الجدري

يُصيبُ فيروسُ الجدري، smallpox virus، البشر فقط، ولا تنقله الحيوانات او الحشرات، بل هو مرض يتفشى فقط بين الناس. يعرف مرض الزهري ب Great pox ويعرف ايضا بال syphilis، ولكن لا علاقة له بمرض الجدري، smallpox، من الناحية المسببة. يقال للجدري أيضا Variola، وهي كلمة لاتينية مشتقة من varius وتعني مبقع او ارقع، او مشتقة من varus وتعني بثرة.

فيروسُ الجدري هو من فصيلة الفيروسات الجدرية Poxviridae ، وهي فصيلة من فيروسات الحمض النووي المزدوج السلسلة. تتألف هذه الفصيلة من اسرتين: اسرة جدري الفقاريات Chordopoxvirinae، وتصيب الحيوانات الفقارية، واسرة جدري الحشرات Entomopoxvirinae، وتصيب الحشرات، وتتألف كل اسرة من هذه الفصيلة من عدة اجناس.

أربعة أجناس من اسرة جدري الفقاريات قادرة ان تصيب الانسان وهي:
- الجنس النفاطي السوي، وانواعه: فيروس الجدري، فيروس جدري البقر، فيروس جدري القرود، فيروس الوقس.
- الجنس الجدراني، وانواعه: فيروس الأرف، وقس كاذب، فيروس التهاب الفم الحطاطي البقري،
- الجنس اليطا، وانواعه: فيروس طنا الجدري، فيروس ورم يبا القردي.
- الجنس الرخوي، وانواعه: المليساء المعدية.

فيروس جدري الماء النطاقي human herpesvirus 3 ، الذي يسبب جدري الماء Chickenpox ، ليس من فصيلة الفيروسات الجدرية Poxviridae ، بل هو من فصيلة الفيروسات الهربسية Herpesviridae .

ينتقل فيروس الجدري بشكل رئيسي بالاتصال المباشر وجهاً لِوجهِ والمطول بين الناس. يصبح مرضى الجدري معدون، عند ظهور القروح الاولى في أفواههم وحلقهم، ويقومون بنشر الفيروس عند العطس والسعال، وتنتشر قطرات من أنفهم أو فمهم إلى أشخاص آخرين. يظل مرضى الجدري معدون، حتى تسقط اخر جُلبة. الجلبة هي القشرة التي تعلو الجُرْحَ مثلا عند البُرْءِ.

تحتوي الجُلبة، والسوائل المجودة داخل القروح، على فيروس الجدري، ويمكن للفيروس الانتقال عبر الجُلُبات، وسوائل القروح، والمواد التي لوثت بهما، كالألبسة او الفرش.

نادرا ما ينتشر الجدري عبر الهواء في الأماكن المغلقة كالأبنية، ولا ينقل الجدري الا النسان، فلا تنقله الحيوانات والحشرات.

يمر الشخص المصاب بفيروس الجدري بعدة مراحل، ولكل مرحلة عوارضها ومؤشراتها:

المرحلة الأولى هي مرحلة الحضانة، وهي تمتد لفترة تراوح ما بين السبع، والتسعة عشرة يوما، والمعدل هو ما بين العشرة الى الرابعة عشرة يوما، وفي هذه المرحلة لا يكون الشخص المصاب معديا. في هذه الفترة، يكون الفيروس متواجدا في جسم الانسان، ولكن لا تظهر أي من العوارض على الشخص المصاب، ومن الممكن ان يشعر انه بخير.

المرحلة الثانية هي مرحلة الاعراض الاولية. في هذه المرحلة من الممكن ان يكون الشخص المصاب معديا، وعوارضه هي حمة عالية، اوجاع في الرأس والجسم، والتقيؤ في بعض الاحيان.

يلي ذلك مرحلة الطفح المبكر، ويكون الشخص المصاب معد في هذه المرحلة. يبدأ الطفح ببقع حمراء صغيرة، تظهر على اللسان وفي الفم. تتحول هذه البقع الى قروح، تتفتح، وتنشر اعداد كبيرة من الفيروس في الفم والحلق.

ما ان تبدأ القروح في الفم بالتحلل او التفتت، حتى يظهر طفح جلدي، في الرأس أولا، ثم يمتد الى الاذرع والساقين، ثم الايدي والاقدام. يتفشى هذا الطفح عادة في جميع انحاء الجسد، خلال أربع وعشرين ساعة. وما ان يبدأ هذا الطفح، حتى تخف الحمى، ويشعر المصاب انه بحالة أفضل.

عند هذه النقطة، يمكن لمرض الجدري ان يأخذ عدة طرق، فمن الممكن ان يصبح مرض الجدري الكبير variola major ، و في هذه الحالة، تمتلئ القروح الجلدية بسائل كثيف غير شفاف، في اليوم الرابع من الطفح، وغالبا ما يكون لها بعج في المنتصف. عندما يحدث هذا تعود الحمى الي الارتفاع وتبقى كذلك الى ان تتشكل الجُلُبات فوق النتوءات.

في اليوم السادس من الطفح، تتحول القروح الى بثور، مرتفعة النتوء، دأبها مدورة ومتينة الملمس، مثل البازيلاء تحت الجلد. بعد ذلك بخمسة أيام، تبدأ البثور بتشكيل قشرة، ومن ثم تتحول الى جُلبة. في نهاية الأسبوع الثاني من ظهور الطفر، تكون معظم القروح قد أصبحت جُلُبات.

بعد ذلك تبدأ الجلب بالتساقط، ويستمر ذلك لمدة ستة أيام، وبعد ثلاثة أسابيع من ظهور الطفح، تكون معظم الجُلُبات قد سقطت.

بعد أربع أسابيع من ظهور الطفح، يجب ان تكون الجُلُبات قد تساقطت بالكامل، عند ذلك يصبح الشخص المصاب غير معد.

يمثل مرض الجدري الكبير variola major، تسعون بالمئة من الحالات عند غير المطعمين، ونسبة فتكه هي ثلاثون بالمئة، ومن الممكن ان يصيب بالعمى، ويترك آثاره في الجلد، على شكل ندب، حفر صغيرة، تبقى مشوهة لصاحبها طول حياته.

ومن الممكن ان يصبح الجدري، الجدري المعدل varioloid ، وهو يصيب بالأكثر الأشخاص الذين تلقوا اللقاح، ونادرا الأشخاص الغير ملقحين. هذا النوع من الجدري هو غير مميت، اقل حدة، ولا يسبب بحمى خلال مرحلة تطور الطفح، وتكون الآفات الجلدية سطحية واقل، وتتطور بسرعة أكبر.

ومن الممكن ان يصبح الجدري، الجدري الخبيث flat or malignant smallpox، ونسبة فتكه هي سبعة وتسعون بالمئة. لا تتحول الآفات الجلدية الى بثور، بل تبقى متساوية مع الجلد، غير ناتئة، خلال فترة المرض كله. غالبا ما يكون الموت ما بين اليوم الثامن، والثاني عشر من المرض، وقبل يومين من حدوثه، غالبا ما تتحول الآفات الجلدية الى اللون الرمادي. في حال النجاة من هذا المرض، فانه لا يترك اثارا على الجلد.

ومن الممكن ان يصبح الجدري، الجدري النزفي black pox or hemorrhagic smallpox. وهو يصاحبه نزيف حاد، في الجلد، والأغشية المخاطية، والجهاز الهضمي، والأحشاء، ونسبة فتكه هي ستة وتسعون بالمئة، ويبدو ان التطعيم لا يوفر اية حصانة ضد الجدري النزفي.

كما بمكن ان يصاب المرء بفيروس الجدري من دون اية عوارض ، او فقط عبر الإحساس بالحمى والالام، وهذا يقع عند الأشخاص ذو قناعة قوية و لا يعد ولا يمكن الكشف عنه الا عبر تحليل في المختبر.

و الجدري الصغير Alastrim or variola minor ، هو مماثل للجدري الكبير، ولكنه اقل ضراوة، ذو مدة اقل، ويترك ندوب قليلة او معدومة، و نسبة فتكه هي واحد بالمئة .

المرضى الذين أصيبوا بالجدري لا يصابون به مرة أخرى في أغلب الأحوال. للوقاية من الجدري يمكن للإنسان ان يتطعم. إذا اخذ الطعم قبل الإصابة بالمرض، فان الطعم يقي من الإصابة. اما إذا اخذ الطعم في ثلاثة أيام من العدوى، فمن الجائز ان يقي من الاصابة، اما إذا ما تم المرض، فيكون ألطف من عدم التطعيم. إذا اخذ الطعم في أربع الى سبعة أيام من الإصابة، فمن الجائز ان يقدم حماية ما من المرض، وإذا ما تم فانه يكون الطف من حالة عدم التطعيم. إذا ما ظهر الطفح الجلدي فان التطعيم لا يجدي نفعا.

للوقاية من الجدري، يطعم الأطفال في الأشهر الستة الأولى من عمرهم، ويكرر التطعيم عندما يبلغون الخامسة. حاليا لا يتم التطعيم ضد الجدري، فالمرض يعتبر مقضى عليه ابتداء من سنة ألف وتسع مائة وثمانون، عبر منظمة الصحة العالمية، وذلك عقب حملات تلقيح التي نفذت في جميع دول العالم.

لا يوجد علاج لمرض الجدري مجرب على البشر، والعلاج المقدم هو للمساعدة في العوارض، كالعناية بالجروح.

في عام الفين وثمانية عشر، وافقت منظمة الدواء الامريكية، على تيكوفورمات tecovirimat، كعلاج للجدري. لم تتم تجربة تيكوفورمات، على بشر مصابين بالجدري، ولكنه اثبت فعاليته في تجارب على حيوانات، مصابة بمرض مشابه للجدري، كما اثبت في المختبر انه يمكنه إيقاف نمو الفيروس. اثبت تيكوفورمات في تجارب على بشر غير مصابين بالجدري، انه امن، وذو اعراض جانبية بسيطة.

في عام الفين وواحد وعشرون، تمت الموافقة من قبل منظمة الدواء الامريكية، على برینسیدوفوویر brincidofovir لعلاج الجدري، وحاله كحال تيكوفورمات، ولكن لديه اعراض جانبية، كالقيء، والاسهال، والغثيان.

أول رصد وتبيان لمرض الجدري، بشكل واضح لا ريب فيه، اتى من العالم العربي أبو بكر الرازي ٨٦٥م - ٩٢٥م، في كتابه في الجدري والحصبة The Book of Smallpox and Measles، حيث قال انه يسبق ظهور الطفح الجلدي لمرض الجدري، حمى، والام، وحك في الانف. ثم تزيد الحكة في جميع انحاء الجسم، ويظهر تورم في الوجه، واحمرار على الخدين، وحول الاعين. كما يشعر المصاب ان جسده ثقيل، وبعدم الراحة، وبآلام في الحلق والصدر، وبصعوبة في التنفس والسعال …

تمت ترجمة كتاب الرازي الى اللاتينية، والى العديد من اللغات الأوروبية، وظل مطلوبا حتى القرن التاسع عشر، فآخر ترجمة له من النص العربي الأصلي الى الانجليزية، كانت عام ١٨٤٨م عبر William Alexander Greenhill ، و اخر طباعة له كانت عام ١٨٧٥م.

توجد عدة روايات ضعيفة حول الجدري وتاريخه، فيقال ان المصريون القدماء، عرفوا الجدري، وذلك لوجود اثار لندبات على وجوه مومياوات ويعتبر هذا دليل على ان شكلا او أكثر من اشكال الجدري كانت موجودة في مصر منذ حوالي ٣٠٠٠ عام، ومن ثم انتقل الجدري الى الصين والهند عبر التجارة.

لم يكن للإغريق والرومان أي مصطلح أصلي للدلالة على الجدري، ويرجح بعض كتبة التاريخ، ان وباء أثينا في سنة ٤٣٠ق.م. ، كان ورائه الجدري، وان الطاعون الأنطوني الذي وقع في الإمبراطورية الرومانية، في ١٨٠ ق.م. - ١٦٥ ق.م. ، كان من الأرجح الجدري، وان طاعون قبرص، ٢٤٩م - ٢٦٢م، الذي انتشر في الإمبراطورية الرومانية، كان الجدري.

بالرغم من ان بعض كتبة التاريخ، يعتبرون ان الكثير من الأوبئة، على مر التاريخ، هي الجدري، فان السجلات الموجودة ليست مفصلة بشكل يسمح بهذا التشخيص.

عرف العرب التجدير، ومنهم انتقل الى الصين والهند بطبيعة التجارة. والتجدير هو عبارة عن اخذ مواد من مريض مصاب بالجدري، فمثلا تأخذ قشور الجدري المسحوقة والمجففة، او السوائل من البثور، وتنثر فوق انوف الاصحاء، او تفرك في خدوش سطحية مصنوعة على الجلد، لكي يصاب الشخص بجدري اقل حدة، وكانت هذه الطريقة فعالة في الحصول على وقاية من الجدري.

قام كل من الطبيبان Jacob Pylarini و Emanuale Timoni ، ببعث برسائل الى الجمعية الملكية في لندن في عام ١٧١٤م، من إسلامبول او القسطنطينية في السلطنة العثمانية، لتقديم هذه الطريقة ولكن تم اهمالها لأنها اعتبرت طريقة غير تقليدية.

بعد عشرون عام من ذلك، تم تجريب التجدير لأول مرة في انجلترا. ليدي ماري وورتلي مونتاغيو Lady Mary Wortley Montagu، عاشت في السلطنة العثمانية مع زوجها السفير البريطاني، حيث شهدت هنالك في عام ١٧١٦م لأول عملية التجدير، فقامت بتجدير ابنها بعد ذلك. عند عوتها الى إنكلترا عامان بعد ذلك، قامت بتجدير ابنتها خلال وباء للجدري، تحت اشراف الجمعية الملكية، وكانت العملية ناجحة.

هانز سلون Hans Sloane ، طبيب الملك وعضو الجمعية الملكية ، لعب دورا مهما في الترويج لهذه التقنية بعد ذلك ، وقامت اميرة ويلز بتلقيح ابناها بنجاح، ولكن انتشرت تقارير حول وفيات عشوائية مرتبطة بالتجدير، فحد الاقبال على هذه التقنية.

روج الكاتب الفرنسي فولتير ١٧٣٤م في Lettres philosophiques/Lettre 11/Sur l’insertion de la petite vérole ، ان تقنية التجدير اصلها من شركيسيا، وان الشركسيون كانوا يبيعون بنتاهم كحريم في السلطنة العثمانية، لذلك لجئوا الى هذه التقنية للحفاظ على جمال بناتهم، وان العثمانيون اخذوا هذه التقنية عنهم ، كما أضاف ان الشركسيون اخذوا هذه التقنية عن العرب.

أدى التجدير الى انتشار أفكار أخرى مماثلة، حيث كان من المعلوم ان من يصاب بجدري البقر، لا يصاب بالجدري، لذلك ما بين عام ١٧٧٤م و١٧٩١م، قام عدة اشخاص بمحاولة اكساب مناعة من الجدري، عبر التطعيم بجدري البقر، الموجود على ضرع البقرة.

اولى هذه المحاولات الموثقة، كانت على يد المزارع البريطاني بنيامين جيستي Benjamin Jesty، في سنة ١٧٧٤م، حيث استخدم ابرة لنقل المواد البثرية ، من بقرة مصابة بجدري البقر، الى امرئته و ابنيه الاثنين بخدش أذرعهم ، و تمت العملية بنجاح، و اكسبتهم بمناعة من الجدري. في عام ١٧٩١م، قام بيتر بليت Peter Plett، مدرس الماني، بإجراء مماثل، وفي عام ١٧٩٦م، قام إدوارد جينر بنفس العملية، و هكذا ولد التطعيم .