فلربّ شهوة ساعةٍ، أو حكاية: عجيب، ابن ملك البجا، الليالي العربية

وفي الغد، قالت لُبَابَة: بلغني، أيها الملك السعيد، أن الغريب الثالث، علم أنه دوره في الكلام، فتقدَّمَ، ووجه خطابه، مثل الآخرين، إلى زبيدة، وبدأ قصته، كما يلي:

أيتها السيدة الجَديرة بالاحْتِرام، أنا أدعى عجيب، ابن ملك البجا، الملك خصيب، وكان والدي، عظيم الشأن، قوي السلطان، ومات، واستحوذت على العرش من بعده، وشَيّدت مقر إقامتي، في نفس المدينة، التي كان جعل والدي، عاصمته.

والمدينة، تقع على ساحل البحر، ولها ميناء حَسَن آمن، واسع بما يكفي، لتجهيز خمسين سفينة تجارية، والعديد من زوارق الاستِجمام، وترسانة، كافية لتسليح، مئة وخمسين سفينة حرب، راقدة مستعدة، للخدمة.

وتألفت مملكتي، من العديد من المقاطعات الجميلة، وعدد من الجزر الكبيرة على مقربة من عاصمتي، وأول شيء فعلته، هو دخول المقاطعات، ومن ثم، جهزت أسطولي، وجلت الجزر، وحكمت وعدلت، وأحسنت للرعية، وتأكدت من ولائها، وتحققت واجبها.

وهذه الرحلات، منحتني معرفة طفيفة بالملاحة، والبحر متسع، فأردت الاستكشاف، ولهذا، قمت بتجهيز عشر سفن، وانطلقت مرة أخرى، وأبحرنا.

وسافرنا أربعين يومًا، في أمان، ما بها لساكنيها، مفزعة، وفي الليلة الحادي والأربعين، هبَّتْ علينا رياح عنيفة، ذٰلِكَ، أنها كانت تدفعنا، فكنا تحت رحمة العاصفة، وتلاطمت الامواج، واعتقدنا، انا كدنا نهلك، ولا زالت، إلى أن لاح الفجر، فهدأت الرياح، وخفّت العاصفة، وتفرقت الغيوم، وسكن البحر، وأشرقت الشمس.

وَصُروفُ الدَهرِ في إطباقِها
خلقَةٌ فيها إرتِفاعٌ وَانحِدارُ
وإِنَّما نِعمَةُ دُنيا مُتعَةٌ
وَحياةُ المَرءِ ثَوبٌ مُستَعارُ

ثم، إنا أشرفنا على جزيرة، وطلعنا البر، حيث بقينا يومين، لجمع المؤن، وبعد أن فعلنا ذلك، أبحرنا مرة أخرى، وسافرنا عشرين يومًا، فاختلفَتْ علينا المياه، فأملنا أن نرى يابِسَة، فقلنا للناظور: انظر البحر، بتأمُّل.

فطلع الناظور الصَّارِي (عَمُودٌ يُرَكَّزُ فِي وَسَطِ السَّفِينَةِ، يُشَدُّ عَلَيْهِ الشِّرَاعُ)، ونظر، ثم نزل ذلك الناظور، وقال: إلى اليمين واليسار، لم أستطع نظر، سوى السماء والبحر، ونظرت أمامي، فرأيت سمكًا، على وجه الماء، ونظرت إلى وسط البحر، فرأيت سوادًا من بعيدٍ، يلوح تارةً أسوداً، وتارةً أبيضاً.

فلما سمع القبطان، كلام الناظور، ضرب سطح السفينة بعمامته، ولم يطل، وأشار: حسنا سيدي، نحن هالكون! لن يسلم منَّا أحد، من الخطر الذي يهددنا، ألا أن خبرتي، قد انتهت!

قلنا: أيها القبطان، اشرح لنا، القصة!

قال القبطان: يا سيدي، اعلم أننا تهنا، يوم هاجت علينا الرياح، ولم نَزَلْ تائهين، منذ تلك الليلة، وليس لنا، ريح يُرجِعنا، وفي غدٍ، نصل إلى جبل من حجر أسود، يُسمَّى حجر المغناطيس، وتجرُّنا المياه، غصبًا إلى جهته، فتتمزَّق المركب، لأن الله، وضع في حجر المغناطيس سرًّا، وهو، أن جميع الحديد، يذهب إليه.

وتابع القبطان: ويا سيدي، هذا الجبل، شديد الانحدار، وعلى قمته، توجد قبة كبيرة، مصنوعة من النحاس الأصفر الاندلسي، معقودة على عشرة أعمدة، وفوق القبة، فارس على فرس من نحاس، معلَّق في صدر الفارس، لوح من رصاص، منقوش عليه، أسماء وطلاسم، وما الخلاص، إلا إذا وقع هذا الفارس، من فوق تلك الفرس.

وبدأ كلّ يفكر، في الوسائل الممكنة، للنجاة، ووصى كل منا صاحبه، احتمالا، أن يسلم.

وكَم يَكونُ الشِتاءُ ثُمَّ المَصيفُ
وَرَبيعٌ يَمضي وَيَأتي الخَريفُ
وَاِنتِقالٌ مِنَ الحَرورِ إِلى الظِل
لِ وَسَهمُ الرَدى عَلَيكَ مُنيفُ
يا عَليلَ البَقاءِ في هَذِهِ الدُن
يا إِلى كَم يَغُرُّكَ التَسويفُ (الْمُمَاطَلَةِ فِي أَدَاءِ دَيْنٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ)

ولم ننم تلك الليلة، فلما كان الصباح، قربنا من ذلك الجبل، الذي تراءى لنا، أكثر رعباً ووعورة، مما كان عليه، بسبب الفكرة، التي ركبناها عنه.

وعند الظهيرة تقريبا، وجدنا أنفسنا، بالقرب منه، لدرجة أننا بدأنا اختبار، ما أَنْبَأْنَا به القبطان: انفتحت، وفرَّتِ المسامير، وكل قطعة حديد، طلبت الجبل، واصطدمت، بضوضاء مروعة، وآخر النهار، تفسخت المراكب، فمنَّا مَن غرق، ومنَّا مَن سلم، ولكن، أكثرنا غرق، والذين سلموا، لم يعلموا، ببعضهم بعضا.

وأما أنا يا سيدتي، فطلعت، وتشبثت بلوح من الألواح، دفعته الرياح، إلى سفح الجبل، فنجَّاني الله تعالى، ولم أتعرض، لأذى. وكان من حسن حظي، أن أصبْتُ طريقًا، متطرقًا إلى أعلاه، على هيئة سلالم، منقورة في الجبل، ولم يكن عن يمينها أو يسارها، أدنى أرض، بإمكاني، أن أضع قدمي، عليها.

ثم، إني سميت الله، وطلعت الجبل، قليلا قليلا، وكان الطريق ضيقًا، شديد الانحدار، صعبا، ولو كانت الرياح شديدة، لأطاحتني في البحر. وأخيرًا، وصلت إلى القمة سالمًا، دون أي حادث، ولم يكن لي إلا القبة، فدخلتها، وسجدت شكرًا لله على سلامتي، ثم، إني نمتُ.

وعندما استيقظت، وجدت قوسًا من نحاس، وثلاثة أسهم من رصاص، منقوشًا عليها طلاسم، فأخذت القوس والنشابات، ورميت الفارس الذي على القبة، فوقع الفارس، مع السهم الثالث، في البحر، فهاج البحر وعلا، حتى ساوى الجبل، الذي أنا عليه، وكنت أعرف العوم، فعمت ذلك اليوم إلى الليل، حتى كَلَّتْ سواعدي، وتعبت أكتافي، واستسلمت إلى الغرق، فهبت رياح عظيمة، وهاج البحر، وجاءت موجة عظيمة كالجبل، فحملتني وقذفتني قذفةً، صرت بها، فوق البر، فطلعت البر، وعصرت ثيابي، ونشفتها على الأرض، وبِتُّ.

فلما أصبحت، وبمجرد، أن جففت الشمس ثيابي، ارتديتها، وبدأت أتجول على الشاطئ، محاولًا اكتشاف، اين انا، فوجدت ملاذي، جزيرة صغيرة، تحتوي على أنواع عديدة، من أشجار الفاكهة، والبحر محيط بها، فقلت: لا حول ولا قوّة، الاّ بالله، العليّ العظيم.

هَل تَرَى النِّعْمَةَ دَامَتْ
لِصَغيرٍ أَوْ كَبيرِ
أَوْ تَرَى أَمْرَيْنِ جَاءَا
أَوَّلاً مِثْلَ أَخيرِ
إِنَّما تَجْرِي التَصَاري
فُ بِتَقليبِ الأُمُورِ
فَفَقيرٌ مِن غَنِيٍّ
وَغَنِيٌّ مِن فَقيرِ

بعد ذلك بوقت قصير، نظرت من بعيد مركبًا، فيه ناس، بَدَا، وكأنه قاصدا الجزيرة، التي كنت فيها، ولأنني، لم أكن أعرف، أي نوع من الأشخاص، قد يكونون، أأصدقاء، أم أعداء، قررت، عدم إظهار نفسي، وقمتُ، وصعدت على شجرة كثيفة الأوراق، حيث، يمكنني فحص الوافدين الجدد، بأمان، وتسترت، بورقها.

وإذا بالمركب، قد قرب البر، وطلع منه عشرة عبيد، في أيديهم مجارف، وأدوات أخرى، لحفر الأرض، فمشوا حتى وصلوا إلى وسط الجزيرة، حيث رأيتهم توقفوا، وحفروا الأرض، وكشفوا عن طابق خفي، وفتحوا بابه، وعادوا فورا إلى المركب، ونقلوا منه، خبزًا ودقيقًا، وسمنًا وعسلًا وأغنامًا، وجميع ما يحتاج إليه الساكن، وصار العبيد، متردِّدين بين المركب، وباب الطابق، إلى أن نقلوا، جميعَ ما في المركب.

ورأيتهم، يذهبون مرة أخرى، إلى المركب، ويعودون، وفي وسطهم شيخ كبير، و

سَلني أُنَبِّئكَ بِآياتِ الكِبَر
نَومُ العِشاءِ وَسُعالٌ بِالسَحَرْ (قبيل الفجر)
وَقِلَّةُ النَومِ إِذا اللَيلُ اِعتَكَرْ (اشتد سواده)
وَقِلَّةُ الطُعمِ إِذا الزادُ حَضَرْ
وَسُرعَةُ الطَرفِ (أطبق أحد الجَفْنَين على الآخر) وَتَحميجُ (فتح عينيه وحدد النظر) النَظَرْ
وَتَركُكَ الحَسناءَ من قبل الظهرْ (قبل أَن تظهر)
وَحَذَرًا أزْدَادُهُ إلى حَذَرْ
وَالناسُ يَبلَونَ كَما يَبلى الشَجَر

وبين يدي الشيخ، شاب، قد أُفرِغ في قالب الجمال، وأُلبِس من الحُسْن، حلةَ الكمال، حتى إنه، يُضرَب بحسنه الأمثال، وهو كالقضيب الرطب، يسحر كلَّ قلب بجماله، ويسلب كل لب، بكماله، فلم يزالوا يا سيدتي، سائرين، حتى أتوا الطابق، ونزلوا فيه، وعندما خرجوا، ردوا التراب كما كان، وعادوا إلى حيث يقع مركبهم، وسافروا في المركب، ولاحظت، أن الشاب، لم يكن معهم، وخلصت، إلى أنهم تركوه، في المسكن، الذي تحت الارض.

عندما وجدت السفينة بعيدة، لدرجة، أن الطاقم، لن يتمكن من إبصاري، قمتُ ونزلت من فوق الشجرة، ومشيت إلى المكان، الذي رأيت فيه الرجال، يحفرون الأرض، ونبشتُ الترابَ ونقلته، وصبَّرت نفسي، حتى أزلتُ جميعَ التراب، فانكشف الطابق، وفتحت بابه، فإذا هو خشب، مقدار حجر الطاحون، فبانَ من تحته، سلم معقود من حجر، ونزلت في السلم، حتى انتهيت إلى آخره، فوجدت بنياناً نظيفاً، مفروشا بأنواع الفرش، والبسط والحرير، والصبي جالس، على مرتبة عالية، متكئ على مخدة، وفي يده مروحة، وين يديه فاكهة، ومشموم (كُلُّ مَا يُدْرَكُ بِالشَّمِّ) ورياحين (كل نبات طيب الرائحة)، وهو وحده، في البيت المذكور.

فلما رآني الشاب، دهش وتغير لونه، فقلت عند دخولي، لتثبيته: أيا كنت، لا تخف شيئًا. ملكٌ، وابن ملك، ليس لدي أي نية، لأذيتك، بلّ، على العكس، فما قصتك، وما حكايتك، حتى سكنت تحت الأرض؟

شجع هذا الخطاب الشاب، وطلب مني، الجلوس بقربه، وبمجرد أن امتثلت لدعوته، قال: أيها الأمير، والدي صائغ، ومن خلال صنعته ومهارته، جمع ثروة كبيرة، وله تجار، يسافرون له في المراكب، بالتجارات، وله معاملات، مع الملوك.

وكان قد تزوج والدي، لفترة طويلة، دون أن ينجب، أية أطفال، وبعد ذلك، أبلغته والدتي أنها حبلى، وعلى وشك منحه وريثًا، فأرَّخ والدي تاريخ حبلها، وانقضت أياما، فولدتني والدتي، ففرح والدي، وأولم الولائم، وأطعم الفقراء والمساكين، لكونه رزقني في آخر عمره، ثم، انه رباني، وأحسن تربيتي.

ومن عشرة أيام، جاء ابي خبرٌ، ان فارسا من نحاس، وقع في بحر الهلكات، فاستشار المنجمين، فقالوا له: ولدك، عليه مخاطر، ويموت بعد خمسين يوماً، وان سلم منها، عاش زماناً طويلا.

فاغتم ابي، غما شديدا، وخاف عليَّ من الموت، وصار مثل المجنون، فبنى لي، هذا البيت تحت الأرض، ونقل اليه، ما احتاج اليه، وقد مضت من الخمسين يوماً، عشرة أيام، وبقي عليّ من القطوع، أربعون يوم، فنقلني الى هذا المكان، ووعد، عند انتهاء ذلك الوقت، أن يرجع ويأخذني، وهذا كله، خوفا علي، وهذه قصتي، وسبب وحدتي، وعزلتي.

فلما سمعت قصته، قلت في نفسي:

خَوَّفني مُنَجِّمٌ أَخو خَبَل
تَراجُعَ المَريخ في بُرجِ الحَمَل
فَقُلتُ دَعني مِن أَكاذيبِ الحِيَل
فالمُشتَري عِندي سَواءٌ وَزُحَل
أَدفَعُ عَنّي كُلَّ آفاتِ الدُوَل
بِخالِقي وَرازِقي عزَّ وَجَل

ثم، قلت للشاب: كُفيت الردى، ووقيت الأذى، ضع ثقتك في الله، ولا تخف شيئًا. وجلست احدثه الى الليل، فقمت واوقدت شمعة كبيرة، واشعلت القناديل، وجلسنا، بعد ان مددنا شيئا من الأكل، فأكلنا، وقمت مددت شيئاً من الحلوى، فتحلينا، وجلسنا نحدث بعضنا، حتى ذهب من الليل، أكثره، فنام، فغطيته، وقمت انا، فنمت.

فلما أصبحنا، أكلنا، ثم اكلنا شيئاً من الحلوى، ولعبنا، الى الليل، فقمت اوقدت المصابيح، وقدمت شيئاً من الأكل، وقعدت احدثه، الى ان بقي شي قليل من الليل، فنام، وغطيته، ونمت.

ولم ازل يا سيدتي، اياماً وليالٍ، فلما كان يوم، جاء الصبي، واختار بطيخة، وقام على عجل، واخذ سكينا، ومسكها من نصلها، ورجع الى الخلف، فعثرت رجله، وتبطش، فانغرزت السكين في قلب الصبي، فمات من ساعته.

واهٍ يا سيدتي، قد انكسر خاطري، واشير اليه، ولا لي لسان، انطق به، وقمت، وخرجت من السلم، ورددت التراب، موضعه.

ومع انتهاء الأربعين يوماً، نظرت الى البحر، فرأيت مركبا يشقه، طالبا البر، فخفت وقلت: الساعة يصلون، ويصيبون ولدهم مقتولا، فيجدون أني قاتله، ولن يقتنعوا أبدًا ببراءتي، فيقتلوني، لا محالة.

فعمدت الى شجرة عالية، وطلعتها، واستترت بأوراقها، فما استقررت فوق الشجرة، الا وقد خرج العبيد، وطلع معهم الشيخ الكبير، ابو الصبي، وجاءوا الى موضع المسكن، وازالوا التراب، ووجدوا الصبي، والسكين، مغروزة في صدره، وعند هذا المشهد، صرخوا صرخات مرة، وكئيبة!

هل هذا صحيح!؟ انا الذي عملت، هذا كله، لقد بحثت عن مصيبتي، وجلبت قرار نفسي، والهم لقلبي، كما قال الشاعر:

يهذي المنّجمُ في أحكامه أبداً
ومَن يصدِّقهُ في الحكم يُشبههُ

قالها الشيخ، وبكى، ومن ثم، غشي عليه، فوضعه العبيد، عند سفح الشجرة، التي كنت فيها.

هذا كله، وانا في الشجرة فوق رؤوسهم، انظر ما يجري، وقد شاب قلبي، قبل ان يشيب رأسي، بما قاسيت من الهموم والاحزان، وانشدت أقول:

وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ
فَفَرَّجَ كُرْبَة القَلْبِ الشَجيِّ
وَكَم أَمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحاً
وَتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشيِّ
إِذا ضاقَت بِكَ الأَحوالُ يَوماً
فَثِق بِالواحِدِ الفَردِ العَلِيِّ
وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ
يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ
وَلا تَجزَع إِذا ما نابَ خَطبٌ
فَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيِّ

فيا سيدتي، لم يزل الشيخ، في غشوته، الى ان قرب الغروب، ثم، استفاق ونظر الى ولده، وانشد:

ما كان أحسننا والدار تجمعنا
ونحن في غبطة والعيش متصلُ
القلب من فرقة الاحباب منصدع
وان دمعي من الآماق ينهملُ
فليتني ما كنت انظرهم ابدا
ما حيلتي سادتي ضاقت بي السبلُ
انشدته ولسان الحال يسبقني
يا ليت يا ولدي لم يأتك الاجلُ
ابوك اضحى به شوقٌ اليك وإذ
حل الممات بكم ضاقت بي الحيلُ
كيف السبيل الى لقياك من عجل
نفديك يا ولدي بالروح لو قبلوا

ثم، ان العبيد، دفنوا الصبي، وذهبوا الى المركب، وطلع الشيخ خلفهم، وأرخوا قلع (شراع) المركب، فغابوا عن عيني. ونزلت من فوق الشجرة، وكنت في النهار، اطوف في الجزيرة وبالليل، انزل الى القاعة، واقمت على ذلك، شهرا.

وبعد تلك المدة، وانا انظر الى طرف الجزيرة، التي من ناحية الغرب، لمست، أن الجزيرة تبدو أكبر، وأدركت، أن البحر انحجب، فقمت وخضت ما بقي من البحر، وخرجت، الى البر الأصيل.

ومشيت على الرمال، حتى وصلت إلى أرض أكثر صلابة، والبحر، على مسافة كبيرة خلفي، وإذا انا، بنار تلوح من بعيد، وهي تشتعل اشتعالا قويا، ففرحت كثيرا، وقلت: لابد أن لهذه النار، من أوقدها، فلعلي، أجد عندها، فرجا.

ثم، إني قصدت النار، فلما قربت اليها، رأيت قصراً مصفحاً، بالنحاس الأحمر، فلما اشرقت عليه الشمس، اضاء، وصار يرى من بعيد، كأنه نارا، فجلست لأريح نفسي، فلم يستقرّ بي الجلوس، حتى اقبل عشرة شباب، لابسين الاثواب المفتخرة، ومعهم شيخ كبير، الا ان الشباب، عور، بالعين اليمنى.

لقد تعجبت من التقاء، في وقت واحد، بالعديد من الأشخاص العور، واتفاقهم في عورهم، فلما رأوني، وكنت أتكهن، لأي غرض، أو بأي حادث، اجتمعوا، سلموا عليّ، وسألوني عن حالي، وقصتي.

فحكيت لهم، ما جرى لي، منذ اللحظة، التي غادرت فيها مملكتي، حتى الحاضر. عندما أنهيت قصتي، ناشدوني، أن آتي القصر معهم، فقبلت، فأخذوني وأدخلوني إلى القصر، وبعد المرور عبر مجموعة من الصالات والغرف، كلها مفروشة، بشكل جيد، جئنا إلى غرفة كبيرة، حيث كان، عشرة تخوت، موضوعة في دائرة، وكل تخت، فراشه ولحافه ازرق، وفي وسط تلك التخوت، تخت صغير، أقل ارتفاعا، وهو مثلها، كل ما عليه، ازرق.

فلما دخلنا، قام الشيخ، الى ذلك التخت الصغير، الذي في وسط التخوت، وصعد كل شاب تخته، وقال لي أحد الشبان: يا رجل، اجلس على السجادة، في وسط هذه الغرفة، وكن راضياً، ولا تسعى إلى التطَفّل، ولا تسأل عن احوالنا، ولا عن عور اعيننا.

ولم يبق الرجل العجوز، جالسا طويلا، فقام وخرج، وسرعان ما عاد، حاملاً معه، لكل واحد طعاماً في اناء، وشراباً في اناء، وقدم لي كذلك، فأكلت وأكلوا، ثم بعد ذلك، جلسنا نتحدث، الى ان ذهب أكثر الليل، فقال الشباب: ايها الشيخ، قد حان الوقت.

فقام الشيخ، ودخل الى مخدع (حَجَرَةٌ صَغيرَةٌ دَاخِلَ الغُرْفَةِ الكَبِيرَةِ) في القصر، وغاب وعاد، وعلى رأسه عشرة أطباق، كل واحد، مغطى بغطاء ازرق، فقدم لكل شاب طبقاً، ثم، اوقد عشر شموع، وغرز على كل طبق شمعة، ثم، كشف الاغطية، فبان من تحتها، في الاطباق، رماد، ودقّ فحم، وسواد القدر.

فشمر الجميع عن سواعدهم، وبكوا، وانتحبوا، وسخموا (سَوَّدوا) وجوههم بالسواد، والرماد الذي في الاطباق، وخبطوا (ضربوا) اثوابهم، ولطموا وجوههم، ودقوا على صدورهم، وصاروا يقولون:

فتجنَّبْ الشهوات واحذر
أن تكونَ لها قتيلا
فلربّ شهوة ساعةٍ
قد أورثَتْ حُزناً طويلا

ولم يزالوا على مثل هذا، الى قرب الصباح، فقام الشيخ، وسخن لهم ماء، فقام الشباب، وتغسلوا، ولبسوا اثواباً، غير أثوابهم.

فلما رأيت ذلك يا سيدتي، ذهل عقلي، وحار فكري، واشتغل سري، ونسيت ما جرى لي، ولم أستطع السكوت، دون أنى كلمتهم، وسألتهم، وقلت لهم: اي شيء اوجب هذا، وأنتم بحمد الله تعالى، فيكم عقل تام، وهذه الأفعال، لا يفعلها، غير المجانين، فأسألكم، بأعز الاشياء عليكم، الا ما قلتم لي خبركم، وسبب قلع اعينكم، وسخامة وجوهكم بالرماد والسواد.

فالتفتوا، وقالوا لي: يا فتى، لا يغرَّك شبابك، واعدل، عن سؤالك.

ثم، قاموا، وقمت معهم، وفي قلبي لهيب، ونار لا تطفئ، من انشغالي بفعلهم، وقدم الشيخ، شيئاً من المأكول، وبعد ما اكلنا ورفعت الاواني، جلسوا يتحدثون، الى ان اقبل الليل، فقام الشيخ، واوقد الشموع والقناديل، وقدم لنا الاكل والشرب، فلما فرغنا، قعدنا للمحادثة والمنادمة، الى نصف الليل، فقال الشباب للشيخ: ايها الشيخ، قد حان الوقت.

فقام الشيخ، واتى بالأطباق، وفيها الرمل الاسود، ففعلوا مثل ما فعلوا، اول ليلة وانا قاعد عندهم، على هذا الحال، مدة شهر، وهم كل ليلة، يسخمون وجوههم بالرماد، ثم يغسلونها، ويغيرون اثوابهم، وانا اتعجب من ذلك، وازداد وسواسي، بحيث إني امتنعت من الاكل والشرب، فقلت لهم: ايها الفتيان، ان لم تزيلوا همي، وتخبروني عن سبب تسخيم وجوهكم، تركتكم.

قالوا: كتمان سرنا، أصلح.

فبقيت متحيرا في امرهم، وانا امتنع من الاكل والشرب، فقلت لهم: لا بد ان تخبروني، ما سبب ذلك.

قالوا: يا فتى، ما كتمنا هذا عنك، الا لإشفاقنا عليك، وتجنيبك معاناة، أن تصير اعورا مثلنا.

قلت: لا بد من ذلك، والا، دعوني اسافر، وأستريح من نظري هذه الأحوال، والمثل يقول، عين لا تنظر، قلب، لا يحزن.

قالوا: يا فتى، نحن نصحناك، وهذا، فيه مشقة عليك.

ثم، عمدوا الى كبش، ذبحوه وسلخوه، وقالوا: خذ هذا السكين، وادخل هذا الجلد، ونحن نخيطه عليك، فانه يأتيك طير اسمه الرخ، فيرفعك، ويحطك على جبل، فشق الجلد، واخرج منه، فيخاف منك الطير، فيروح ويخليك، فامشِ نصف نهار، تلقَ أمامك قصر غريب الصفة، فادخل فيه، وقد بلغت مناك، فدخولنا الى القصر، هو سبب سخامة وجوهنا، وقلع عيوننا، واما نحن، إذا حكينا لك، يطول شرحنا، فان كل واحد منا، جرت له حكاية، في قلع عينه اليمنى.

ثم، إنهم فعلوا بي، ما قالوا، وحملني الطير، وحطني على الجبل، فخرجت من الجلد، ومشيت حتى دخلت القصر، وإذا فيه اربعون جارية، كالأقمار، فلما رأينني، قلن جميعاً: اهلا وسهلا بك، ومرحباً.

ثم، انهن اجلسنني، واتينني بطعام، فأكلت أنا واياهن، ثم، قُمْنَ ففرشن حصيرة، ووضعن حولها من المشموم (كُلُّ مَا يُدْرَكُ بِالشَّمِّ) والفواكه، واشياء كثيرة، واخذت الجواري عودا، وغنين عليه، فدخل عليّ الفرح، وقلن لي: ربما لن نلتقي مرة أخرى، وانت الأصل، وأنت السبب، أولديك حكم نفسك؟

فتعجبت، وقلت لهن: ما الخبر؟

قلن: اننا نحن، بنات ملوك، ونحن مجتمعات هنا، مدة سنين، نغيب اربعين يوماً، ونقعد سنة، نأكل ونشرب، ونلذُّ ونطرب، ثم نغيب، وهذا دأبنا، ونخشى إنك تخالفنا، بعد ان نغيب عنك، فيما نأمرك به، فها نحن، نسلمك مفاتيح القصر، وفيه اربعون بابا، فانت تفتح هذه التسعة والثلاثين باباً، والحذر، ان تفتح الباب الاربعين، فتفارقنا.

قلت لهن: لا افتحه، ابداً.

وبعد ان قضينا سنة الوداع، خرجن وطرن، وهم يشيرون اليّ بالايادي، ويوصوني، فقعدت في القصر وحدي، ولما قرب المساء، فتحت الباب الأول، ودخلته، فوجدت بستاناً، اشجاره مخضرمة، وثماره يانعة، واطياره صادحة، ومياهه متدفقة، فارتاح بها خاطري، وتمشيت بين الأشجار، وشمت روائح الازهار، وسمعت غناء الاطيار، وهي تسبح الواحد القهار، ورأيت لون التفاح، بين احمرار واصفرار، ثم نظرت الى السفرجل (القصاص)، واستروحت (تشمَّم) عَرْفه (ريح) الذَري، رائحة المسك والعنبر، ثم نظرت الى البرقوق (الخَوْخ)، يروق العين حسنه، كأنه ياقوت مخلوق، ثم خرجت من ذلك المكان، وأغلقت الباب، كما كان.

ولما كان الغد، فتحت بابا آخر، ودخلت، فوجدت ميداناً كبيرا، وفيه نخل كبير، ونهر جار، واشجار الورد والياسمين، والمردقوش (نبات عطري) والنسرين، والنرجس والمنثور، مفروشة بحافته، وقد هبت الرياح على تلك الرياحين، فانتشر ذلك الطيب، يمينا وشمالاً، وحصل لي من ذلك، الحبور التام، ثم خرجت من ذلك المكان، واغلقت الباب، كما كان.

ثم، فتحت باباً ثالثاً، فرأيت فيه، قاعة كبيرة، مفروشة بالرخام الملّون، والمعادن الثمينة، والاحجار الفاخرة، وفيها اقفاص من الصندل (جنس نباتات، تزرع لأخشابها الفاخرة، الطَّيِّبة الرَّائحة) والعود، فيها طيور تغني، مثل الهزار والمطوَّق والشحرور، والقمريّ والنوبي المغرد، فطاب قلبي من ذلك، وانفرج همي، ونمت في ذلك المكان، الى الصباح.

ثم، فتحت باب رابعا، فوجدت، اربعون خزانة، مفتحة الأبواب، فدخلت فيها، فرأيت من اللؤلؤ والياقوت، والزبرجد والزمرد، والجواهر النفيسة، ما لا يوصف بلسان، فاندهش عقلي من ذلك، وقلت: هذه الأشياء، اظن، انها لا توجد، في خزانة ملك من الملوك.

ولم ازل اتنقل، من موضع الى موضع، حتى مضى، تسعة وثلاثون يوماً، وقد فتحت في هذه المدة، الأبواب كلها، الا الباب، التي منعنني، عن فتحه، فلم أجد صبرا، فقمت الى الباب المذكور، وفتحته.

ودخلت، فوجدت رائحة ذكية، لم استروح مثلها، ثم رأيت، الارض مفروشة بالزعفران، وقناديل من ذهب، ومشمومات، يضوع (طابت وانتشرت) نشر المسك والعنبر منها، وهي تتقد نورا، ورأيت، مبخرتين عظيمتين، كل واحدة منهما، مملؤة من العود والعنبر، وقد تعطر المكان من عرفهما، ونظرت يا سيدتي، جوادا أدهم، كسواد الليل إذا أظلم، وأمامه معلف من البلور الابيض، فيه سمسم مقشور، ومعلف آخر مثله، فيه ماء ورد مُمَسَّك، والجواد مشدود ملجم، وسرجه من الذهب الأحمر.

فلما رأيته، تعجبت وأخرجته، وثم ركبته، فلم يبرح من مكانه، فرفسته فلم يتحرك، فأخذت المقرعة (خشبة يُضرب بها)، وضربته بها، فلما أحس بالضربة، صهل صراخاً، بصوت كالرعد القاصف، وفتح له جناحين، فطار بي، وغاب عن الابصار، في جو السماء ساعة، ثم حطني على سطح، وأنزلني، وضربني بذيله على وجهي، فقلع عيني اليمنى، وذهب عني.

وهكذا صرت أعورا متألمًا، مما ابتغيت من مشقة وعذاب، ونزلت من على السطح، وجئت إلى غرفة كبيرة، حيث كان، عشرة تخوت، موضوعة في دائرة، وكل تخت، فراشه ولحافه ازرق، وفي وسط تلك التخوت، تخت صغير، أقل ارتفاعا، وهو مثلها، كل ما عليه، ازرق، فأدركت على الفور، أن القصر، هو قصر العشرة شباب، العور.

وجلست، ولم يكن الشبان العشرة في القصر، فلم يستقر بي الجلوس، حتى رأيت الشباب، والشيخ بينهم، ولم يبدوا مندهشين من رؤيتي، ولا من أني، فقدت عيني اليمنى، وقالوا: لا يمكننا تهنئتك على عودتك، وإنك تعلم، أننا لم نكن، سبب مشقتك.

سيكون من الخطأ، اتهامكم بذلك، أجبت، لقد أحْدثت هذا الأمر، والخطأ، يقع عليّ وحدي، ولقد نصحتموني، فما انتصحت.

ان كان في صبرك على المصاب، قالوا، معرفة، أن آخرين، حدث لهم، ما حدث لك، فكل واحد منا، أصابه ما أصابك، وكان في انعم عيش، وألذ نعم، فما قدر أن يصبر، وها نحن ترانا، نبكي على ما جرى، و

بَينَما الناس على عليائِها
إِذ هَوَوْا في هُوّة مِنها فَغارُوا

فدعوت الله تعالى، وإنّا لله، وإنّا إليهِ رَاجعُون، وخرجت أقصد بغداد، أتوصل الى من يساعدني، وأشار إليّ الشباب، الطريق الذي أتبعه، فحلقت، وطفت في بلاد الله، وكتب الله لي السلامة، حتى وصات الى بغداد، في مساء هذه الليلة، فوجدت هذين الاثنين واقفين، حائرين، فسلمت عليهما وقلت: انا غريب.

قالوا: ونحن ايضاً غريبان.

واتفق لنا، نحن الثلاثة، اننا عور من اليمين، وهذا يا سيدتي، سبب حلق لحيتي، وقلع عيني.

عندما انتهى الغريب الثالث، من تلاوة قصته، قالت زبيدة: لك الحرية، في الذهاب، إلى أي مكان، تريد.

العفو سيدتي، قال الغريب الثالث، اسمع مغامرات هؤلاء الضيوف، الذين، لم يتحدثوا بعد.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت، عن الحديث المباح.