إنَّ في الشَّرِّ خِيَاراً، أو حكاية: التاجر، مع الجِنِّيّ، الليالي العربية

ففرحت لُبَابَة، فرحاً عظيماً، وقالت: زعموا أيها الملك السعيد، وصاحب الرأي السديد، أن بعض التجار، كان غني، مُوسِر (غنيّ، ثريّ) الحال، كثير المال، صاحب نَوَال (عَطَاء)، وعبيد وغلمان، وله عدة نساء واولاد، وله معاملات ومَتَاجِر، في سائر البلاد.

وخرج يوما، طالبا السفر، إلى بعض البلاد، فركب دابته، وعمل خُرجاً من الزاد، وطوى الأَثْوَاب، وسافر على كفِّ الرَّحْمَن، أياماً وليالٍ، وليالٍ وأيامْ، فكتب الله له، بالسلام، فوصل أيها الملك السعيد، الى البلاد، وقضى عمله منها، ثم رجع مسافراً، إلى أهله وبلده.

فسافر اليوم الثالث والرابع، وقد حَمِيَ النَّهَار، واشتد عليه الحر، ورأَى بستاناً، فقصده، يستظل تحته، فأتى الى أصل (أسفل) شجرة جوز، عندها عين ماء تجري، فجلس على العين، وربط دابته، وحط خُرجه، وأخرج بعض التمر من زوادته، وصار يأكل، ويرمي النوى، يميناً وشمالا، حتى اكتفى، ثم قام، فتوضَّأَ وصلى، فلما سلَّم، إذا هو بعفريت، طويل القامة، رجليه في التراب، ورأسه في السحاب، وفي يده سيف مَشْهور، فدنا من ذلك التاجر، وقال: قم حتى أقتلك، بهذا السيف، وصرخ عليه.

فلما سمع التاجر، كلام الجان، وأبصره، هابه، ودخل قلبه الرعب، وقال: يا سيدي، بأي ذنب، تقتلني؟

قال الجني: اقتلك، مثل ما قتلت ولدي.

قال التاجر: ومن قتل ولدك؟

اجاب الجني: أنت.

قال التاجر: أيُّ فَتىً، قَتَلَهُ الدُّخَانُ (يضرب للقليل الحيلة)، والله، أنا ما قتلت ولدك، متى وأين، وكيف قتلته؟

قال الجني: أليس أنت جلست، واخرجت من جرابك تمر، وصرت تأكل، وترمي النوى، يمينا وشمالاً؟

قال التاجر: نعم، أنا فعلت ذلك.

قال الجني: بهذه الطريقة، قتلت ولدي، لما صرت تأكل، وترمي النوى، كان ولدي ماشياً، فجاءت نواة، في صدر ولدي، فقتلته، وانا لا بد لي من قتلك، كما قتلته، أليست الشريعة تقول، النفس بالنفس؟

قال التاجر: إِنَّا ِللَّٰه، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، ولا حول ولا قوة الا بالله، العليّ العظيم، إن كنت قتلته، فما قتلته الا خطأً مني، وأريد، أن تعفوا عني، وخير الْعَفْوِ، ما كان عن القدرة.

قال الجني: لابد من قتلك، ثم، انه جذبه، وبطحه على الأرض، ورفع السيف ليضربه، فبكى التاجر، وندب اهله، وزوجته وأولاده، فجزم (جَزَمَ الأَمْرَ جَزْماً حَاسِماً: قَطَعَ فِيهِ، قَطْعاً، لاَ عَوْدَةَ فِيهِ) الجني حتى يضربه، فبكى التاجر حتى بل ثيابه، وقال: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وانشد يقول، هذه الابيات:

أَحسَنتَ ظَنَّكَ بِالأَيامِ إِذ حَسُنَت
وَلَم تَخَف سوءَ ما يَأتي بِهِ القَدَرُ
الدَّهْرُ يَوْمَانِ ذا أمن وذا حذر
وَالْعَيْشُ شطران ذا صفو وذا كدر
سالَمَتكَ اللَيالي فَاِغتَرَرتَ بِها
وَعِندَ صَفوِ اللَيالي يَحدُثُ الكَدَرُ
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفٌ
وَتَسْتَقِرُّ بأقْصى قَاعِهِ الدُّرَرُ
أما ترى الريح إن هبت عواصفه
فليس تعصف الا أعالي الشجر
وكم على الأرض من خضر ويابسة
من ذات زهر وأخرى ما لها زهـرُ
ما لا ثمار لها أو زهر قد سلمت
وليس يُرجم إلا ما له ثمر
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا
ونالنا من تمادي بؤسه ضرر
ففِي السَّماءِ نُجُومٌ لا عِدَادَ لَهَا
وَلَيْسَ يُكْسَفُ إلاَّ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا
وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ
وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ
وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا

قال الجني، بعد أن فرغ التاجر من شعره، وبكائه: والله، لا بد من قتلك.

قال التاجر: ولابد لك؟

أجاب الجني: ولا بد لي.

ثم، إنه رفع السيف ليضربه، ثم أدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، واشتغل قلب الملك شمسان، الى بقية الحديث، ولما أن طلع الفجر، قالت عزيزة لأختها لُبَابَة: والله ما أحسن، وأعذب حديثك، وأغربه.

قالت لُبَابَة: أين هذا، مما أحدثكم به، الليلة القادمة، إن عشت وأبقاني سيدي الملك، فهو أعجب من هذا الحديث، واغرب.

فقال السلطان في نفسه: والله ما أقتلها، حتى أسمع بقية الحكاية، ثم أقتلها، غدا.

ثم أصبح الصباح، واشرقت الشمس ولاحت، وقام الملك، وخرج لملكه وحكمه، وطلع الوزير أبو لُبَابَة، بالكفن تحت إبطه، وحكم الملك، وولى وعزل إلى آخر النهار، ولم يخبر الوزير بشيء من ذلك، فتعجب الوزير غاية العجب، ولا زال الملك يحكم، الى الليل، ثم تَفَرَّق الديوان، ودخل بيته، وطلع إلى فراشه.

وقالت عزيزة لأختها لُبَابَة: بالله عليك يا أختاه، إن كنتي غير نائمة، فحدثينا بحديث من أحاديثك الحِسان، نقطع به، سهر ليلتنا هذه.

قال السلطان: وليكن تمام حديث التاجر مع الجن، لأني أحببته.

قالت لُبَابَة: حباً وكرامة، أيها الملك السعيد، وقالت: زعموا أيها الملك السعيد، وصاحب الرأي الرشيد، أن الجني، لما رفع يده بالسيف، قال له التاجر: ايها المارد، لا بد لك من قتلي؟

قال الجني: نعم.

قال التاجر: إنَّ فيِ الشَّرِّ خِيَاراً، (أي إن في الشر، أشياء خيارا، ويجوز أن يكون الخيار، الاسم من الاختيار، أي في الشر، ما يُخْتَار على غيره) ما تمهلني، حتى أودع اهلي، وزوجتي واولادي، وأُقَسِّم ميراثي بينهم، وأوصي عليهم، وأعطي كل ذي حق حقه، وأرجع اليك، فتقتلني.

قال العفريت: أخشى إن أطلقتك، تمضي، ولا تعود.

قال التاجر: لك عليّ، عهد وميثاق، إني أعود إليك، فتفعل بي ما تريد، وأُشهد عليّ، رَبُّ السماء والأرض، والله على ما أقول، وكيل.

فلما حلف، استوثق منه الجني، وأطلقه، فركب التاجر دابته، وسلك الطريق، وهو حزين، فما زال، حتى وصل الى بلده، ودخل عند اولاده وزوجته، وأظهر الأسف والحزن، فتعجبوا من حاله، وقالت له زوجته: أيها الرجل، ما هذا البكاء والحزن، ونحن اليوم، عندنا فرح بقدومك؟

قال التاجر: بقي من عمري، سنة لا غير! ثم أعلم زوجته وأولاده، بما جرى له في سفره مع الجن، وأخبرهم، أنه حلف له، أن يرجع إليه، في السنة القادمة، حتى يقتله.

فلما سمعوا هذا الكلام، بكوا، ولطمت المرأة، وجهَها، وقطعت شعرها، وتَصَارَخْت البنات، وتَنادَى الأولاد، الكبار والصغار، وقام العزاء، وأقام الأولاد حول أباهم ذلك النهار، وصار يودعهم، ويودعوه.

ثم، إنه قام التاجر في ثاني يوم، وشرع يقسم ميراثه، وأَعْطَى، ووهب وتصدق، وجعل عنده قُرّاء، يَقْرَأُونَ القرآن، ثم أحضر الشهود العُدول (من تُرضى شهاداتُهم)، وأعتق الجَوَارِي والعبيد، واعطى الاولاد الكبار، نصيبهم من المال، ووصى على الاولاد الصغار، وأوفى لزوجته، حقها وكتابها، ولازال على ذلك، حتى مضت السنة، وبقي منها، مسافة الطريق لا غير.

فقام التاجر وتَوَضَّأَ وصلَّى، وأخذ معه كفنه، وودع عائلته وأولاده، وقام الصراخ، وذرفت العيون، فقال التاجر: يا أولادي، هذا حكم الله، والانسان، ما خلق الا للموت، وإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.

وخرج التاجر، رغمًا عن أنفه، وركب دابته، وسافر ليالٍ وأياماً، حتى وصل الى مكان البستان، وجلس في المكان، الذي أكل التمر فيه، وجلس ينتظر العفريت، وهو باكي العين، حزين القلب.

فبينما هو جالس، إذ أقبل عليه، شيخ كبير، معه غزالة، فسَلَّم على ذلك التاجر، فرد التاجر عليه السلام، وحياه، فقال له الشيخ: ما سبب جلوسك في هذا المكان، وهو موضع المردة الأباليس، وهذ بستان معمور (مسكون)، لا أفلح من كان فيه.

فأخبره التاجر، بما جرى له مع ذلك العفريت، وبسبب قعوده، في هذا المكان، فتعجب الشيخ، صاحب الغزالة، من وفاء التاجر، وقال: والله يا أخي، ما دينك إلا دين عظيم، وحكايتك، حكاية عجيبة، لو كتبت بالإبر، على آماق (أَمْقُ العين: طَرَفُها ممَّا يلي الأنف، وهو مجرى الدمع) البصر، لكانت عبرة، لمن اعتبر.

ثم، إنه جلس الشيخ، بجانب التاجر، وقال: والله يا اخي، لا ابرح من عندك، حتى انظر ما يجري لك، مع ذلك العفريت.

فبينما هم في الحديث، أدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث، وقالت عزيزة لأختها: ما أعجب حديثك، وأغربه.

قالت لُبَابَة: الليلة القادمة، أحدثكم بأعجب وأغرب، لو أبقاني سيدي الملك.

فلما كان الليل، قالت عزيزة لأختها: بالله عليك يا أُختاه، حَدِّثِينَا من أحاديثك الحسان، لكي نقطع، سهر ليلتنا هذه.

قال الملك: وليكن تمام حديث التاجر.

قالت لُبَابَة: حباً وكرامة، بلغني، أيها الملك السعيد، أن التاجر، جلس هو وصاحب الغزالة، يتحدثان، وحصل للتاجر، الخوف والفزع، والغم الشديد، والفكر المزيد، وصاحب الغزالة بجانبه، فبينما هما، إذا بشيخ ثان، قد أقبل عليهما، ومعه كلبان، من الكلاب السود، فسألهما بعد السلام، عن سبب جلوسهما، في هذا المكان، وهو مأوى الجان؟

فردوا عليه السلام، وأخبره صاحب الغزالة، عن التاجر، وما جرى له مع الجني، وأن التاجر حلف له، أن يأتي اليه، وهو الآن ينتظره، ليقتله، وأنا جئته، وسمعت خبره، فأقسمت أني لا أمضي من هنا، حتى أبصر، ما يجرى بين الاثنين.

فلما سمع، صاحب الكلبين هذا، تعجب من الذي جرى، ومن التاجر، بحفظه اليمين، وقال: لا أبرح من هنا، حتى انظر ماذا يجري، بينه وبين الجني.

فلم يستقر به الجلوس، حتى أقبل عليهم شيخ ثالث، ومعه بغلة، فسلم عليهم، وردوا عليه السلام، فقال: مالي أراكما، أيها الشيخين، ههنا جالسين، ومالي أرى، هذا التاجر، جالساً حزيناً بينكما، وعليه أثر الحزن؟

فأخبروه بخبره، وجلوسهما، فلما سمع الشيخ، هذا الكلام، قال: وانا والله، كذلك لا عدتُ أبرح، حتى أنظر، ما لهذا الرجل، مع الجني!

فلم يكن الا قليلا، وإذا بغبرة قد هاجت، وزوبعة عظيمة قد أقبلت، من وسط تلك البرية، فانكشفت الغبرة، وإذا بذلك الجني، وبيده سيف مسلول، وعيونه ترمي بالشرر، فأتاهم، وجذب ذلك التاجر من بينهم، بيده الشمال، فأصبح أمامه، فقال له: قم حتى اقتلك، مثل ما قتلت ولدي، وحُشاشة كبدي (حُشاشة كبدي: أغلى شيء عندي).

فبكى التاجر، وبكى الشيوخ، واستغاثوا بالبكاء، وضجوا بالعويل، فأدرك لُبَابَة الصباح، فسكتت عن الحديث.

قالت عزيزة: ما أطيب حديثك يا أختي، وأغربه.

قالت لُبَابَة: أين هذا، مما أحدثكم به، الليلة القادمة، إن أبقاني سيدي الملك، وهو أغرب وألذ وأطرب.

فشغل الملك، سماع الحديث، وقال في نفسه: والله ما أقتلها، حتى أسمع، كُلّ الحديث، وما جرى للتاجر مع الجني، واعود فأقتلها، كعادتي مع غيرها.

ثم خرج إلى ملكه، وحكم، وأقبل على أبيها، فقربه، فتعجب الوزير من ذلك، وما زال في الديوان إلى الليل، فدخل قصره، وقالت عزيزة: بالله عليك يا أختي، حَدِّثِينَا من أحاديثك الحسان، لنقطع سهر ليلتنا هذه.

قالت لُبَابَة: حُبًّا وكرامة، زعموا، أيها الملك السعيد، إن الجني، لما أراد ان يضرب التاجر، وأعلن الشيوخ البكاء، إنتبه منهم، الشيخ الأول، صاحب الغزالة، وتقدم الى الجني، وقبل يديه ورجليه، وقال له: أيها العفريت، وتاج ملوك الجان، إن حكيت لك حكايتي، وما جرى لي من هذه الغزالة، ورأيته غريب عجيب، أعجب مما جرى لك مع هذا التاجر، أتهب لي، ثلث جنايته، وذنبه، ومن تَصَدَّقَ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ.

قال الجني: نعم أيها الشيخ، إن أنت حكيت لي الحكاية، ورأيتها عجيبة، وهبت لك، ثلث دمه.