هذا وقت المروءات، أو حكاية: الدَّمُ الدَّمْ، الهَدْمُ الهَدْمْ، الليالي العربية

وفي الغد، قالت لُبَابَة: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصياد، لما قال للعفريت: لو أبقيتني، كنت أبقيتك، لكن، ما أردتَ إلا قتلي، فأنا أقتلك محبوسًا، في هذا القمقم، وألقيك في هذا البحر.

فصرخ المارد وقال: بالله عليك أيها الصياد، لا تفعل، وأبقني كرمًا، ولا تؤاخذني بعملي، فإذا كنتُ أنا مسيئًا، كن أنت مُحسِنًا.

أجاب الصياد: لا بد من إلقائك في البحر، ولا سبيل، إلى إخراجك منه، فإني كنتُ أستعطفك، وأتضرَّع إليك، وأنت لا تريد إلا قتلي، من غير ذنب، استوجبتُه منك، ولا فعلتُ معك سوءًا قطُّ، ولم أفعل معك إلا خيرًا، لكوني أخرجتك من السجن، فلما فعلتَ معي ذلك، علمت أنك رديء الأصل، تقابل الجميل بالقبيح، واعلم، أنني ما رميتك في هذا البحر، إلا لأجل، أن كل مَن طلَّعك، أخبره بخبرك، وأحذِّره منك، فيرميك فيه ثانيةً، فتقيم في هذا البحر، إلى آخِر الزمان، حتى ترى، أنواع العذاب.

قال العفريت: أطلقني، فهذا وقت المروءات، وأنا أعاهدك، أني لن أسوءك أبدًا، بل أنفعك بشيء، ينفعك دائمًا.

فأخذ الصياد، عليه العهد، أنه إذا أطلَقَه، لا يؤذيه أبدًا، بل يعمل معه الجميل، فلما استوثق منه، بالأيمان والعهود، وحلَّفه باسم الله، فتح له الصياد، فتصاعد الدخان، حتى خرج وتكامل، فصار عفريتًا، مشوَّه الخلقة، ورفس القمقم، فرماه في البحر.

فلما رأى الصياد، أن العفريت، رمى القمقمَ في البحر، أيقن بالهلاك، وقال: هذه ليست علامة خير. ثم، إنه قوَّى قلبه، وقال: أيها العفريت، قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وأنت قد عاهدتني، وحلفتَ أنك لا تغدر بي، فإن غدرت بي، يُجْزِكَ الله، فإنه يمهل ولا يهمل، وأنا قلت لك، مثل ما قال الحكيم رَويَان، للملك فامان: أبقني، يبقك الله.

فضحك العفريت، ومشى أمامه، وقال: أيها الصياد، اتبعني.

فتبعه الصياد، وهو مرعوب، لا يصدق بالنجاة، وطلعا على جبل، ونزلا إلى بَرِّيَّةٍ متسعة، وإذ في وسطها بركة ماء، بين أربعة جبال، فوقف العفريت عليها، وأمر الصياد، أن يطرح الشبكة ويصطاد.

فنظر الصياد، إلى البركة، وإذا فيها، السمك ألوانًا: الأبيض، والأحمر، والأزرق، والأصفر، فتعجَّبَ من ذلك، ثم، إنه طرح شبكته، وجذبها، فوجد فيها، أربع سمكات، كل سمكة بلون، فلما رآها الصياد، فرح، وقال له العفريت: ادخل بها إلى السلطان، وقدِّمها إليه، فإنه يعطيك ما يغنيك، وبالله، اقبل عذري، فإنني في هذا الوقت، لم أعرف طريقًا، وأنا في هذا البحر، مدة ألف وثمانمائة عام، ما رأيت ظاهر الدنيا، إلا في هذه الساعة، ولا تصطد منها كلَّ يوم، إلا مرة واحدة، واستودعتك الله، ثم، دَقَّ الأرض بقدمَيْه، فانشقَّتْ وابتلعته.

ومضى الصياد إلى المدينة، وهو متعجِّب ممَّا جرى له، مع هذا العفريت، وقصد قصر الملك، وقدَّمَ له السمك، فنظر إليهم الملك، وتعجَّبَ غاية العجب، وقال لوزيره: أعطيه للطباخة، التي أهداها لنا، ملك الروم.

فأخذهم الوزير، ودفعهم للجارية، وقال: اشْوِهم، اليومَ يوم طهيك، وحسن طبيخك.

ثم رجع الوزير، بعدما أوصاها، فأمره الملك، أن يعطي الصياد، أربعمائة دينار، فأخذهم الصياد، وتوجَّهَ إلى منزله، وهو فرحان مسرور، واشترى لعائلته، ما يحتاجون إليه.

فهذا ما كان، من أمر الصياد، وأما ما كان، من أمر الجارية، فإنها أخذت السمك، فنحتت قشره، وشقت جوفه، وغسلته غسلا جيدا، ثم نشفته من الماء، ونثرت عليه، شيئا من الكزبرة الناعمة، والقرفة الناعمة، والكمُّون الناعم، والمستكة المسحوقة ناعمًا، وعجنته بزيت السمسم الطري، وطلته بزيت السمسم، وبالزعفران المداف بماء الورد، باطنه وظاهره، وحشت جوفه، بجوز مدقوق، مخلوط، مع الثوم، والزعتر اليابس، والسماق، وربطته بخيوط كتان، وجعلته في سيخ حديد، وحطته على التنور، على نار هادئة، غير ملتهبة.

ثم، إنها تركت السمك، حتى استوى وجهه، وقلبته على الوجه الثاني، وإذا بحائط المطبخ، قد انشقّ، وخرجت صبية، رشيقة القد، أسيلة الخد (أسل الخد: ملس، واستوى، ولان)، كاملة الوصف، كحيلة الطرف (من العيون: التي جعل فيها الكحل)، لابسة جلباب أطلسي (الأطلَسُ: نسيج من حرير) مطرز بنوار (زهور) مصري، في أذنيها حلق، وفي زنودها (موصل طرف الذراع في الكتف) أساور، وفي يدها قضيب من الخيزران، فغرزت القضيب في السمك، وقالت بلسان فصيح: الدَّمُ الدَّمْ، الهَدْمُ الهَدْمْ.

فلما رأت الجارية هذا، غشي عليها، وقد أعادت الصبية القول، ثانيًا وثالثًا، فرفع السمك رأسه، وقال: حَيْصٍ بَيْصٍ (ضيق وشدة)، حَيْصٍ بَيْصٍ.

فعند ذلك، قلبت الصبية السمك، وخرجت من الموضع، الذي دخلت منه، والتحم حائط المطبخ.

وأفاقت الجارية، فرأت الأربع سمكات، محروقة، مثل الفحم الأسود، فخافت، وحزنت وقالت: أوَّلُ الْغَزْوِ، أخْرَقُ (يضرب، في قلة التجارب). فبينما هي تعاتب نفسها، وإذا بالوزير، على رأسها، وقال: هاتي السمك.

فبكت الجارية، وأعلمت الوزير بالحال، وبالذي جرى، فتعجَّبَ الوزير من ذلك، وقال: ما هذا، إلا أمر عجيب.

وأرسل الوزير، إلى الصياد، فأتوا به إليه، فقال: أيها الصياد، لا بد أن تأتي لنا، بأربع سمكات، مثل التي أتيت بها، أولًا.

فخرج الصياد إلى البركة، وطرح شبكته، وجذبها، وإذا بأربع سمكات، فأخذها، وجاء بها إلى الوزير، فدخل بها الوزير، إلى الجارية، وقال: اشْوِهم أمامي، حتى أرى، هذه القضية.

فقامت الجارية، وأصلحَتِ السمكَ، ووضعته على النار، فما استقر إلا قليلًا، وإذا بالحائط قد انشقَّ، والصبية قد ظهرت، وهي لابسة ملبسها، وفي يدها القضيب، فغرزته في السمك، وقالت: الدَّمُ الدَّمْ، الهَدْمُ الهَدْمْ.

فرفع السمك رأسه، وقال: حَيْصٍ بَيْصٍ، حَيْصٍ بَيْصٍ.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت، وفي الغد قالت: بلغني، أيها الملك السعيد، أنه، لما تكلَّمَ السمك، قلبته الصبية، بالقضيب، وخرجت من الموضع الذي جاءت منه، والتحم الحائط، فعند ذلك، قام الوزير وقال: هذا أمر، لا يمكن إخفاؤه، عن الملك.

ثم، إن الوزير، تقدَّمَ إلى الملك، وأخبره بما جرى، فقال الملك: لا بد أن أنظر، بعيني.

وأرسل الملك إلى الصياد، وأمره، أن يأتي بأربع سمكات، مثل الأولى، وأمهله، ثلاثة أيام، فذهب الصياد إلى البركة، وأتاه بالسمك، في الحال، فأمر الملك، أن يعطى أربعمائة دينار، ثم التفت إلى الوزير، وقال: اشْوِ أنت السمكَ، ها هنا أمامي.

فقال الوزير: سمعًا وطاعة، وأصلح السمك، ووضعه على النار، وإذا بالحائط قد انشقَّ، وخرج عبد أسود، كأنه طود (الجبلُ العظيم، الذاهبُ صُعُداً في الجوِّ) من الاطواد، أو من بقية قوم عاد، وفي يده، فرع من شجرة خضراء، وقال بكلام فصيح: الدَّمُ الدَّمْ، الهَدْمُ الهَدْمْ.

فرفع السمك رأسه، وقال: حَيْصٍ بَيْصٍ، حَيْصٍ بَيْصٍ.

ثم، أقبل العبد، على السمك، وقلبه، إلى أن صار، فحمًا أسود، ثم، ذهب العبد، من حيث أتى، فذُهل الملك، وقال: لا يمكنني الرقاد (النَوْم)، دون أن أَبَانَ، هذا الامر، إن هذا السمك له شأن غريب.

وأمر الملك، بإحضار الصياد، فلما حضر، قال له: من أين هذا السمك؟

أجاب الصياد: من بركة، بين أربعة جبال، وراء هذا الجبل، الذي بظاهر مدينتك.

فقال الملك، للوزير: أأنت على علم بها؟

أجاب الوزير: لي ثلاثين سنة، وانا اصطاد، واخرج الى البراري والجبال، فما رأيتها.

فالتفت الملك إلى الصياد، وقال: وكم تبعد، هذه البركة؟

قال الصياد: مسيرة ساعتين.

فتعجَّبَ الملك، وأمر بخروج العسكر، حالا مع الصياد، فصار الصياد، يلعن العفريت، وساروا إلى أن طلعوا الجبل، ونزلوا منه إلى بَرِّيَّةٍ متسعة، لم يروها مدةَ أعمارهم، والملك وجميع العسكر، يتعجبون، من تلك البَرِّيَّةِ، التي نظروها بين أربعة جبال، وفيها بركة، والسمك فيها، على أربعة ألوان: أحمر، وأبيض، وأصفر، وأزرق، فوقف الملك متعجبًا، وقال للعسكر، ولمَن حضر: هل أحد منكم، رأى هذه البركة، في هذا المكان؟

فقالوا كلهم: لا.

فقال الملك: واللهِ، لا أدخل مدينتي، ولا أجلس على تخت ملكي، حتى أعرف، حقيقة هذه البركة، وسمكها.

ثم، أمر بالنزول، ثم، دعا بالوزير، وكان وزيرًا خبيرًا، عاقلًا لبيبًا، عالمًا بالأمور، فلما حضر بين يدَيْه، قال الملك: إني أردتُ، شيئًا، أن أنفرد، وأبحث عن خبر هذه البركة، وسمكها، فاجلس على باب خيمتي، وقُلْ للأمراء، والوزراء والحجاب، إن السلطان، أمرني، أنْ لا آذَن لأحد، في الدخول عليه، ولا تُعلِمْ أحدًا، بقصدي.

قال الوزير: السمع والطاعة.

ثم، إن الملك، تقلَّدَ سيفه، وانسلَّ من بينهم، ومشى بقية ليله، إلى الصباح، فلم يزل سائرًا، حتى اشتد عليه الحر، فاستراح، ثم، مشى بقيةَ يومه، وليلته الثانية، إلى الصباح، فلاحَ له سوادٌ من بُعْد، ففرح وقال: لَعَلِّي، أجد مَن يخبرني، بقضية البركة، وسمكها.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث المباح.