المُحِبّ الوامِق، أو حكاية: حمَّال بغداد، والفتيات، الليالي العربية

قالت عزيزة: بالله عليك يا اختي، وما حكاية الحمَّال؟

قالت لُبَابَة: بلغني، أيها الملك السعيد، أن انسانا، من مدينة بغداد، صنعته حمال، في يوم من بعض الأيام، كان واقفاً في السوق، متكئا على قفصه، إذ وقفَتْ عليه امرأة، بإِزار موصلي (كانت الموصل، مَعرُوفة بتصنيعها، للقطن الفاخر، ومن هنا جاءت، كلمة، Muslin)، أرضيته بيضاء، تحليه، رسوم متنوعة، ينسدل من الرقبة، بفتحة ضيقة مستديرة، ويتسع، ويحيط بالجسد، ضيق عند الوسط، إلى أسفل القدمين، وله أكمام طويلة واسعة، وشدته المرأة، على وسطها زنار، وقطعة، من قماش سوداء، تغطي الرأس، وبانت عيون سود، وأهداب (شَعْرُ أجْفَانِ العَيْنِ) أجفان طوال، ناعمة الأطراف، كاملة الأوصاف، فالتفتت الى الحمال، وقالت، بعذوبة مَنْطِق (كلام)، ورقة حديث: هات قفصك يا حمال، واتبعني.

فما صدّق الحمال، الكلام، واخذ القفص، وأسرع، وقال في نفسه:

زنارها في خصرها يطرب
وريحها من طيبها أطيب
ووجهها أحسن من حليها
ولونها من لونه أعجب

وتبعها الحمال، إلى أن وقفت، على دكان شراب، فنزل لها رجل، فأعطته دينارًا، وأخذت منه، شراب مصنوع، من عسل نحل، ومثله ماء، ومثليهما عصير عنب أبيض، فيغلى الجميع، ويجعل فيه، شيء من سنبل وقرنفل، وأخذت، شراب مصنوع، من حليب الغنم، والسكر وماء الورد، تُدق فيه المَصطَكى والزعفران، ويغلى غلية خفيفة، ووضعتهم في القفص، وقالت: يا حمال، هات قفصك، واتبعني.

فقال الحمَّال: يا يوم السعادة، يا نهار الافراح، هذا نهارٌ مبارك.

ثم، حمل الحمَّال القفص، وتبعها، فوقفت على دكان فكهاني، واشترت منه، تفاحًا شاميًّا، وسفرجلًا، وخوخًا عمانيًّا، وخيارًا نيليًّا (النيل)، ورماناً، وليمونًا مصريًّا، وأترجًّا (ترُنج، كُبّاد) سلطانيًّا، وياسمينًا حلبيًّا، وآساً ريحانيًّا، وأُقحوانًا، وبنفسجًا، ونسرينًا (وردٌ عطريُّ)، ووضعت الجميع، في قفص الحمَّال، وقالت له: يا حمَّال، خذ قفصك، واتبعني.

فحمل الحمَّال القفص، وتبعها، حتى وقفت على جزار، وقالت له: اقطع، عشرة أرطال، لحم ضأن (خروف)، طيباً.

فقطع لها الجزار ما اشتهت، ولفَّت اللحم، في ورق موز، ووضعته في القفص، وقالت: يا حمَّال، خذ قفصك، واتبعني.

فحمل الحمَّال القفص، وتبعها، ثم، وقفت على دكان، واشترت منه، زيتون وجبن شامي، ووقفت على دكان آخر، واشترت، فستق، ولوز، وبندق وجوز، وزبيب تهامي (منسوب إلى تهامة، وهي مكة، أو بلاد شرقي الحجاز، إلى الجنوب)، وقالت للحمَّال: يا حمَّال، خذ قفصك، واتبعني.

فحمل الحمَّال القفص، وتبعها، إلى أن وقفت، على دكان الحلواني، واشترت طبقًا، وملأته، من جميع ما عنده من مشبك، وقطائف بالمسك محشية، وصابونية، وأقراص ليمونية، وميمونية، وأمشاط، وأصابع، ولقيمات القاضي، ووضعت، جميع أنواع الحلاوة، في الطبق، ووضعته في القفص، وقالت للحمَّال: يا حمَّال، خذ قفصك، واتبعني.

قال الحمال: كنتِ أعلمتِني! لجئتُ معي، ببغل، او جمل، يحمل هذه الأمور.

فتبسَّمَتْ، ثم وقفت على العطَّار، واشترت منه، عشرة أنواع مياه، من ماء ورد، وماء زهر، وغير ذلك، وأخذت قدرًا من السكر، وأخذت مرش ماء ورد مُمَسَّك (فيه مِسك)، وحصى لبان ذكر (لَبَانٌ: نَبَاتٌ، مِنْ فَصِيلَةِ البُخُورِيَّاتِ، يُفْرِزُ صَمْغاً، وَيُسَمَّى الكُنْدُرَ)، وعودًا وعنبرًا ومسكًا، وأخذت شمعًا إسكندرانيًّا، وضعت الجميع في القفص، وقالت: يا حمَّال، خذ قفصك، واتبعني.

وتعجب الحمال، وحمل القفص وتبعها، إلى أن أتت، دارًا حسن، عالية البنيان، مشيدة الأركان، بابها، بشقتين من الأبنوس (شَجَرٌ، مِنْ فَصِيلَةِ الآبنُوسِيَّاتِ، يَنْبُتُ، فِي الحَبَشَةِ وَالهِنْدِ، خَشَبُهُ، ثَمِينٌ أسْوَدُ، صُلْبُ العُودِ، ثَقِيلٌ)، مصفَّح، بصفائح الذهب الأحمر، وأمام الدار، رحبة فسيحة، فوقفت الصَبيّة على الباب، ودقَّتْ، دقًّا لطيفًا.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني، يا ملك الزمان، ان الصَبيّة، لما دقت على الباب، والحمال، واقف ورائها بالقفص، وهو لم يزل، يفتكر في حسنها وجمالها، وما رزقته، من الملاحة والفصاحة والسماحة، ويقول:

فَدَيْتُكَ يا أتَّم الناسِ حُسناً
وأصلَحَهم لمتَّخِذٍ حبيبا
فوجهُكَ نزهة ُ الأبصارِ حُسْناً
وصوتُكَ متعَة ُ الأسماعِ طيبا

وإذا، بالباب قد انفتح، فنظر الحمال، من فتح لها الباب، وإذا بها، صَبيّة، رشيقة القد، بارزة النهد، ذات حسن وجمال وبهاء، وكمال وقَدّ واعتدال، وجبين، كغُرَّة الهلال (غُرَّة الهلال: طلعته)، وعيون، تحاكي المها (نجوم) والغزلان، وحواجب، كهلال شعبان، وخدود، كشقائق النعمان (زهرة، برية حمراء جميلة)، وفم، كخاتم سليمان، وشفاه حمر، كالمرجان، وأسنان، كاللؤلؤ المنضد (مُصَفَّف) في مرجان، وعنق، كأنه للغزلان، ونهدَيْن، مثل فحليّ رمان، وبطن وسرة، يا زين، تحت الثياب، ووجه، كالبدر في الإشراق، فلما نظر الحمال إليها، سلبت عقله ولبه، وكاد، أن يقع القفص عن رأسه، وقال في نفسه: ما رأيت عمري، أبرك، من هذا النهار..

دَعَوتُ إِبليسَ ثُمَّ قُلتُ لَهُ
في خَلوَةٍ وَالدُموعُ تَنهَمِرُ
أَما تَرى كَيفَ قَد بُليتَ وَقَد
أَقرَحَ جَفني البُكاءُ وَالسَهَرُ
إِن أَنتَ لَم تُلقِ لي المَوَدَّةَ في
صَدرِ حَبيبي وَأَنتَ مُقتَدِرُ
لا قُلتُ شِعراً وَلا سَمِعتُ غِناً
وَلا جَرى في مَفاصِلي السَكَرُ
وَلا أَزالُ القُرآنَ أَدرُسُهُ
أَروحُ في دَرسِهِ وَأَبتَكِرُ
وَأَلزَمُ الصَومَ وَالصَلاةَ وَلا
أَزالُ دَهري بِالخَيرِ آتَمِرُ
فيا لها منةً لقد عَظُمَت
عندي لإبليس ما لها خطر

ولاحظت الأنثى، التي فتحت الباب، اضطراب الحمال، واِسْتَبْصَرت سبب ذلك، وأسعدها، واستمتعت، بتَصَفَّح محَيا الحمال، فقالت الصَبيّة، بالإزار الموصلي: يا اختي، ماذا تنتظرين، ألا تري، أن هذا الرجل المسكين، محمل بشدة، وبالكاد، يستطيع، رَفع حمولته؟

فقالت الصَبيّة، التي فتحت الباب: مرحبًا، ادخلوا، وحطي عن هذا المسكين.

فدخل الجميع، ومشوا، حتى انتهوا، إلى قاعة فسيحة، مبنية بشكل جميل، مزينة، بألوان مختلفة، وأعمال خشبية منحوتة، وفيها، مقاعد من أنواع مختلفة، ومصاطب (بِناء غير مرتفع، يُجْلَسُ عليه)، وخزائن، عليها ستائر مرخيَّات، وفي وسط القاعة، بركة ونوافير، وفي الطرف العلوي، أريكة من المرمر، مرصَّعة بالدر والجوهر، لها أربع قوائم من العرعر (شجر، من فصيلة الصُّنوبريّات، يصْلُحُ، لِلصِّنَاعَةِ الْخَشَبِيَّةِ، وَالتَّزْيِينِ)، عليها ناموسية (نسيج رقيق، يوضع وقايةً من الذُّباب، والنّاموس)، من الأطلس (نسيج من حرير) الأحمر، و برزت من داخلها صبية، بطَلّة مضيئة، ووجه، يُخجِل الشمسَ الساطعة، محمرة الوَجَنات، يخبر حسنها، وعيون بابلية (سَاحِرَة)، وقامة ألفية (شكل الألف، طويل ونحيف)، وشفاه عقيق أحمر سكرية، ونكهة عنبرية، ونهدَيْن من الحرير، كأنها بعض الكواكب العلوية، أو قبة من ذهب مبنية، أو حور عربية.

ونهضت الصَبيّة الثالثة، وكان اسمها زبيدة، وتمايلت، فضحكت أردافها، وخطرت، قليلا قليلا، إلى أن صارت، في وسط القاعة، عند أختَيْها، صافية، التي فتحت الباب، وأمينة، وعلى الرغم، من أن الحمال كان مثقلاً، إلا أن هذا، لم يمنعه من الإعجاب، بروعة المنزل ونظافته، ودقة وانتظام، ترتيب كل شيء فيه، لكن، انتباهه، اجتذب بشكل خاص، من قبل الصَبيّة الثالثة، التي بدت أجمل من الثانية، وقال في نفسه:

مَنْ قَاسَ قَدَّكَ بِالْغُصْنِ الرَّطِيبِ فَقَدْ
أَضْحَى الْقِيَاسُ بِهِ زُورًا وَبُهْتَانَا
الْغُصْنُ أَحْسَنُ مَا نَلْقَاهُ مُكْتَسِيًا
وَأَنْتَ أَحْسَنُ مَا نَلْقَاكَ عُرْيَانَا
بِاللَهِ يا ذاتَ الجَمالِ الفائِقِ
لا تَصرِمي حَبلَ المُحِبِّ الوامِقِ

وقالت زبيدة، وهي دنت من أختيها: ما وقوفكم؟ ألا ترون، أخواتي العزيزات، أن هذا الرجل، كاد أن يغمى عليه؟ حطوا، عن رأس هذا الحمال المسكين.

فجاءت صافية من أمامه، وأمينة من خلفه، وساعدتهما زبيدة، وحططن عن الحمَّال، وفرَّغن ما في القفص، وصفوا كل شيء في محله، وأعطين الحمَّال دينار، وقلن له: توجَّهْ يا حمَّال.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وفي الغد قالت: بلغني يا ملك الزمان، أن الحمال، بعد ما أخذ الدينار، وكاد أن يأخذ سلته، والذهاب، نظر إلى البنات، وكانت أمينة، قد خلعت حجابها، وما هن فيه، من الحسن والجمال، فلم يَرَ أحسن منهن، ونظر ما عندهن، من الفواكه، واللحوم، والحلوة، وغير ذلك، فتعجب غاية العجب، ووقف عن الخروج.

ورأت زبيدة في البداية، أن الحمال، أخلد إلى الراحة، لكنها لاحظت، أنه ظل لفترة طويلة، فسألته: يا حمّال، ما لك لا تبرح؟! ثم، التفتت الى اختها أمينة، وقالت: أعطه، شيئًا أكثر.

سيداتي، أجاب الحمال، ما استقلَلْتُ الأجرة، وليس هذا ما يحتجزني، ولقد حصلت بالفعل، على أجر جيد، وأعلم، أني مذنب، بارتكاب فظاظة، في البقاء، حيث لا ينبغي لي ذلك، لكن، آمل، أن تتفضلوا بالطيبة والعفو، وأن تنسبن ذنبي، إلى الدهشة التي أشعر بها، وكيف حالكن، وأنتن وحدكن، واشتغل قلبي بكن، وما عندكن رجال، وإِلَى أُمِّه، يَلْهَفُ الَّلهْفَانُ (يُقَالُ ذَلِكَ، لِمَنِ اضْطُرّ، فَاسْتَغَاثَ بأَهل ثِقَته)، وأضاف إلى ذلك، بعض المجاملات، لإثبات ما قدمه، ولم ينسى الحمال، أن يكرر ما يقولونه في بغداد:

وَالدَهـرُ فـي غَفلَةٍ نامَت حَوادِثُهُ
وَنَــبَّهـَتـنـا إِلى اللِذّاتِ أَوتـارُ
أَمـا تَـرى أَربَعاً لِلَّهوِ قَد جُمِعَت
جُــنــكٌ (آلة طرب، تشبه عودا، ذا رقبة طويلة) وَعــودٌ وَقـانـونٌ وَمِـزمـارُ
فَـخُـذ بِـحَـظٍّ مِـنَ الدُنـيا فَلَذَّتُها
تَـفـنـى وَيَـبـقـى رِواياتٌ وَأَخبارُ

وقال: أنتن ثلاثة، فتفتقرن إلى رابع، يكون، رجلًا عاقلا، لبيبًا حاذقًا، وللأسرار، كاتمًا.

وضحكت الفتيات بحرارة، من حُجّة الحمال، غير أن زبيدة خاطبته بجدية: أنت تَحْمَقْ، يا صاحبي، وعلى الرغم من أنك لا تستحق أي تفسير، سأخبرك، أننا ثلاث أخوات، يرتبن كل شؤونهن سراً، بحيث لا يعرف أي شيء أحدا، ونحن لا نظهر على سرنا أحد، نخشى اكتشافًا، وقد قرأنا في الأخبار شعرًا:

صُنْ عَنْ سِوَاكَ السِّرَّ لَا تُودِعْهُ
مَنْ أَوْدَعَ السِّرَّ فَقَدْ ضَيَّعَهُ
فصدرك بسرك إن لم يسع
فكيف يسع صدر مستودعه

فلما سمع الحمال كلامهن، قال: سيداتي، من سِيمَائكن، ظننت أنكن تمتلكن الفضيلة، وأدرك، أني لست مخطئًا، وعلى الرغم من طالِعي، بحيث، لم تتوفر لي، مهنة أفضل، فقد حرثت عقلي، قدر ما استطعت، وقرأت كتب العلم، وطالعت التواريخ، أُظهِر الجميلَ، وأُخفِي القبيح، رجل عاقل أمين، وأعمل بقول الشاعر:

السِّرُّ عِنْدِيَ فِي بَيْتٍ لَهُ غَلَقٌ
ضَاعَتْ مَفَاتِحُهُ وَالْبَابُ مَخْتُومُ

فلما سمعت الفتيات الشعرَ، وما أبداه الحمال من الكلام، اِسْتَشَفّت زبيدة فِطنَته، فأجابت بظرافة: أنت تعلم، أننا نستعد، للهو والتسلية، وخاطرك، أن تجلس عندنا، وتصير نديمنا، وتَطَلّع، على وجوهنا الصِّباح، الملاح، وتعلم، أننا غَرِمْنَا على هذا المقام، جملة من المال، ولن يكون الأمر عادلاً، أن تشارك في المأدبة، دون أن تحمل، جزءاً من التكلفة، فنحن، لا ندعك تجلس عندنا، حتى تغرم، مبلغنا من المال، فهل معك شيئًا، تجازينا به؟

وقالت صافية الجميلة: إذا كانت بغير المال، محبة، فلا تساوي، حبة، وإن لم يكن معك شيئاً، رُحْ، بلا شيءٍ.

وعلى الرغم من خطابه، كاد الحمال أن ينسحب، في حيرة من أمره، لولا أمينة، التي أخذت جانبه، وقالت: يا اختاه، أناشدكم، السماح له بالبقاء معنا، فما قصَّرَ اليومَ، فلولا استعداده، وسرعته وشجاعته في تَعَقّبي، ما كنت أتممت ما اشتريته من السلع، في وقت قصير، وإنه رجل ذكي، سيؤانسنا، وإذا كررت لكما، كل الأشياء المسلية، التي قالها لي في الطريق، فلن تَتَفَاجَآ كثيرًا، أني نصيرته، وأنا، أوفي عنه.

ففرح الحمال، بخطاب أمينة، وسقط على ركبتيه، وقبل الأرض عند قدميها، وقال، وهو ينهض: سيدتي العزيزة، ما كان استفتاحي الا انتِ، بَدَأْتِ سعادتي، ووَضَعْتِها في قمة، توارت تحت هذه المحاماة الكريمة، والتي، لا يمكنني أبدًا، التعبير عن امتناني الكافي لها، وسأعتبر نفسي، أكثر العبيد تواضعا، حاشَ أسيء، يا نهار السعادة، يا نهار التوفيق، جمع الجَمال، مخاطبا نفسه، وجهها وشاح من حرير، مخاطبا الأخوات، عندي ديناركم، ها هكم.

لكن، قالت: ويطلب الود والوصال، على أفضل ما كان، وإن ما قدمناه كجزاء، لاَ يَبْقَى لَهُ أَثَر، ولا نستعيده أبدًا، عَصَبَة.

وأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث المباح.