة) الرأي، وإسعاف الهوى، فيُخَالف ذَلك، ويلتمس، ألَّا يزال هواه مُسَوَّفًا، ورأيه مسعفًا.
وعلى العاقل، إذا اشتبه عليه أمْرَان، فلم يَدْرِ، في أيِّهما الصواب، أن ينظر أهواهما عنده، فيحذره.
ومن نصب نفسه للناس، إمامًا في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه، وتقويمها في السيرة (سلوك، ذا سيرة حسنة) والطُّعْمَةِ (الرِزق، مكْسب)، والرأي واللفظ والأخدان (أخلاء، أصدقاء)، فيكون تعليمُه بسيرته، أبلغَ من تعليمه بلسانه، فإنه كما أن كلام الحكمة، يونق (يعجب) الأسماع، فكذلك عملُ الحكمة، يروق (يعجب) العيون والقلوب، ومُعَلِّم نفسه ومؤدبها، أحقُّ بالإجلال والتفضيل، من معلم الناس، ومؤدبهم.
وولاية الناس، بلاءٌ عظيم، وعلى الوالي، أربعُ خصال، هي أعمدةُ السلطان، وأركانُه التي بها يقوم، وعليها يثبُت: الاجتهادُ في التَخيُّر(تخيَّر: اختار)، والمبالغة في التقدُّم (التحسن، التدرج) ، والتعهُّد (وعد يأخذ على التزام أمر من الأمور) الشديد، والجزاء العتيد.
فأمَّا التخيُّر للعُمال والوزراء، فإنَّه نظامُ الأمر، ووضْع مؤونة (ذَخِيرَة، عُدَّة، قُوة) البعيد المنتشر، فإنه عسى أنْ يكون بتخيره، رجلًا واحدًا، قد اختار ألفًا، لأنه، من كان من العمال خِيَارًا (منتقى، أفضله)، فسيختار كما اختير. ولعل عمال العامل، وعمال عُمَّاله، يبلغون عددًا كثيرًا، فمَنْ تبيَّن التخيُّر، فقد أخذ بسبب وثيق، ومَن أسس أمره، على غير ذلك، لم يجِدْ لبنيانه قوامًا.
وأمَّا التقديمُ والتوكيد، فإنه ليس كل ذي لب، أو ذي أمانة، يعرف وُجُوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفًا، لم يكن صاحبه، حقيقًا أن يكلَ (أوكلَ) ذلك إلى علمه، دون توقيفه (عاين، أدرك، فهم وتبيّن) عليه، وتبيينه له، والاحتجاج عليه به.
وأمَّا التعهُّدُ، فإن الوالي، إذا فعل ذلك، كان سميعًا بصيرًا، وإنَّ العامل، إذا فعل ذلك به، كان متحصنًا حريزًا.
وأمَّا الجزاء، فإنه تثبيت المحسن، والرَّاحة من المسيء.
ولا يُستطاع السُّلطان، إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء، إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة، إلا مع الرأي والعفاف.
وأعمالُ السُّلطان كثيرةٌ، وقلَّيل ما تُستجمع الخصال المحمودة، عند أحدٍ.
وإنما الوجه في ذلك، والسبيل الذي به يستقيم العمل، أن يكون صاحب السلطان، عالمًا بأمور مَن يُريد الاستعانة به، وما عندَ كل رَجُلٍ، من الرأي والغناء، وما فيه من العُيوب.
فإذا استقرَّ ذلك عنده، عن علمه وعلم من يأتمن، وجَّه لكُل عملٍ، مَن قد عرف، أن عنده من الرأي والنَّجدة والأمانة، ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب، لا يضر بذلك، ويتحفظ، من أن يُوجه أحدًا، وجهًا لا يُحتاج فيه إلى مروءة، إن كانت عنده، ولا يَأْمَنُ عُيُوبَه، وما يُكْره منه.
ثم على الملوك، بعد ذلك، تعهُّد عمالهم، وتفقُّد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم، إحسانُ محسن، ولا إساءة مسيء.
ثم عليهم بعد ذلك، أن لَّا يتركوا محسنًا، بغير جزاء، ولا يُقرُّوا مسيئًا، ولا عاجزًا، على الإساءة والعجز، فإنهم إنْ تركوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمْرُ، وضاعَ العمل.
واقتصارُ (نقصان) السَّعي، إبقاءٌ للجِمَام (الرَّاحَة)، وفي بُعد الهمَّة، يكون النَّصَبُ (كدٌّ وكفاح)، ومن سأل فوقَ قدرته، استحق الحرمان، وسوءُ حَمْلِ الغِنَى، أن يكون عند الفرح مَرِحًا (مختالا فخورا متكبرا)، وسوء حمل الفاقة (الفَقْر)، أن يكون عند الطلب شرهًا، وعار الفقر، أهونُ من عار الغنى، والحاجةُ مع المحبة، خيرٌ من الغنى مع البغضة.
والدُّنيا دَوْلَةٌ (انقِلابُ الزَّمان)، فما كان لك منها، أَتَاك على ضَعْفِك، وما كان عليك، لم تدفعْه بقوَّتك.
وإذا جُعل الكلام مثلًا، كان ذلك أوضحَ للمَنْطِق، وأَبْيَنَ في المعنى، وآنَقَ (أحسن اختيارَ) للسَّمع، وأوسع لشعوب الحديث.
وأشدُّ الفاقة، عدمُ العقل، وأشدُّ الوَحْدَةِ، وَحْدَةُ اللَّجُوجِ (كَثِيرُ الإِلْحَاحِ)، ولا مَالَ، أفضل من العقل، ولا أنِيسَ، آنَسُ (لم ينفر) من الاستشارة.
ومما يُعتبر به، صلاحُ الصالح، وحسن نظره للنَّاس، أنْ يكون، إذا استعتبَ المذنب، ستورًا، لا يُشيعُ ولا يُذيعُ، وإذا استُشِيرَ، سَمْحًا (فيه يسر وسهولة) بالنَّصيحة، مُجتهِدًا للرأي، وإذا استشار، مطرحًا (أَلْقَى) للحياء، منفذا للحزم، معترفًا للحق.
والْقَسْمُ (قسَم اللهُ الرِّزقَ: وزّعه وأعطى) الذي يُقْسَم للناس، ويمتعون به، نحوان: فمنه حارسٌ، ومنه محروسٌ. فالحارس، العقل، والمحروس، المال.
والعقل بإذن الله، هو الذي يُحرز الحظ، ويُؤنس الغُربة، ويَنْفِي الفاقة، ويُعَّرِفُ النَّكِرَة، ويُشمّرُ (يقوي) المَكْسَبَةَ، ويُطيب الثمرة، ويُوجِّه السُّوقة (عامّة النَّاس) عند السلطان، ويستنزل للسلطان، نصيحة السوقة، ويكسب الصديق، ويكفي العدو.
وكلام اللبيب، وإن كان نزرًا (قليل)، أدبٌ عظيم، ومقارفةُ (قرَف الذَّنبَ: أتاهُ) المَأثَمِ، وإنْ كان محتقرًا، مصيبةٌ جليلة، ولقاء الإخوان، وإن كان يسيرًا، غُنْمٌ (فوز) حسن.
وقد يسعى إلى أبواب السلطان، أجناسٌ من الناس كثيرٌ، أمَّا الصالح، فمدعو، وأمَّا الطالح، فمقتحِم، وأما ذو الأدب، فطالبٌ، وأمَّا من لا أَدَبَ له، فمختلس، وأمَّا القوي، فمدافع، وأمَّا الضعيف، فمدفوع، وأما المحسن، فمستثيب، وأما المسيء، فمستجير، فهو مَجْمَع البَرِّ والفاجر، والعالم والجاهل، والشريف والوضيع.
والناس إلا قليلًا ممن عصم الله، مدْخُولونَ (الَّذِي دَخَلَ عَقْلَهُ أَو جَسَدَهُ فَسَادٌ) في أمورهم، فقائلُهم باغٍ، وسامعُهم عيَّاب، وسائلُهم متعنت، ومُجيبُهم متكلف، وواعظهم، غير محقق لقوله بالفعل، وموعُوظهم، غير سليم من الاستخفاف، والأمين منهم، غير متحفظ من إتيان الخيانة، وذو الصِّدق، غير محترس، من حديث الكَذَبَةَ، وذو الدين، غير متورع، (تورَّع الشَّخْصُ من الأمر: تجنَّب الإثمَ فيه ) عن تفريط (الإكْثَار) الفَجَرة، والحازم منهم، غير تارك لتوقُّع الدوائر، يتناقضون (أفسَده بعد إحكامِه) البِنَاء، ويترقبون الدول (انقِلابُ الزَّمان)، ويتعاطون القبيح، ويتعايبون بالهمز، مولعون في الرَّخاء بالتحاسُد، وفي الشدة بالتخاذُل.
كم قد انتُزِعَت الدُّنيا، ممن قد اسْتَمْكَن منها، واعتكفت له، فأصبحت الأعمالُ أعمالَهم، والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعَهم، من لم يَحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم، فأصبحنا خلفًا من بعدهم، نتوقَّع مثل الذي نزل بهم، فنحن إذا تدبرنا أمورَهم، أحقاءُ، أنْ نَنظر ما نَغْبِطُهُمْ (غبَط فلانًا: تمنَّى مثلَ ما لَه من النعمة من غير أن يحسدَه أو يريدَ زوالَها عنه) به، فنَتّبِعَهُ، وما نخاف عليهم منه، فنجتنبه.
الدنيا زُخرُفٌ، يغلب الجوارحَ، ما لم تغلبه الألباب، والحكيمُ، من يُغضِي عنه، ولم يشغل به قلبَه، اطَّلَعَ من أدناه، فيما وراءه، وذكر في بدئه، لواحقَ شره، فأكل مُرَّه، وشَرِبَ كَدِرَهُ، لِيَحْلَوْلِيَ (يحلو) له ويصْفُوَ، في طُولٍ، من إقامة العيش، الذي يبقى ويَدُومُ، غير عائِفٍ (المتكهن بالطير) لِلرَّشَدِ، إن لم يلقه برِضَاه، ولم يأتِهِ، من طريق هواه.
لا تألف المستوخَمَ (الثقيل) المُسْتَوْهِم، ولا تُقِم على غير الثِّقة.
وقد بلغ فَضْلُ الله على الناس من السعة، وبلغتْ نعمته عليهم، من السبوغ (سَبَغتِ النِّعْمَةُ: تمَّت واتّسَعَت، سبغ العيشُ: كان رغدًا)، ما لو أن أخسَّهم حظًّا، وأقلهم منه نصيبًا، وأضعفهم عِلمًا، وأعجزهم عملًا، وأعياهم (عَجَزَ عَنْ إِحْكَامِهِ) لسانًا، بلغ من الشكر له، والثناء عليه، بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته، ما بلغ له منه أعظمهم حظًّا، وأوفرهم نصيبًا، وأفضلهم علمًا، وأقواهم عملًا، وأبسطهم لسانًا، لكان عما استوجب الله عليه مقصرًا، وعن بلوغ غاية الشكر بعيدًا.
ومَن أخذ بحظه، من شكر الله، وحمده ومعرفة نعمه، والثناء عليه، والتحميد له، فقد استوجب بذلك، من أدائه إلى الله، القربة عنده، والوسيلة إليه، والمزيد، فيما شكَرَه عليه، من خيرَ الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.
وأفضلُ، ما يُعلَمُ به عِلْمُ ذي العلم، وصلاحُ ذي الصَّلاح، أن يَسْتَصْلِحَ بما أوتي من ذلك، من استطاع من النَّاس، ويُرغبهم، فيما رغب فيه لنفسه، من حُبِّ الله، وحُبِّ حكمته، والعمل بطاعته، والرجاء لحسن ثوابه، في المعاد إليه، وأن يبين الذي لهم، من الأخذ بذلك، والذي عليهم، في تركه، وأن يورث ذلك أهله، ومعارفه، ليلحقه أجره، من بعد الموت.
والدِّين، أفضل المواهب، التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدُها في كُلِّ حكمة، فقد بلغ فضل الدين والحكمة، أن مُدِحَا على ألسنة الجهال، على جهالتهم بهما، وعَمَاهمْ عنهما.
وأحقُّ النَّاسِ بالسُّلطان، أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير، العُلماء، وأحقُّهم بالفضل، أعْوَدُهُمْ على الناس بفضله، وأحقُّهم بالعلم، أحسنهم تأديبًا، وأحقُّهم بالغنى، أهلُ الجود، وأقربُهم إلى الله، أنفذهم في الحق علمًا، وأكملهم به عملًا، وأحكمُهم، أبعدُهم من الشَّك في الله تعالى، وأصوبُهم رجاء، أوثقُهم بالله، وأشدهم انتفاعًا بعلمه، أبعدُهم من الأذى، وأرضاهم في النَّاس، أفشاهم معروفًا، وأقواهم، أحسنُهم مَعُونة، وأشجَعُهم، أشَدُّهم على الشيطان، وأفْلَجُهُمْ (أغلبهم، أظهرهم) بالحُجَّة، أغلبهم للشهوة والحرص، وآخَذُهُم بالرأي، أَتْرَكُهم للهوى، وأحقهم بالمودة، أشدهم لنفسه حبا، وأجودهم، أصوبهم بالعطيَّة مَوْضعًا، وأطولُهم راحة، أحسنهم للأمور احتمالًا، وأقلهم دهشًا (تحيَّر وذهب عقلُه من وَلَهٍ أو فَزَعٍ أو حياءٍ)، أرحبهم ذراعًا (واسع القوة والبطش)، وأوسعهم غنًى، أقنعهم بما أوتي، وأخفضهم عيشًا (خفَض عيشُه: سهُل ولان وتيَّسر)، أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالًا، أَظهَرُهم حصافة (حصُف الشَّخصُ: استحكم عقلُه وجاد رأيُه)، وآمَنُهُمْ في الناس، أكَلُّهُمْ (أكثرهم) نابًا (توبة) ومِخْلَبًا (تعلقا)، وأثبتهم شهادة عليهم، أنطقهم عنهم، وأعدَلُهم فيهم، أدومُهم مسالمة لهم، وأحقهم بالنعم، أشكرهم لِما أوتي منها.
وأفضل ما يُورث الآباء الأبناء، الثناء الحسن، والأدب النافع، والإخوان الصالحون.
وفصْلُ ما بين الدِّين والرَّأي، أن الدين، يَسْلَمُ بالإيمان، وأن الرأي، يثبت بالخصومة (الجدل)، فمَن جعل الدين خُصُومةً، فقد جعل الدين رأيًا، ومن جعل الرأي دينا، فقد صار شَارِعًا، ومَن كان، هو يُشَرِّعُ لنفسه الدين، فلا دين له.
وقد يَشْتَبِه الدِّينُ والرَّأيُ في أماكنَ، لولا تشابُهُهما، لم يحتاجا إلى الفصل.
والعُجْبُ (الزُهُوّ)، آفة العقل، واللَّجَاجَةُ (التمادي)، قُعُودُ الْهَوَى، والبُخْلُ، لِقَاحُ الحِرْصِ، والمِرَاءُ، فَسَادُ اللسان، والْحَمِيَّةُ، سببُ الجهل، والأَنَفَةُ (عِزَّة وحميَّة)، توْءَمُ السَّفَهِ، والمُنافَسَةُ، أخت العداوة.
وإذا هَمَمْتَ بخير، فبادِرْ هَوَاك، لا يغلبك، وإذا هممت بِشَرٍّ، فَسَوِّفْ هَوَاك، لعلك تظفر، فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك، هو الغُنمُ.
لا يمنعنك، صِغَرُ شأن امرئ، من اجتناء، ما رأيت من رأيه صوابًا، والاصطفاء، لما رأيتَ من أخلاقه كريمًا، فإنَّ اللؤلؤة الفائقة، لا تُهان، لِهَوان غائصها، الذي استخرجها.
من أبْوَابِ التَّوَفُّق، والتَّوفِيقِ في التعلم، أن يكونَ وَجْه الرَّجُلِ، الذي يتوجه فيه، من العلم والأدب، فيما يوافق طاعة، ويكون له عنده، محملٌ وقبول، فلا يذهب، عناؤه، في غير غَنَاء، ولا تفنى أيامُه، في غير درْكٍ، ولا يستفرغ، نصيبه، فيما لا ينجَعُ فيه، ولا يكون، كرَجُلٍ أَرَادَ أن يَعْمُرَ أرضًا تَهِمَةً (الأَرض المُتَصَوبة إِلى البحر، لا ينبت فيها زرعا)، فغرسها جوزًا ولوزًا، وأرضًا جَلْسًا (الغليظ من الأَرض)، فغرسها نخلًا وموزًا.
العِلمُ، زَيْنٌ لصاحبه في الرَّخاء، ومنجاة له في الشدة.
بالأدب، تَعْمُرُ القُلوبُ، وبالعِلْمِ، تَسْتَحْكِمُ الأحلامُ، والعقلُ الذاتيُّ غيرُ الصّنِيعِ (ما صُنِع) ، كالأرضِ الطيبةِ غيرِ الخرابِ.
مما يدُلُّ، على معرفة الله، وسببُ الإيمان، أنْ يوَكَّلَ بالغَيْبِ، لكُلِّ ظَاهِرٍ من الدُّنيا، صغيرٍ أو كبير، عيْنًا (معاينةً)، فهُوَ يُصَرِّفُه ويحركه.
فمَنْ كان مُعتبرًا، بالجليل من ذلك، فلينظرْ إلى السماء، فسيعلم، أن لها ربًّا، يُجري فلكها، ويُدبر أمرها.
ومن اعتبر بالصغير، فلينظرْ، إلى حبة الخردل، فسيعرف أن لها مدبرًا، يُنبتها ويزكيها، ويقدر لها أقواتها، من الأرض والماء، يُوَقِّت لها زَمان نَبَاتِها، وزَمَان تَهَشُّمها.
ثم اجتماعُ العلماء والجهال، والمهتدين والضُّلال، على ذكر الله تعالى، وتعظيمه، واجتماع، من شَكَّ في الله تعالى، وكذب به، على الإقرار بأنهم، أنشئوا حديثًا، ومعرفتهم، أنهم لم يحدِثوا أنفسهم.
فكل ذلك، يهدي إلى الله، ويدل، على الذي كانت منه هذه الأمور، مع ما يَزيدُ ذلك، يقينًا عند المؤمنين، بأن الله حَقٌّ، ولا يقدر أحدٌ، أن يوقن أنه باطل.
وإنَّ للسُّلْطَانِ المقسط حقًّا، لا يَصْلُحُ بخَاصَّة ولا عَامَّة أمْرٌ، إلا بإرادته، فذو اللب حقيقٌ، أن يُخلص لهم النصيحة، ويبذل لهم الطاعة، ويكتم سرهم، ويُزين سيرتهم، ويذُبَّ بلسانه ويده عنهم، ويتوخى مرضاتَهم، ويكون من أمره، المؤاتاة لهم، والإيثار لأهوائهم ورأيهم، على هواه ورأيه، ويُقدر الأمور، على موافقتهم، وإن كان ذلك، له مخالفًا، وأن يكون منه الجِدُّ، في المخالفة لمن جانَبَهم، وجَهِلَ حَقَّهم، ولا يُواصل من النَّاس، إلا من لا تُبَاعد، مواصلته إياه منهم، ولا تحمله، عداوة أحد له، ولا إضرار به، على الاضطغان عليهم، ولا مواتاةُ أحدٍ، على الاستخفاف بشيء، من أمورهم، والانتقاص، لشيء من حقهم، ولا يكتُمَهم شيئًا من نصيحتهم، ولا يتثاقل، عن شيء من طَاعتِهِم، ولا يبطر، إذا أكرموه، ولا يجترئ عليهم، إذا قربوه، ولا يَطْغَى، إذا سلَّطُوُه، ولا يُلْحِف (ألَحَّ)، إذا سألهم، ولا يُدْخِلَ عليهم المؤونة (الشدة والثقل)، ولا يستثقل، ما حملوه، ولا يعتز عليهم، إذا رضوا عنه، ولا يتغيَّر لهم، إذا سخطوا عليه، وأنْ يَحْمَدَهم، على ما أصاب من خيرٍ منهم، أو من غيرهم، فإنَّه، لا يقدِرُ أحَدٌ، على أن يُصِيبَه بخير، إلا بدِفاعِ (ردٌّ ومنع) الله، عنه، بهم.
ومما يدُلُّ، على علم العالم، معرفته، ما يدرك من الأمور، وإمساكُه، عما لا يدرك، وتزيينُه نفسه بالمكارم، وظهور علمه للناس، من غير أن يظهر منه، فخر ولا عجب، ومعرفته زَمَانِهِ الذي هو فيه، وبصرُه بالناس، وأخذه بالقسط، وإرشادُه المسترشد، وحسن مُخَالقته (خَالَقَ فلانًا: عاشره بخلق حسَن) خُلَطَاءه، وتسويتُه بين قلبه ولسانه، وتحرِّيه العدل، في كُلِّ أمر، ورُحْبُ ذَرْعِهِ فيما نابه، واحتجاجه بالحجج، فيما عمل، وحسن تبصيره.
ومَنْ أراد، أن يَبْصُرَ شيئًا، من عِلْمِ الآخرة، فبالعلم الذي يعرف به ذلك، ومن أراد، أن يبصر شيئًا، من علم الدنيا، فبالأشياء، التي هي تدل عليه.
ليكن المرء سؤولًا (كَثِيرُ السُّؤَالِ)، وليكُنْ فَصُولًا بين الحق والباطل، وليكُن صَدُوقًا، ليؤمن على ما قال، وليكن، ذا عهد، ليُوفَى له بعهده، وليكن شكورًا، ليستوجب الزيادة، وليكن جوادًا، ليكونَ للخير أهلًا، وليكن رحيمًا بالمضرورين، لئلا يبتلى بالضُّر، وليكن ودودًا، لئلا يكون معدنًا لأخلاق الشيطان، وليكنْ حافظًا للسانه، مُقْبلًا على شانه، لئلا يُؤخذ بما لم يجترم، وليكُن متواضعًا، ليُفْرَح له بالخير، ولا يُحْسَد عليه، وليكن قنِعًا، لتقر عينُه بما أوتي، وليُسِرَّ للناس بالخير، لئلا يؤذيه الحسد، وليكن حَذِرًا، لئلا تَطُولَ مخافَتُه، ولا يكونن حقُودًا، لئلا يضر بنَفْسِهِ إضرارًا باقيًا، وليكن ذا حياء، لئلا يُستَذَم للعُلَمَاء، فإنَّ مخافة العالم مذمة العلماء، أشَدُّ من مخافته، عقوبة السلطان.
حياة الشيطان، ترك العلم، وروحه وجسده، الجهل، ومَعْدِنُه، في أهل الحقد والقساوة، ومَثْوَاه، في أهل الغضب، وعيشه، في المصَارَمَة (الهَجر، المقاطعة)، ورجاؤه، في الإصرار على الذنوب.
ولا ينبغي للمَرْءِ، أنْ يَعْتَدَّ (حسبه وظنَّه) بعِلْمِهِ ورَأيه، ما لم يُذاكره ذوو الألباب، ولم يجامعوه عليه، فإنه، لا يُستكمل علم الأشياء، بالعقل الفرد.
أعْدَلُ السِّيَرِ(سلوك)، أن تقيسَ الناسَ بنَفْسِك، فلا تأتي إليهم، إلا ما تَرْضَى، أن يؤتى إليك، وأنفَعُ العقل، أن تُحْسِنَ المعيشة، فيما أوتيتَ من خير، وأن لا تكترث من الشر، بما لم يصبك، ومن العلم، أن تَعْلَم أنك لا تعلم، بما لا تَعْلَم.
ومن أحسن ذوي العقول عقلًا، مَنْ أحسن تقدير أمر معاشه ومعاده، تقديرًا، لا يفسد عليه واحد منهما، نفاد (اِنْقِضَاء) الآخر، فإن أعياه ذلك، رفض الأدنى، وآثر عليه الأعظم.
والمؤمن بشَيءٍ من الأشْيَاءِ، وإنْ كان سِحْرًا، خَيْرٌ مِمَّن لا يؤمن بشيء، ولا يرجو معادًا.
لا تؤدي التوبة، أحدًا إلى النار، ولا الإصرار على الذنوب، أحدًا إلى الجنة.
ومن أفضل البر ثلاثُ خصال: الصدق في الغضب، والجود في العُسْرَة، والعفو عند المقدرة.
ورأس الذُّنوب، الكذب، هو يُؤَسِّسُها، وهو يتفقَّدُها، ويُثبِّتُها، وهو يتلوَّنُ ثلاثة ألوان: بالأمنية، والجحود، والجدَلَ.
يبدو لصاحبه بالأُمْنِيَة الكاذبة، فيما يُزين له من الشهوات، فيُشَجِّعُه عليها بأن ذلك سيخفى.
فإذا ظهر عليه، قابله بالجحود والمكابرة.
فإن أعياه ذلك، خَتَمَ بالجدل، فَخَاصَمَ عن الباطل، ووضع له الحجج، والتمس به التثبت، وكابر به الحق، حتى يكُونَ مُسَارعًا للضلالة، ومُكَابرًا بالفواحش.
ولا يثبُتُ دينُ المرء، على حالة واحدة أبدًا، ولكنه، لا يزال، إما زائدًا، وإما ناقصًا.
ومن علامات اللئيم المخادِع، أن يكون حَسَنَ القول، سيئ الفعل، بعيد الغضب، قريب الحسد، حَمُولًا للفُحْشِ، مجازيًا بالحقد، مُتكلفًا للجود، صغيرَ (قَلِيلُ، ضئيل) الْخَطَرِ، مُتوسعًا فيما ليس له، ضيقًا فيما يملك.
وإذا تخالجتْك (تجاذبتك وتنازعتك) الأمُورُ، فاسْتَقِلَّ أعظمها خطرًا، فإنْ لم يستبنْ ذلك، فأرجاها دركًا، فإن اشتبه ذلك، فأجدَرُها، أن لا يكُونَ له مرجوع، حتى تُوَلِّي فُرْصَتُهُ.
والرجال أربعة، اثنان، يختبر ما عندهما بالتجربة، واثنان قد كفيت تجربتهما.
فأمَّا اللذان، يحتاج إلى تجربتهما، فإنَّ أحدهما، بَرٌّ، كَان مع أَبرار، والآخر، فاجرٌ، كان مع فُجَّار، فإنك لا تَدْرِي، لعلَّ البرَّ منهما، إذا خالط الفُجَّار، أن يتبدل، فيصير فاجرًا، ولعل الفَاجِرَ منهما، إذا خالط الأبرار، أن يتبدل برًّا، فيتبدل البر فاجرًا، والفاجر برًّا.
وأما اللذان، قد كُفيت تجربتهما، وتبين لك، ضوء أمرهما، فإن أحدهما، فاجرٌ كان في أبرار، والآخر، بَرٌّ كان في فُجَّار.
حقٌّ على العاقل، أنْ يتخذ مرآتين، فينظر من إحداهما، في مساوئ نفسه، فيتصاغر (أظْهَرَ تَصَاغُراً: تَوَاضُعاً، أَيِ النَّظَرُ إِلىَ النَّفْسِ بِاسْتِصْغَارٍ تَوَاضُعاً) بها، ويُصْلِحُ ما استطاع منها، وينظر من الأُخْرَى، في محاسن الناس، فيحليهم بها، ويأخذ ما استطاع منها.
احذر، خُصُومة الأهل والولد، والصديق والضَّعيف، واحتججْ عليهم، بالحجج.
لا يُوقعنك بلاءٌ، تخلصت منه، في آخَر، لعلك أن لا تخلص منه.
الوَرِع لا يَخْدَع، والأريبُ (بصير بالأمور ذو دهاء وفطنة) لا يُخدع. ومن ورع الرَّجُل، أن لا يَقُولَ ما لا يَعْلَمُ، ومن الأرَبِ، أن يَتَثَبَّتَ فيما يعلم. وعمل الرجل، فيما يعلم أنه خطأٌ، هوًى، والهوى، آفةُ العفاف (الامْتِنَاعُ، الانْكِفَاءُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ وَلاَ يَجْمُلُ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً)، وتركه، العملَ، بما يعلم أنه صواب، تهاوُنٌ، والتهاون، آفةُ الدِّين، وإقدامه، على ما لا يَدْرِي، أَصَوابٌ هو، أَمْ خَطأ، جِماحٌ، والجِمَاحُ، آفة العقل.
وَقِّر من فوقك، ولِنْ لمن دُونك، وأحسِنْ مُؤاتاة (من وجهه الذي يؤتى منه) أكفائِك، وليكُن آثَرَ (آثر الشَّيءَ: فَضَّله واختاره) ذلك عندَك، مُؤاتاة الإخوان، فإنَّ ذلك، هو الذي يشهد لك، بأن إجلالك من فوقك، ليس بخضوعٍ، منك لَهمْ، وأَنَّ لينك، لمن دونك، ليس لالتماس خدمتهم.
خمسةٌ، مُفَرِّطُون، في خَمْسَة أشياء، ينَدَمُون عليها: الواهن المفرط، إذا فاته العمل، والمنقطع من إخوانه وصديقه، إذا نابتْه النوائب، والمستمكن منه عدوه، لسوء رأيه، إذا تذكر عجزه، والمفارق الزَّوجة الصالحة، إذا ابتلي بالطالحة، والجريء على الذنوب، إذا حضره الموت.
وأمورٌ لا تصلح، إلا بقرائنها، فلا ينفع العقل، بغير ورع، ولا الحفظ، بغير عقل، ولا شِدَّة البطش، بغير شدة القلب، ولا الجمالُ، بغير حلاوة، ولا الحسب، بغير أدب، ولا السرور، بغير أَمْن، ولا الغِنى، بغير جود، ولا المروءة، بغير تواضع، ولا الخفض، بغير كفاية، ولا الاجتهاد، بغير توفيق.
وأمورٌ، هُنَّ تَبَعٌ لأمور، فالمُرُوءات كلها، تبع للعقل، والرأي، تبع للتجربة، والغبطة، تبع لحسن الثناء، والسرور، تبعٌ للأمن، والقَرَابَةُ، تبع للمودة، والعمل، تبع للقَدَر، والجِدَّةُ (حداثة)، تبع للإنفاق.
أصْلُ العَقْل التثبُّت، وثَمَرتُه السَّلامة، وأصلُ الورع، القناعة، وثمرتُه الظفر، وأصل التوفيق، العمل، وثمرته النجاح.
لا يذكر الفاجرُ في العقلاء، ولا الكذوب في الأعِفّاء، ولا الخَذُولُ في الكُرَماء، ولا الكفورُ، بشيء من الخير.
لا تُؤَاخِيَنَّ خِبًا (الخبيث، الخداع)، ولا تَسْتَنْصِرَنَّ عاجزًا، ولا تسْتَعِينَنّ كَسِلًا.
إنَّ من أعظم، ما يُرَوِّحُ به المرءُ نَفْسَه، أن لا يجري لِما يَهْوَى، وليس كائنًا، ولا لِما لا يهوى، وهو لا محالة كائنٌ.
اغتنمْ من الخير، ما تعجَّلت، ومن الأهواء، ما سوَّفْت (ماطَلَت)، ومن النَّصَبِ، ما عاد عليك، ولا تفرح بالبطالة، ولا تجبُن عن العمل.
ومن استعظم (تكبَّر وسما بنفسه وافتخر) من الدنيا شيئًا، فبطَر (طغيان في النِّعمة)، واستصغر من الدنيا شيئًا، فتهاون، واحتقر من الإثم شيئًا، فاجترأ عليه، واغترَّ بعدو وإن قل، فلم يحذره، فذلك من ضيَاع العقل.
لا يستخفُّ ذو العقل بأحد، وأحق من لم يُستخف به، ثلاثة: الأتقياءُ، والولاةُ، والإخوان، فإنَّه مَن استخف بالأتقياء، أهلك دينَهُ، ومن استخف بالولاة، أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان، أفسَدَ مروءته.
ومن حَاوَلَ (أراد إدراكَها وإنجازَها) الأُمور، احتاج فيها إلى ست: الرأي، والتوفيق، والفُرصة، والأعوان، والأدبُ، والاجتهاد، وهنَّ أزواجٌ.
فالرأي والأدب، زوج، لا يكمُلُ الرأي، بغير الأدب، ولا يكمل الأدبُ، إلا بالرَّأي.
والأعوانُ والفرصة، زوج، لا ينفع الأعوان، إلا عند الفُرصة، ولا تتم الفرصة، إلا بحضور الأعوان.
والتوفيق والاجتهاد، زوج، فالاجتهاد، سبب التوفيق، وبالتوفيق، ينجح الاجتهاد.
يسلم العاقل، من عظام الذُّنوب والعيوب، بالقناعة، ومُحاسَبة النفس.
لا تجد العاقِلَ، يُحَدِّث، مَن يخاف تكذيبه، ولا يسأل، من يخاف مَنْعَهُ، ولا يَعِدُ، بما لا يجد إنجازَه، ولا يرجو، ما يُعَنَّفْ بِرجَائِه، ولا يُقْدِمُ، على ما يخاف العَجْزَ عنه.
وهو يُسَخِّي (سخِيت نفسُه عن الشَّيءِ: تركته، وتخلّت عنه) بنَفْسَه، عَمَّا يُغْبَطُ به القَوَّالون (قوال: حسن القول، كثير القول)، خروجًا من عيب التكذيب، ويُسَخِّي بنفسه، عما ينال السائلون، سلامة من مذلة المسألة، ويُسَخِّي بنفسه، عن مَحْمَدَةِ (مَا يحمد الْمَرْء بِهِ أَو عَلَيْهِ) المواعيد (ما يُقْطَع من عهد في الخير والشرّ)، براءةً من مَذَمَّة الخُلْفِ (عدم إنجاز الوعد)، ويُسَخِّي بنفسه، عن فرَحِ الرَّجَاء، خوف الإكْدَاءِ (لم يظفر بحاجته)، ويُسَخِّيه، عن مراتبِ المُقَدَّمِين، ما يَرَى من فضائح المُقَصِّرِين.
لا عَقْلَ، لمن أغفَلَه عن آخرته، ما يجدُه من لذة دُنْيَاه، وليس من العَقْلِ، أن يَحْرِمَه حظه من الدنيا، بصَرُه بزوالها.
حاز الخير، رجُلان، سعيدٌ ومَرْجُوُّ، فالسعيد الفالج (الفائز)، والمرجو مَنْ لم يَخْصَمْ، والفالج الصالح، ما دام في قيد الحياة، وتَعَرُّضِ الفِتَنِ، في مخاصمة الخصماء، من الأهواء والأعداء.
السعيد، يُرَغِّبه الله في الآخرة، حتى يقول، لا شيءَ غيرها، فإذا هَضَمَ (فَهِمَهَا) دُنياه، وزهد فيها لآخرته، لم يحرمْه الله بذلك، نصيبَه من الدُّنيا، ولم ينقصه، من سروره فيها، والشقيُّ، يرغبه الشيطانُ في الدنيا، حتى يقول: لا شيء غيرها، فيجعل الله، له النَّغيص (كدر العيش) في الدنيا التي آثر، مع الخزي، الذي يلقى بعدها.
والرجال أربعةٌ: جوادٌ، وبخيل، ومسرف، ومقتصد.
فالجواد، الذي يُوَجِّهُ نَصِيبَ آخِرتِهِ، ونصيب دنياه، جميعًا، في أمر آخرته.
والبخيل، الذي لا يُعطي واحدة منهما، نصيبها.
والمسرف، الذي يجمعهما، لدنياه.
والمقتصد، الذي يلحق بكل واحدة منهما، نصيبها.
وأغنى الناس، أكثرهم إحسانًا.
قال رجلٌ لحكيم: ما خيرُ ما يؤتى المرء؟
قال: غريزةُ عَقْلٍ.
قال: فإنْ لم يكن.
قال: فتَعَلُّمُ عِلْمٍ.
قالَ: فإنْ حُرِمَهُ.
قال: صدق اللسان.
قال: فإن حرمه.
قال: سكوت طويل.
قال: فإن حرمه.
قال: ميتة عاجلة.
ومن أشد عيوب الإنسان، خفاء عيوبه عليه، فإن، مَن خفي عليه عيبُه، خَفِيت عليه محاسنُ غيره، ومَن خفي عليه، عيبُ نَفْسِهِ ومَحَاسِنُ غيره، فلن يقلع عن عيبه الذي لا يعرف، ولن ينال، محاسنَ غيره، التي لا يُبْصِرُ أبدًا.
خُمُول الذكر، أجمل من الذِّكر الذميم.
لا يوجد الفَخُور محمودًا، ولا الغضوب مسرورًا، ولا الحُرُّ حريصًا، ولا الكريمُ حَسُودًا، ولا الشَّره غنيًا، ولا الْمَلُولُ (ذو ملل وضجر)، ذا إخوان.
خصال، يُسَرُّ بها الجاهل، كلها كائنٌ عليه وبالًا.
منها، أن يَفْخَرَ من العلم والمروءة، بما ليس عنده.
ومنها، أن يَرَى بالأخيار، من الاستهانة والجفوة، ما يُشْمِتُه بهم.
ومنها، أن يناقل (ناقضه، خالفه) عالِمًا وديعًا، منصفًا له في القول، فيشتد صوت ذلك الجاهل عليه، ثم يفلجه (نَصَرَهُ وَغَلَّبَهُ) نظراؤه من الجهال حوله، بشدة الصوت، وكثرة الضحك.
ومنها، أن تفرط منه الكلمة، أو الفِعْلة، المُعْجِبَةُ للقوم، فيُذْكَرَ بِها.
ومنها، أن يكون مجلسه في المحفل (مجلس)، وعند السلطان، فوق مجالس أهل الفضل عليه.
ومن الدَّليل، على سخافة المتكلم، أن يكُونَ ما يُرى من ضَحِكِه (انبسط وجهُه، وانفرجت شفتاه، وبدت أسنانُه، وأحدث أصواتًا مُتقطِّعة تعبيرًا عن سروره)، ليس على حسَبِ ما عنده من القول، أو الرجل، يكلم صاحبه، فيُجَاذبه الكلام، ليكونَ هو المتكلم، أو يتمنى، أن يكونَ صاحبه، قد فرغ وأنصت له، فإذا نَصَتَ له، لم يحسن الكلام.
وفضلُ (زاد على حاجته) العلم، في غير الدين، مهلكة، وكثرة الأدب، في غير رضوان الله، ومنفعة الأخيار، قائدٌ إلى النار.
والحفظ الذَّاكِي (ذَكِيّ)، الواعي، لغير العلم النافع، مضر، بالعمل الصالح، والعقل، غير الوازع (زاجر ومانع)، عن الذنوب، خازنٌ الشيطان.
لا يُؤَمننَّكَ، شَرَّ الجاهلِ، قَرَابةٌ، ولا جِوَارٌ، ولا إِلْفٌ، فإن أخوَفَ ما يكون الإنسانُ، لِحَرِيقِ النار، أقربُ ما يكون منها.
وكذلك الجاهلُ، إن جاورك، أنصَبَك (أتعبك)، وإنْ نَاسَبَكَ، جنى عليك، وإن أَلِفَك، حمل عليك، ما لا تُطيق، وإن عاشرك، آذاك وأخافك، مع أنه، عند الجوع، سبع ضار، وعند الشِّبَعِ، مَلِكٌ فَظٌّ، وعِندَ الموافقة في الدِّين، قائدٌ إلى جهنم.
فأنت بالهرَبِ منه، أَحَقُّ منك، بالهرب، من سُمِّ الأساوِدِ (حيَّة عظيمة، سوداء اللون)، والحريق المخوف، والدَّين الفادح، والداء العَياء.
قارِب عَدُوَّك بعض المقاربة، تنلْ حاجَتك، ولا تقاربْه كل المقاربة، فيجترئ عليك عدوك، وتَذِل نفسك، ويرغب عنك ناصرك.
ومَثَلُ ذلك، مثل العُود المنصوب في الشمس، إن أَمَلْتَه قليلًا، زاد ظِلُّهُ، وإنُ جاوزته الحد في إمالته، نَقَصَ الظل.
الحازم، لا يأمن عدوه على كل حال، إن كان بعيدًا، لم يأمن مغاورته (الإغارة)، وإن كان قريبًا، لم يأمن مُوَاثَبَتَهُ، وإنْ كان مُنكشفًا، لم يأمن استطراده وكمينه، وإن رآه وحيدًا، لم يأمن مكره.
الملك الحازمُ، يزدَادُ برأي الوزراء الحَزَمَة، كما يَزْدَادُ البحر، بمواده من الأنهار.
الظَفَرُ، بالحزم، والحزمُ، بإجالة (تداول وإمْعانُ) الرأي، والرأي، بتكرار النظر، وتحصين الأسرار.
وإن المُسْتَشِير، وإن كان أفضل، من المستشار رأيًا، فهُو يزداد برأيه رأيًا، كما تزدَادُ النار، بالوَدَكِ (دُهْن) ضوءًا، وعلى المستشار، موافقة المستشير، على صواب ما يرى، والرفق به، في تبصير خطأ، إن أتى به، وتقليب الرأي، فيما شكا فيه، حتى تستقيم لهما، مشاورتهما.
لا يَطْمَعَنَّ ذو الكِبْر، في حسن الثناء، ولا الخِبُّ (رَجُلٌ خِبٌّ: خَدَّاعٌ، خبيث)، في كثرة الصديق، ولا السيئ الأدب، في الشرف، ولا الشحيح، في المحمدة، ولا الحريص، في الإخوان، ولا الملك المعجب، بثبات الملك.
صرْعَةُ اللِّينِ، أشدُّ استئصالًا، من صرعة المكابرة.
أربعةُ أشياءَ، لا يُسْتَقَلُّ منها قليلٌ: النارُ، والمرضُ، والعَدُوُّ، والدَّيْن.
أحقُّ الناس بالتوقير، الملك الحليمُ، العالم بالأُمور، وفُرَصِ الأعمال، ومواضع الشدة واللين، والغضب والرضا، والمعاجلة والأناة، الناظرُ في أمر يَوْمَه وغده، وعواقب أعماله.
السبب الذي يدرك به العاجز، حاجتَه، هو الذي يَحُول بين الحازم، وبين طلبته.
إن أهل العقل والكرم، يبتغون إلى كل معروف، وصلة وسبيلًا.
والمودة بين الأخيار، سريعٌ اتصالُها، بطيءٌ انقطاعُها، ومثل ذلك، مثل كوب الذَّهب، الذي هو بطيء الانكسار، هين الإصلاح.
والمودَّة بين الأشرار، سريعٌ انقطاعها، بطيءٌ اتصالها، كالكوز من الفخار، يكسره، أدنى عبث، ثم لا وصل له أبدًا.
والكريم، يَمْنَحُ الرجل مودته، عن لقية واحدة، أو معرفة يوم، واللئيم، لا يصل أحدًا، إلا عن رغبة، أو رهبة.
وإنَّ أهل الدنيا، يتعاطون فيما بينهم، أمرين، ويتواطئون عليهما، ذات النفس، وذات اليد.
فأمَّا المتبادلون، ذات اليد، فهم المتعاونون المستمتعون، الذين يلتمس بعضهم، الانتفاع ببعض، مناجزة، ومكايلة.
وما التبع والأعوان، والصديق والحشم، إلا للمال، ولا يظهر المروءة، إلا المالُ، ولا الرأي، ولا القوة، إلا بالمال، ومن لا إخوانَ له، فلا أهل له، ومن لا أولاد له، فلا ذِكْرَ له، ومن لا عَقْل له، فلا دُنيا له ولا آخرة، ومن لا مال له، فلا شيء له.
والفقرُ، داعيةٌ إلى صاحبه، مقتَ الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومَعْدِنٌ للتهمة، ومجمعة للبلايا.
ومن نَزَلَ به الفقرُ والفاقة، لم يجد بُدًّا، من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه، ذهب سرورُهُ، ومن ذهب سروره، مُقتَ، ومن مُقت، أوذي، ومن أوذي، حزن، ومن حزن، فقد ذهب عقله، واستنكر حِفْظُه وفهمه، ومن أُصيب في عقله، وفهمه وحفظه، كان أكثر قولِهِ وعمله، فيما يكون عليه، لا له، فإذا افتقر الرجل، اتهمه، من كان له مؤتمنًا، وأساء به الظن، من كان يظن به حسنًا، فإذا أذنب غيره، ظنُّوه، وكان للتهمة، وسوء الظن موضعًا.
وليس من خَلَّة، هي للغني مدح، إلا هي للفقير عيب، فإنْ كان شُجاعًا، سُمِّيَ أهوج، وإنْ كان جوادًا، سمي مُفْسِدًا، وإن كان حليمًا، سُمي ضعيفًا، وإن كان وقورًا، سمي بليدًا، وإن كان لسِنًا (فصيحًا بليغًا)، سمي مِهْذَارًا (ثرثار، مَنْ يُكثر من الكلام الذي لا فائدة منه)، وإن كان صموتًا، سمي عَيِيًّا (أتى بكلام أو أمر لا يهتدى إليه ولا يفهم).
ومَن ابتُلي بمرض في جسده لا يفارقه، أو بفراق الأحبة والإخوان، أو بالغُربة، حيثُ لا يعرف مبيتًا ولا مقيلًا (مكان الراحة)، ولا يرجو إيابًا، أو بفاقة تضطره إلى المسألة، فالحياةُ له موتٌ، والموتُ، له راحة.
ووجدنا البلايا في الدُّنيا، إنما يسوقها إلى أهلها، الحِرْص والشَّرَه، فلا يَزَال صاحبُ الدنيا، يتقلب في بلية وتعب، لأنه، لا يزال، بخلة الحرص والشره.
وسمعتُ العُلماءَ قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا وَرَعَ كالكف، ولا حَسَب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صُبِرَ عليه، ما لا سبيل إلى تغييره، وأفضلُ البر الرَّحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأسُ العقل، المعرفةُ بما يكون، وما لا يكون، وطيب النفس، حُسنُ الانصراف، عما لا سبيل إليه، وليس من الدُّنيا سرورٌ، يَعْدِلُ صحبة الإخوان، ولا فيها غم، يعدل غم فقدهم.
ولا يتم حُسن الكلام، إلا بحسن العمل، كالمريض، الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو لم يتداوَ به، لم يُغنه عِلْمُه.
والرَّجل ذو المروءة، قد يكرَم على غير مال، كالأسد الذي يُهاب، وإن كان عَقِيرًا (مجروح)، والرجل الذي لا مروءة له، يُهان، وإن كثر مالُهُ، كالكلب، الذي يَهُونُ على الناس، وإن هو طُوِّقَ (ألْبس إِكْلِيلاً مِنَ الذَّهَبِ) وخُلْخِلَ (ألْبس حِلية) .
لِيَحْسُنْ تعاهدك نفسك، بما تكون به للخير أهلًا، فإنك إذا فعلت ذلك، أتاك الخير يطلبك، كما يطلب الماء السيل، إلى الحدورة (سيلان العين بالدمع) .
وقيل في أشياء، ليس لها ثبات ولا بقاء: ظل الغمام، وخُلَّةُ الأشرار وعشق النساء، والنبأ الكاذب، والمال الكثير.
وليس يفرح العاقل، بالمال الكثير، ولا يُحزنه قلته، ولكن ماله عقله، وما قدم من صالح عمله.
إن أولى الناس، بفضل السرور، وكرم العيش، وحُسْنِ الثَّناء، مَنْ لا يَبْرَح رحلُه، من إخوانه، وأصدقائه من الصالحين موطوءًا، ولا يزال عنده منهم، زحامٌ، ويسرهم ويسرونه، ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم، فإن الكريم، إذا عثر، لم يستقل إلا بالكرام، كالفيل، إذا وَحِلَ لم يستخرجه إلا الفِيَلَة.
لا يرى العاقل، معروفًا صَنَعَه وإن كان كثيرًا، ولو خاطر بنفسه وعرَضَهَا في وجوه المعروف، لم ير ذلك عيبًا، بل يعلم، أنما أخطر الفاني، بالباقي، واشترى العظيم، بالصغير.
وأغبطُ الناس، عند ذوي العقل، أكثرُهم سائلًا منجحًا (النَّجَاحُ: الظَّفَرُ وإدراك الغاية)، ومستجيرًا آمنًا.
لا تعُدَّ غنيًّا، من لم يشارك في ماله، ولا تَعُدَّ نعيمًا، ما كان فيه تنغيصٌ، وسوء ثناء، ولا تعد الغُنْمَ غُنْمًا، إذا ساق غُرْمًا، ولا الغُرْمَ غُرْمًا، إذا ساق غُنْمًا، ولا تَعْتَدَّ من الحياة، ما كان في فراق الأحبة.
ومن المعونة، على تسلية الهموم، وسكون النفس، لقاءُ الأخ أخاه، وإفضاءُ كل واحد منهما، إلى صاحبه بِبَثِّه (أشدُّ الحزن، أو المرض، الذي لا يصبر عليه صاحبُه، فيبُثّه)، وإذا فُرِّق بين الأليف وأليفه، فقد سلب قرَارَه، وحرم سرورُهُ.
قلَّ ما ترانا، نَخْلُفُ عَقَبةً من البلاء، إلا صرنا في أخْرَى.
لقد صدق القائلُ، الذي يقول: لا يزال الرجل مستمرًّا، ما لم يعثر، فإذا عَثَر مَرَّة واحدة، في أرض الخبار (ما لان واسترخى)، لَجَّ به العثار (الشَّرّ وَمَا عثر بِهِ)، وإن مشى في جَدَدً، لأن هذا الإنسان، موكلٌ به البلاء، فلا يزال، في تصرُّف (تصرُّفات الزَّمان: تصاريفه، نوائبه ومصائبه) وفي تقلُّب، لا يدوم له شيء، ولا يثبت معه، كما لا يدوم، لطالع النجوم طلوعه، ولا لآفلها أفوله، ولكنها، في تقلُّب وتعاقُب، فلا يزال الطالعُ، يكون آفلًا والآفل طالعًا.